الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.. وبعد.. فإن المصيبة حق المصيبة مصيبة الدين، ومهما بلغت مصائب النفوس والأعراض والأموال؛ فإنها لا تساوي أن تكون مصيبة العبد في دينه. وإننا اليوم وفي أيام قادمة ستشبه اليوم وأرجو ألا تفوقه= نحتاج إلى أن نذكر أنفسنا بما يربط على قلوبنا؛ فإننا قوم ضعاف ليس لنا إيمان السابقين الأولين، ولا يقين أولياء الله المتقين، وإن القلب ربما تُذهله نكبة فيمسي كافرًا بعد أن قد أصبح مؤمنًا، وإن رجلًا كان يُجاهد فأذهله البلاء وألمه عن ذراع يفصله عن الجنة، فاتكأ على حديدة فقتل نفسه، فهو في النار، فانظر رحمك الله أين أصبح وكيف بات، ثم سل الله أن يربط على قلبك ويثبتك. وإن من أعظم مداخل الشيطان على قلوب المؤمنين أن يُسخطهم أقدار ربهم، وإن أكثر العجز والشر يكون من شكوى الأقدار، وسؤال الله عما يفعل. إن المسلمين والناس كلهم في هذه الدنيا؛ لأنها دار بلاء، المصاب منهم مبتلى بالضراء، والمعافى منهم مبتلى بالرخاء ممتحن بالسراء، كلاهما في اختبار، والعدل الرباني لا يُنظر إليه من جهة كفة الدنيا فحسب بل ميزانه الدنيا والآخرة، فإذا أتيت على ربك يوم القيامة فلم تجده أعطى المحسن أجر إحسانه وزيادة، وعاقب الظالم المسيء بإساءته عذابًا مهينًا جزاءًا وفاقًا= ساعتها اسأل عن العدل الإلهي أين هو. وقد كان فيما قدره الله وقضاه في هذه الدنيا أن رأينا أراذل الخلق يقتلون الأنبياء. وجُعل قتل نبي كريم قربانًا يتقرب به ملك كافر لبغي فاجرة. وقد أخبرنا الله في قرآنه عن ملك لا يساوي فلسين، وهو يحفر الأخدود ليلقي فيه المؤمنين، ولم يتصارخ خيرة المؤمنين هؤلاء يتسخطون أقدار ربهم أن قد آمنا فكيف يتسلط علينا من يعذبنا فيحرقنا؟! ما يحدث ليس جديدًا أصلا، وإن الله لم يخدع الناس شيئًا، بل هو من حكى لنا أخبار البلاءات العظيمة التي وقعت بأوليائه، أفحسبتم أن تؤمنوا وأنتم لا تفتنون؟ على أي جوانبها تدور الرحى فإنها لا تدور إلا لتُلقي برأسك على عتبة مولاك، صابرًا على البلاء، شاكرًا على النعماء، مستغفرًا من الذنوب، مطيعًا مفتقرًا ترجو رضاه والجنة. وإن أعظم غيب آمنت به= غيبٌ تكون في شهادته راحةُ نفسك؛ فإنك إن صبرت على ألمِ الغيب وآمنت به، ورضيت أن تَبقى مؤمنًا به وهو غيب لم ترى شهادته بالنصر وعقوبة الظالم في الدنيا، رغم أن راحتك في شهادته وأن تنال العافية وتشتفي من ظالمك= كان لك من أجر المؤمنين بقدر صبرك وألمك، ما لا يكون لمن شهد هذا الغيب فأراه الله ما يشفي صدره في الدنيا ولو كان كل ظالم تأخذه صيحة تهلكه=لما كان ليوم الحساب معنى، ولا كان يبقى للصبر موضع، ولا كانت التوبة فضيلة يُجزى صاحبها الجنة. والمؤمن يجعل بين عينيه قول السحرة لفرعون لما آمنوا فعذبهم: اقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا. وقولهم: لا ضير إنا إلى ربنا لمنقلبون السحرة مع فرعون من أظهر نصوص الوحي في فهم طبيعة الابتلاء وميزان الخير والشر، فهذه الدنيا وما يكون فيها ليست معيارًا للخير والشر وليست ميدانًا لتحقيق العدل الإلهي أصلا. إن الله عز وجل يبتلي عباده ليرفع درجات الصابرين، ويزيد في عذاب الظالمين، ويمحص صف المؤمنين، ولتقام بهم الحجة على عذاب المجرم يوم القيامة فلا يشفق عليه أحد، ولا يعتذر عنه أحد، وليمتحن الله بهم أمثالنا من المؤمنين أيثبتون أم يستزلهم الشيطان فيكفروا. أما المبتلون= فغمسة في الجنة تنسي كل شقاء كأن لم يكن، يخلقهم الله خلقًا آخر هو ربهم وملكهم لولاه ما كانوا. وهو سبحانه ذكر لنا في محكم التنزيل خبر المؤمنين يلقون في أخدود النار، ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك موقفًا عظيمًا فيقول صلى الله عليه وسلم: ((جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام يا أم اصبري فإنك على الحق)). إن طائفة المؤمنين الذين أعد الله لهم جنات النعيم= يعلمون أن الدنيا وشرها كله يسير في مقابل جنة الخلد ونعيم لا يفنى، ونظرة إلى وجهه الكريم لا يبقى في النفس بعدها شيء غير النعيم تذكره. إن إلى ربك الرجعى.