أعزائي القراء قبل أن أختم هذه الحلقات المختصرة من سيرتي الذاتية أتمنى لكم عيدا سعيدا وأدعو الله أن يتقبل صيامكم ويثبت أجركم جميعا . "" قد يقول البعض لا تتوقف .. وقد يشدد آخرون على ضرورة الإستمرار في الكتابة وأنا لا أعارضهم ولكن صدقوني أن ما تحملهم لكم جريدة هسبريس بالتعاون مع قناة المهاجر سيكون أحسن وأهم بكثير مما قدمناه لكم في هذا الشهر العظيم .. فمرحلة الطفولة انتهت مختصرة في جزء أسميته بين (العصر والمغرب ) بين عصر عشناه نحن جيل الستينات ومغرب نصطحبه اليوم في قلوبنا برسم آخر ولون مختلف وطعم قد لا يجد البعض منا سهولة في تقبله. لكنني أحتفظ لكم بجزء آخر ليس أقل متعة وهو مرحلة المراهقة الأولى والشباب أسميته (محصول التيه) بينما أنا الآن بصدد كتابة الجزء الثالث ويحمل عنوان (الأخضر واليابس) وأتمنى أن ننشره كذلك يوما ما إذا كان في العمر بقية. أود أن أشكركم لأنه ما كان لهذا العمل أن يكتمل لولا إصراركم وتشجيعكم ولولا الجهد المتميز الذي يقوم به الزميل طه الحمدوشي والزميل خالد من أسرة هسبريس الغراء. واخيرا أهدي هذا العمل لروح والدتي وجدتي رحمهما الله. وإليكم أنتم ابطال هذه السلسلة كل حسب ما يختزنه من ذكريات لربما عجزت عن تصويرها لكنني على يقين انكم سرحت في فضاءها ورسمتم لوحاتها من مداد روحكم وطفولتكم التي سترافقكم كما ترافقني حتى آخر نفس. بين العصر والمغرب محمد سعيد الوافي واشنطن شهر رمضان يوليو سبتمبر 2009 جميع الحقوق محفوظة للمؤلف ************************************************************************* كان في حي فال فلوري فرنان أحدهما يسمى فران عْمروالآخر فران الحلوي. أما الأول فكان طيب القلب صعب المزاج قليل الكلام كثير الغضب إذا هاج أزبد كالبحر الوحش وإذا هدأ أكرم كالطائي المعطاء فيما كان الحلوي عكسه . رجلا محترفا قليل الكلام لكنه يسير بمخطط تجاري مرسوم بدقة ومفصل على مقاس الحي أهل واحتياجاتهم. وكنا نحن الصغارمن نقرر لمن سنحمل الصواني , نتخذ القرار رغم تشديد الأهل على هذا أو ذاك كل حسب آداءه وتجربتهم معه. كانت جدتي تفضل أن ترسل صواني حلويات العيد لفران الحلوي فيما كنت أفضل أن أذهب بها عند عمي عمر لأنه أرخص فكنت أقبض من الأهل سعر فرن عمي الحلوي وأدفع سعرا أقل لعمي عمر .. كما أن فرص التسلية بالقرب من فرن عمر كانت أكثر فالزقاق الذي يوجد به بعيد عن السيارات الأمر الذي كان يسهل علينا تنظيم مباريات ليلية للكرة .هههههه الكرة ؟؟؟ قولوا جوارب مربوطة أو بقايا كرة بلاستيك محشوة بالخرق والورق والتبن. - سمع والله يا باباك وجيبتيها محروقة حتى نحرقليك صبعانك.. ادي الحلوة لفران الحلوي .. سمعتيني ؟ - صافي آ العزيزة كوني هانية .. إن شاء الله ماش نعجبك - هاك ها الفلوس . ومشي دابا وطيحهوم باش يطرحليك باباك سنانك - وصافي . الإستعمار هذا؟ .. نحرق ليك صبعانك ! .. يطحلك سنانك ! ياك ما لقيتوني في الزبالة ؟! ابتسمت رحمها الله ثم ضمتني إلى صدرها فالتصق وجهي بطرف من عنقها العاري .. كان ثوبها مبللا من فرط العمل والتحضير وكانت رائحة ماء الزهر تنبعث منها ممزوجة بعرقها المعطر بالطهر والعطاء والتضحية والحنان.. ضمتني وسألتني في همس - فرحان غدا ماش تشوف ماماك - فوقاش ماش تجي توحاشتها ؟ آ العزيزة - إيوا هي ديما كتجي فالعشيا .. باش تبارك عليا .. بلحاق باباك ماش يديكوم عندها فالصباح كيف كل عيد - مزيان .. - شنو لي مزيان ؟ - لا . والو .. حيت أنا محتاج فالفلوس قبل الغدا - سير الله يمسخك آ الممسوخ .. عقلك غير مع التضويرة .. بعد مني أسرعت في حزم حذائي .. حذاء بالي مقطع من كل ركن وجنب احتار الإسكافيون وعباقرة طب التجميل في جمع شفاهه ولم شمل جلوده المتناثرة .. فلم يذكر والدي أنه رآني ألبس حذاء كما يشتهي لسبب بسيط انني كنت أمارس الإرهاب على الأحذية التي كان يقتطع ثمنها من سعر الطماطم والبطاطس والخبز اليومي ..