توقع العفريت كل أنواع المعاناة والشقاء في داخل هذا المكان الذي يطلق عليه إسم مدرسة المخزن , فقد سمع إبن عمته الأكبر وهو يروي في عجالة مشاهدته لأحد الأطفال وهو يتعرض للتحميلة .. لكن فكره وباله ما زال مشوشا خوفا أن تكون هذه المدرسة هي ذلك السجن الذي كثيرا ما كان يهدده به والده . سجن الأطفال الأحداث والمشاغبين أو كما كان يطلق عليه أهل طنجة " دار الدرقاوي ". لمحت عيناه بعض الأطفال بيد أمهاتهم وآبائهم. فسرقت الصورة مهجته وطارت بخياله إلى أحضان والدته .. تذكرها بشوق كبير فقد مرت ثلاث سنوات منذ رآها لآخر مرة . ولم ينتظر أن يستكمل صورتها بين عينيه حتى أسرع بسؤال والده - أبا علاش ما جاتشي ماما معانا - وشنو دخل يماك في الهضرة دابا .. ؟ غير ما جا على بالك .. ؟ سمعني مزيان هاذي هي المدرسة .. و هنا ما كاين لعب .. قدامك جوج طرقان غير إما تقرا وتنجح وإما ماش ندي باباك لدار الدرقاوي .. مع السراق والقتالا.. والله يا باباك وجاتني منك شي شكوة حتى نهبط باباك للسوطانو ( السرداب) مع الفيران والطاوبات. - واخا .. وعندوم الإستراحة فهاذ المدرسة بحال مدرسة بيرشي ..؟ ولكن فالمدرسة بيرشي ما كنعسوشي فيها ياك آبا ؟ كان كل هم العفريت هو التأكد أن الأمر هو مجرد مدرسة مثل كل المدارس ومثل كل أطفال الشعب المغربي.. ليفتح في ذهنه الصغير سؤال حول كيفية تفادي التحميلة وهو أمر إعتقد أنه يسهل تفاديه . بشرط أن تكون المحطة الليلية هي غرفة جدته الحنون.. كان كل خوفه أن يفارق العزيزة رقية كما حدث من قبل وهو في عمر الخامسة عندما نقلوه إلى مدرسة فرنسية ( مدرسة بيرشي ) واسكنوه عند ابنة خالة والده , الخالة أمينة , والتي شملته بحنوها هي وزوجها السي احمد. لكن عذاب فراق جدته وأمه في سنة واحدة كان أقوى من أن يتحمله طفل في الخامسة من العمر. مرت سنتان وهو يتنقل بين المحطات التربوية التعليمية فكان من اكثرها فكاهة وتسلية مرحلة المسيد ومن أعقدها وأكثرها إبهارا مرحلة المدرسة الفرنسية ولعل أقساها في نظره اليوم هي المدرسة المخزنية. - حتى هنا عاندكوم كولشي وراني شريتلك الحوايج درياضة وسبردينة غير قرا مزيان. و تسناني حتى نجي موراك فالوحدة والنص . كان التسجيل في المدارس سهلا يومها .. وكان يتم في نفس يوم الدخول المدرسي .. و كل شيء كان يكتب باليد وما أجملها خطوط معلمينا رحمهم الله أحياء أم أموات . كان الآباء يتركون فلذات أكبادهم بيد المعلم وهم يعلمون أن بالمدارس أشخاص جبلوا من معجون الإخلاص والشرف وحب الوطن. تظاهر العفريت وكأنه يحفظ النشيد الوطني وانطلق يتمتم بشفتيه بينما أطفال القسم الثاني والثالث يحيون العلم وقد بدت عليهم الخبرة والتعود .. خاف أن يفتضح أمره وهو يعتقد أن كل الأنظار متجهة إليهم .. فانزوى وراء ظهر طفل سمين مختبئا .. وفي لحظة البرق أحس بلعسة نارية على فخده الأيسر ولم تك سوى سوط المدير الذي كان يتفقد الصفوف وهو يصرخ بصوت جوهري - بنظام .. وانتظام .. الكل مستقيم أخرج العفريت الجزء الأول من كتاب إقرأ .. وكانت له بعض القدرة على القراءة فكان أول ما استهواه هو تهجي كلمة إقرأ ثم إسم السيد أحمد بوكماخ وفجأة تناهى إلى سمعه قرع قوي على السبورة - سنبدأ تعلم القراءة بحرب الباء .. قولوا معي باء - أساذ ( استاذ ) الفقيه الأقرع قالنا أول حرف هو الألف - صحيح ولكن مقرر الوزارة تيقول نبداو بحرف الباب قولو ورايا : بابا انطلق الأطفال ومعهم العفريت يرددون من وراءه - بابا , بوبي , ببابي . اما بابا فكانت لا تعني بالنسبة له سوى رعب واستنفار. فالعفريت لم يك بذلك الطفل الوديع السهل تربيته بل كان نسخة طبق الأصل لشكل العفاريت في أفعاله . كانت كلمة بابا لا تعني له سوى حصة محاسبة أو طريحة ضرب بسبب زجاج كسره أو جهاز راديو أخرج بطنه لمعرفة مصدر الصوت أو طفل طرق باب البيت وجبهته تنزف من حجر ضربه بها من أعلى السطح أو من فوق عروش شجرة التين العتيقة والتي كانت تحمل إسم الكرموسة الكبيرة. لكنه لم يشك أبدا في إحساسه بضرورة وجود هذا الأب في