لا يخفى ما يقع للمسافر من الانقطاع عن أسباب الإلف والأنس التي يعتادها بين أهله وذويه وأصحابه في موطنه، وما يلقاه بمجرد توديعهم من الوحشة وشدة الحاجة إلى ما يخفف عن روحه وَجْد الفَقْد، ويربط به على قلبه الذي أحالته دهشة الانقطاع فارغا. بيد أن المتأمل في دعاء السفر النبوي المأثور يجد أن قول الداعي: (اللهم أنت الصاحب في السفر) دال على معنى نفيس وفقه عظيم لا يدريه ولا ينتفع به إلا المسلم، وهو أن خير ما يلجأ إليه العبد في حال سفره بعد فقد ما ألف من أنس الأهل ودفء الأحباب والأصحاب: دخوله في إلف الله تعالى وأنسه مستيقنا أنه عز وجل نعم الصاحب، وأن عِوَضه مما يجد نعم العوض. وفيه فقه آخر أنفس، وهو أن في السفر ابتلاء للعبد وتمحيصا لتوحيده، يمتّن قاعدة التوكل والتفويض فيه: فلا يعلّق حاجته إلى أنس ربه وإلفه على الاضطرار، لا سيما وأن توليه له – بالنظر إلى تولي سواه – أكمل وأبقى. فإذا أبصر ذلك عرف اشتداد حاجته بين الفينة والأخرى إلى الفرار إلى ربه في حال الاختيار قبل حال الاضطرار، والانقطاع إليه في حال الأمن قبل الخوف، لئلا يركن إلى جِدَة السوى وأمنهم. وإنما دعاني إلى تسطير هذه الكلمات القليلات ما ذكرت من كلام إمامنا ابن العربي المعافري رحمه الله – في أثناء كلام له نقله الإمام الونشريسي في معياره تحت قوله تعالى: (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده)-، قال: (من أراد أن يوقن أن الله تعالى هو الفاعل وحده، ولا فاعل بعده، ويعلمَ أن الأسباب ضعيفة لا تعلق لمؤمن بها، ويتحققَ التوكل والتفويض، فليركب البحر)، (المعيار: 11). وصلته بما سطرتُ ظاهرة، ويزيدها ظهورا (ركوب الجو) الذي أجرى مناسبةَ هذه التدوينة الْيَوْمَ، إذ لو أدركه الإمام ابن العربي لضمه إلى ما مثل به، ولقدمه عليه. والله ولي التوفيق.