كنت في الحافلة أقرأ في كتابٍ عن دلالات الألفاظ.. لم أشعر حين توقفت الحافلة بسبب مرور موكب جنازة خارجا من المسجد في طريقه إلى تلك المحطة الأخيرة في رحلة الدنيا.. كان هذا الكتاب يطلب مني استحضار كل "الأرواح الشريرة" لفهم أبعاده.. فلم يترك لي مجالا لأهتم بالحركة السارية في الحافلة أو خارجها.. خاصةً ومحطتي هي الأخيرة.. يعني أقلُّها سيطردُني السائق إن لم أنزل.. لذلك كنت أغوص بأريحية.. ما جعلني أنتبهُ.. هو صوت سيدةٍ كانت تجلس خلفي.. وتقول -في خشوع وهيبة-: لا إله إلا الله.. "يااااارَبِّي تْكون معانا فالنَّوبة ديالْنا".. ثم أردفتْ لأحدهم: شوف مسكين هاداك مااااات.. شوفتي مسكين؟" جاء ردُّ طفلٍ صغيرٍ (لعلَّه ابن أربع سنين): "مَّامّا شكو مَيْتوُ؟" – "ماتْ بوحدو".. صمتَ قليلا.. ثم أعاد نفس السؤال.. كأنه لم يسمع جوابا… وفي كل مرة كانتْ أمُّهُ تكرر له: لقد مات المسكين.. وتتفادى تعيين الفاعل.. بالقدْر الذي كان اشتقاقُ الطفلِ للفعل جميلا ومبدعاً.. بقدر ما كان سؤاله مستفزا لعقلي.. تجلِّيات الفطرةِ البديعةِ وهي تتساءل عن الحادثِ لكلِّ مُحدَثٍ.. "مَّامّا شكو مَيْتوُ؟" أجل أين الفاعل في هذه النواميس المتناهية الدقة والإتقان؟ "مَّامّا شكو مَيْتوُ؟" إن "وحدَه" تبدو أشبه بكذبةٍ نسجها عقلٌ كسولٌ.. كيف يُقدر لنفسه الفناء بهذه الصورة؟ كيف يبدئ الخلق ويعجز أن يعيد؟ == سحقا لإلحاد العقول المضطربة في عمليات إنتاح الفكر حتى بقواعده البدائية.. "مَّامّا شكو مَيْتوُ؟" إمَّا أن تُحيط هذا الفعل قوةٌ متعاليةٌ عن كونِها مفعولا.. أو سيبقى السؤال معلقا مُلحّاً كما فعل بعقل هذا الصغير.. "مَّامّا شكو مَيْتوُ؟" هكذا يبدو جمال الفطرة وهي تشتق الأفعال من المفعولات لتصل إلى ذلك الفاعل الأول.. الذي أقرت به في الملكوت أول الخلق؛ لتلائم حقيقة ذلك التوحيد الصَّادحة في النفس.. == إنه الإيواء إلى الركن الشديد. أغلقتُ الكتاب الذي بين يديَّ في قنوعٍ تامٍّ إلى هذا العلم النابض بمعاني الجمال.. قبل أن يتزلّف بالفلسفات.. بينما ظل الطفل يردد السؤال حتى آخر محطة.. لذلك كنتُ دائما أتهرَّبُ من تدريس هؤلاء الصغار.. فأنا أجدهم فلاسفة عظماء.. سيُرْبِكون عليَّ جذاذة الدرس بأسئلتهم الملتصقة غاية الالتصاق بالوحي.