هوية بريس – ربيع السملالي من الملاحظات التي سجّلتها على معرض الكتاب بالدّار البيضاء هذه السّنة (2017م) كثرة الكتب التي كانت عبارة عن منشورات (فيسبوكية) جمعها أصحابها بين دِفاف الكتب بعدما أغرتهم بذلك كثرة (اللاّيكات)، والمجاملات المبالغ فيها، وكذلك بعض أصحاب دور النّشر الذين لا همّ لهم إلاّ اصطياد الكَتَبة والمدوّنين (الفيسبوكيين)، وليت هذا الاصطياد يكون دافعه اكتشاف أصحاب المواهب والأقلام الواعدة، وتقديمهم للقرّاء عن طريق طبع إنجازاتهم وإبداعاتهم إن كان لهم إبداع يستحقّ، لكن للأسف فهم لا يفكّرون بهذا الشّكل، بل يتركون الكاتب وخربشاته ويهتمّون بعدد متابعيه، وعدد الإعجابات على منشوراته، وكذلك تفاعل القرّاء معه، وهذا ميزان غير عادل لا يليق إلاّ بالجهلة وأهل الطّمع والجشع، ولا ينبغي أن يتورّط في هذه السّفاهة رجل يحترم نفسه فَتَحَ دارًا للنّشر.. لنشر العلم والأدب والثّقافة التي تخدم الإنسانية وتكون سببا في رقيّها. فما على المُخربش (الفيسبوكي) إلاّ أن يكتب رسالة قصيرة يزعم فيها أنّه كاتب (قدّ الدّنيا) وأنّ له أتباعًا ومريدين على صفحته العامرة (بالأسماء المستعارة والكائنات المجهولة)، وأنّه قد ملأ الفيس وشغل السّفهاء، وإرسالها إلى دار نشر (في الغالب تكون مصرية لا تردّ يد لامس) موضّحا فيها أنّ له كتابًا من ثلاثين أو أربعين صفحة يريد طبعه ونشره لتسفيد منه هذه الأمّة التي ترسف في أغلال الأمّية وتتعثّر في سلاسل الجهل، فلا يكلّف صاحب الدّار نفسه ولا لجنته (فهو ليست له لجنة، فهو لجنة بنفسه حتّى وإن كان لا يفرّق بين قام زيد، وزيد قائم) فقط يكتفي بالنّظر إلى صفحة هذا المخلوق، فإذا رأى منشوراته يتجاوز عدد إعجاباتها المئات فيردّ عليه بأدب ويطمئنه قائلا، كاتبنا الكبير قدّ اطّلعنا على إبداعاتك فوجدناك بحرًا لا تكدّره الدّلاء، وقد وافقنا على النّشر لك مقابل مائة نسخة عن كلّ ألف، وعلينا النّشر والتّوزيع وتصميم غلاف بألوان زاهية (تخدع أعين القارئ التّالف في معارض الكتاب)… ثمّ بعد يوم يعجّل له بالعقد لإمضائه هكذا: (إنّه في يوم كذا وكذا الموافق لكذا وكذا في مدينة كذا تمّ الاتّفاق (انظر إلى الكذب، إنّهم والله لم يلتقيا) بين كلّ من دار… ويمثّلها عمرو بن خروف، كونه مديرا للدّار، والأستاذ الكبير المبدع (جحش بن السّقاء) المصري الجنسية الحامل للبطاقة رقم….) إلخ إلخ. أمّا إذا كانت صفحته خالية الجوانب بلقعُ، فلن يردّ عليه صاحب الدّار إلاّ إذا عاود صاحبنا المبدع مراسلته مستوضحا قراره، وهنا يبدأ الخبيث في البكاء على الحالة المادّية كما بكى امرؤ القيس على الأطلال ذات يوم، قائلا له: إذا كنت تريد مساعدتنا في طبعه فنحن موافقون، ولك الرّبح مناصفة مع خمسين نسخة هدية عن كلّ ألف، وقُبلة طويلة من أرض الكِنانة المسلمة.. فيسيل لعاب صاحبنا، ولا يجد أدنى حرج في إعطائه ما يريد، المهمّ عنده أن يرى اسمه بارزًا بحروفه المتلألئة في غلاف كتاب وقد كُتب قبله: (المبدع الكبير جحش بن السّقاء)، وفي المعرض الدّولي للكتاب سينظّمون له حفل توقيع كبير وإشهار منقطع النّظير، فينتفخ هذا المبدع الفيسبوكي وتسرع إليه حُمرة الألق فينسى من هو معتقدًا نفسه طه حسين زمانه، أو نجيب محفوظ أوانه… وأنّه قد يُرشّح في السّنة المقبلة لجائزة نوبل اليهودية.. أمّا النّساء أو الصّبايا فتلك الطّامة الكبرى، فيكفيك أن تفتح أيّ كتاب من هذه الكتب الصّغيرة المعروضة بكثرة فوق موائد النّاشرين بأغلفتها المليئة بالصّور العارية لنساء مرسومات بأقلام ملوّنة، لتطالعك التّفاهة في أقبح صورها، ابتداءً بضعف اللّغة وركاكة الأسلوب، وانتهاء بسطحية