حياته .. كان ينتابه الخوف من مجرد ذكر إسمه وكان في نفس الوقت لا يتحمل مجرد التفكير في غيابه. وكأنه بحسه الفطري , وما يتناهى لمسمعه من حديث أبيه مع جدته , يدرك بكل يقين أن هذا الأب هو الرمز الأكبر لكل معاني القوة والسلطة ولا حياة بدون حمايته. - بابا بوبي ببابي أما بوبي فهو بالنسبة له صورة جاهزة لذلك الكلب المسكين الذي كان يدعى جاكس والذي كان العفريت يسرح به ويمرح في هضاب ومروج وأزقة حي بال فلوري , والذي كان يقع في ستسنيات القرن الماضي في أطراف الشمال الغربي لمدينة طنجة. كانت لجاكس مع العفريت قصة عمر ورفقة وشراكة في كل الجرائم التي كانا يقترفانها. وقد تحولت روايات بوبي والعفريت إلى قصص تسردها الجدة الحنون على طاولة العشاء لتنفس قليلا عما بداخلها من عناء تربية هذا العفريت بعد إفترق والداه وكتبت عليها محنة تربيته قدرا من السماء. - أنا ما ولدت هَم آوليدي.. ابلاوني بك انتا وهاذ الكلب ديالك الله يبليهم.. الله يخليها ماركا.. اليوم نقول لباباك يهزك عليا.. لا .. لا .. لا.. أنا مولدت هم الله يلعنها سلعة. تبارك الله. يماك لي ولداتك مريحا مع راسها؟!! و باباك كيلبس الكابا*(3) ديالو وكيخرج وانا كيخليوني نربلهوم الجنون. - وصافي آ العزيزة والله ما نعاود .. وحق لالا مكة ما نعاود - بعد من قبالتي ولا مشي نسوط على باباك بهاذ الطنجرة .. شكون لي كطيح عليه يربط الجرو فالكروسة ويدور به فالزناقي .. واش ماشي هاذي فعايل الجنون .؟ بلحاق والله لا بقات فيك صبر حتى يجي باباك ونوريك. تذكر عبارات وصراخ جدته من أعماله الشيطانية وهو يراجع قراءة كلمة بوبي وتوقف العفريت كثيرا عند معنى عبارة .. بابا بوبي ببابي هل هي إستغاثة بالأب لأن الكلب عند الباب .. ؟!! تفسير لم يقنعه المرة . فبوبي هو كلبه جاكس المتسخ و الوفي. وهو أعز ما يملك من أصدقاء منذ الطفولة الأولى - بابا بوبي ببابي .. ؟؟!! سرح بذهنه يبحث عن معنى آخر فربما تعني : بابا الكلب هرب .. أي بوبي بالباب يود الهروب .. !!؟؟ قد يكون التفسير مقنعا لو أن هذا البوبي هو كلب منزلي من فصيلة كلاب النصارى .. أي الذين يدخلون البيوت متى أرادوا ويفترشون أحسن المقاعد .. لكن صديقه جاكس كان يعيش حياة الكلاب بما تعنيه من معنى.. فلا يذكر أنه رآه يوما ما دخل البيت .. اللهم عندما يمد عنقه للجدة وهي تطبخ الطعام عند الباب الخلفي للبيت والذي كان يفتح على صحن الحديقة. حديقة متوحشة كانت هي بيت جاكس ومرتعه ومملكته التي يمرح فيها نهارا ويحرسها بإتقان ليلا كما لو كانت مهنة ورثها أبا عن جد.. كان الكلب المسكين يأكل من فتاة ما يفضل من طعام أهل البيت وأحيانا مجرد عظام لا تكاد تفتح شهيته . صعب عليه الفهم .. وانطلق يردد - بابا بوبي ببابي ببابي .. تلك كان فهمها أبسط . فكلمة الباب في مخيلته خليط من أحاسيس متنوعة .. فالباب كان دائما هو مركز إهتمامه منذ الوعي الأول .. وكان الباب هو ذلك المجهول ما وراءه. ولطالما تسلقه لبلوغ الزجاج العلوي ورؤية من الطارق .. فقد كانت مهمته في البيت يومها هي فتح الباب كان من كان الطارق. وكان هذا الباب رمز الحرية في خياله الصغير . وهو ذلك المنفذ حول مملكة بال فلوري الشاسعة. لكنه ظل كذلك رمزا ودلالة لسلطة البيت وشروط الإنضباط بداخله. فهم العفيرت أن عبارة بابا بوبي ببابي هي كلمات ركبت قسرا لكي يرددها هو وأقرانه دون أن فهمها . فهي أول درس من دروس الطاعة العمياء. انتهت حصة الصباح بفسحة قصيرة إلى بهو مدرسة طارق ابن زياد المختلطة .. استطاع خلالها العفريت الخروج من دائرة الخوف والخجل الذي تملكه عند دخول الفصل في الصباح .. وتمكن من جمع بعض المعلومات عن موقع المدرسة وعرف للتو أنها لا تبعد عن البحر سوي بعشرات الأمتار. البحر .. عشقه الأبدي .. وسارق قلبه ومهجته .. البحر .. وكيف لا يفرح أن مدرسته تقع على بعد أمتار قليلة من البحر وهو الفضاء والمتنفس الذي ستشهد رماله قصصا وحكايات لا تعد ولا تحصى يتبع .. إلى اللقاء غدا إستمع للحلقة الماضية بالصوت والصورة عبر يوتوب