المعاني التي لا تذكّرك إلا بحصّة الإنشاء في المستوى الخامس الابتدائي.. وقد صدق سفيان الثّوري حين قال: "إذا كثُر الملاّحون غرقتِ السّفينة". وفعلا فها قد غرقنا تفاهة في المعرض، فأصبحنا لا نجد الكتاب الذي يستحقّ القراءة إلا بشقّ الأنفس أمام كلّ هذا الرّكام من الكتب والعناوين الخدّاعة.. وبما أنّني لا أحبّ أن أتكلّم بلا شواهد ولا أدلة، كما لا أحبّ للقارئ أن يكون على غير بيّنة مما أقول أعرض عليكم نموذجًا مُصغّرا من كتاب صغير لصبية مراهقة عنوانه (جنّة جاهزة) طبعته دار الغاوون (وهم غاوون فعلا) (ص:46): (عندما تعصر ثديي، يولد طفل. ثدياي كبيران كثديي أمّي. بينما كانت أمّي تُسخّن الوقت، انقلبت القدر وسالت عليها المياه الحارقة، فارتمت في الفراش سجينة. ورحتُ أعبّئ جِراري من المتعة، كي أوفّرها لها من جديد..). ومن وقاحة هذه الصّبية وهذه الدّار، أنّهم جعلوا هذا الهراء في الغلاف الخلفي لكتابها (إن جاز لي أن أسمّيه كتابا).. وقالت أيضا في (ص:8): (في يوم ما، كنتُ ألهو أمام نهر في الطّرف الشّرقي من الأرض أرمي فيه الحجارة فتنفلش المياه على وجهي وتتحوّل إلى ذهب). أخبروني بربّكم هل هذا كلام يُطبع بين دفّتي كتاب أوراقه من النّوع الفاخر، ويُشترى بثمن نصف كيلو من اللّحم البقري، ثمّ أخبروني هل يجوز أن نسميّ صاحبته مبدعة وكاتبة وما إلى ذلك من ألقاب (الغاوون)… وقالت في (ص:34): (سأغادر عند الفجر دون أن يسمع خطاي أحد سأغادر مُرتدية مبذلا فضفاضا يحتفل بُعرّيي أكثر مما كانت تحتفل به يداك..).. فتأمّل… وهذا غبيّ آخر ألفّ كتابًا سماه ديوان شعر بعنوان: (خمسة خصوصي)، يقول في بعض إبداعاته التي لم يسبقه إليها إنسٌ ولا جان، لسان حاله (فبأي آلاء ربكما تكذّبان): (حلمُ حياتي… إنّي أصلّي بيكي أمام ف تقوليلي بلاش تطوّل والنّبي خلّص أوام). إنّه والله العفن كما يقول أحدُ أصدقائنا: بأيّ ذنب تُجزّ شجرة عظيمة النّفع لخلق الله، ليتّسخ وجه ورقةٍ منها -في نهاية الطاف- بمثل هذا الهراء؟.. إنّا لله.. إنّها محنة الأدب يا صاح، ومحنة الثّقافة، فحياتنا الأدبية كما يقول الدّكتور طه حسين: فيما يظهرُ من أمرها راكدة خامدة ما في ذلك شكّ، فقد أصبحت الكتبُ القيّمة نادرة يمرّ العام دون أن يظهرَ منها كتاب واحد فضلا عن كتابين أو ثلاثة كتب. والصّحف اليومية لا تكاد تحفل بالأدب، وقد تمرّ الأسابيعُ وقد تمرُّ الشّهور دون أن نقرأ في صحيفة يومية أو أسبوعية فصلا أدبيا ذا بال… ويقول في موضع آخر: أرجو أن نتعاون جميعًا على حماية الحياة الأدبية من آفاتها وإبرائها من عِللها، وعلى أن نردّ إلى الأدب شبابه القارح، فإنّ الأدب الذي يفقد شبابه لا خير فيه. [خصام ونقد ص: 5-13]. يقول هذا في زمانه الذي كان فيه كبارُ الرّواد، فكيف لو رأى هذا العصر الذي أصبحت فيه الكتب التّافهة من أكثر الكتب مبيعا.. بل أصبحت أكثر من القرّاء.. "يا خفافيش الأدب أغثيتم نفوسنا أغثى الله نفوسكم الضئيلة، لا هوادة بعد اليوم، السوط في اليد، وجلودكم لمثل هذا السوط قد خُلقت".. [عباس محمود العقاد – كتاب الديوان في الأدب والنقد]. وفي الختام يروقني أن أحيلكم على مقالة ساخرة للأديبة التونسية آمال مختار بعنوان: (أنا لا أكتب بل أتجمّل)، تجدونها في كتابي (زاد الأديب ص:98) تقول في آخرها: "سيدتي لماذا تشقين نفسكِ بكتابة مثل تلك الثّرثرة؟ ردّت متجاهلةً مصدر السّؤال: أنا لا أكتب بل أتجمّل. عندئذ أدركتُ أنّ ورمَ النّجومية الخبيث تمكّن منها تمامًا فرفعها عاليا، عاليًا في وهم غُرورها لتكونَ سقطتها في قعر بئر النّسيان سقطةَ الموت المحتوم". https://www.facebook.com/rabia.essamlali