و كان له صديق في مرتبة الأخ الشقيق يملك ورشة لصنع الأحذية .. فكان هذا العم رحمه الله يتولى مهمة الحضور إلى البيت في العشر الأواخر من شهر رمضان ويبدا في أخذ المقاسات لم يكن يسالنا عن نوع الحذاء أو لونه فالكلام في حضرة واسع علمه ممنوع .. كان يفصل ونحن نلبس وابي يدفع إذا سمحت له ظروف أجرته المتهالكة .. فيما كان هذا العم المسكين يتحمل الخسارة وهو يبتسم سعادة ونشوة. ********** - سمع آ مسخوط .. خلينا نعملو راسنا ماشيين عند فران الحلوي من الزنقا التحتانيا ونقلبو عند عمر باش ما تعيقش العزيزة راها حلفات عليا - مزيان .. باش يشبرونا في الزبالة ويوكلونا هاذ الحلوة عجينة.. آصحبي راه الف واحد حالف فينا تما .. - آ عبد الرحمن .. العواول كاملين مشغولين هذ ليام .. شكون إلي دها فيك .. وزيدون إلا قربو جبد الموس .. وعري على كتافك آ القمقوم ..شكون لي كيخاف دابا ؟ ههههههههه هاذي هي الرجلة كانت كلماتي كافية لتثير في نفسه ولعه بالتحدي بعد أدركت أنني بدات أتقن اللعب على أوتار عبد الرحمن ..كيف لا وهو زعيم عصابة العفاريت وساعدها المدمر وقوتها الضاربة .. كان حواري معه في ساعات الإنفراد يحولوني إلى عقل يبرمج ويتحول عبد الرحمن وهو مكره إلى مخرج لكل العمليات و وكم كنت أغضب لأنه كان يبالغ في القوة فيؤدي تهوره لمصير واحد لا شريك له هو الفلقة. وقفنا عند فران عمي عمر ( بتسكين العين ) كان الباب مكتضا بل كانت فرصة الوصول بصينية الحلوى إلى الداخل أمرا في قمة الإستحالة, صواني في طريقها إلى الخارج وأخرى تمتد فوق الرؤوس , لم يكن الفرن يتوفر على إنارة كهربائية فكان عمي عمر يضيء فرنه البسيط بلامبة (فانوس) مما كان يضفي عليه عتمة سحرية لا نراها اليوم سوى في المطاعم الفاخرة.. فهل كان عمي عمر رومانسيا في فاقته وفقره أم أن العصر كان رومانسيا بالفطرة ؟ تمكنا من تسليم كل الصواني عندما شارفت الساعة الثانية والنصف صباحا .. ولم نتمكن من وضعها في المراتب الأولى رغم محاولاتنا المستميتة ..لكننا تسللنا بين الأقدام ونجحنا في الوصول إلى الداخل وانخرطنا مع جيش المتطوعين , نساعد هذه العمة ونحمل صواني تلك الخالة ونمسك بيد تلك الجدة العجوز..ونحن نصيح بأعلى الأصوات مقلدين مستخدمي الأفران - فران عمي عمر المعقول والطياب على الجمر - فران عمي عمر لي زارو ما يتقهر - فران عمي عمر بحالو ما كاين في التحمار - سكوت آراس الحمار - الحمار وهو باباك .. عرف شكا تقول - أنا كنقول التحمار زعما كيحمر .. نبدأها نشيدا وننهيها ملاسنة فمعركة فحربا ضروسا ..فترتفع الأصوات ويكثر الضجيج فيحمل عمي عمر مطرحه ويبدا في هشنا كما البراغيث , كنا نعلم أن ضراباته لم تكن للمزاح أو التخويف فقد فطر الرجل عنيفا قليل الفطنة والتفكير - خرج عليا هاذ ولاد الحرام ولا ماش نقتل شي ولد ال......بة - ما تزبلش آ عمي عمار .. راك باقي ما زكيتي على صيامك - وراأني ماش نزكي بشي واحد منكم فهاذ بيت النار .. خرجو للعنق ديماكم ( يسب أعناق أمهاتنا وهو يقصدنا نحن ) نخرج ونحن نقلد لغته البدوية وهو في قمة الغضب والعرق يتصبب منه كالسيل فيضع خشبة كبيرة على مدخل الفرن ويدفع الجميع نحو الخارج ..فقد كانت فرصته السنوية التي ينتظرها ليعيد لنفسه الإعتبار .. فيومها كانت مهنة الفران في قعر التسلسل الإجتماعي رغم ضرورتها وحيويتها في مجتمع الخبز والشاي..فيومها لم يكن بالمنازل أفران غازية ولا مسخنات ماكروويف كان الخبز يخرج من النار وعبق الخشب يفوح منه .. كما هو الحال عيله اليوم في أرقى الأسواق الطبيعية حيث العودة للخشب والتطير من المأكولات الكيماوية أصبحت موضى العصر وضرورته بين الطبقات الميسورة .. تناثرت في أزقة بال فلوي وحول الفرن الأخشاب واللأحجار والدكاكين الرمضانية المتنقلة فقد ألقى الباعة الموسميون بكل فرشاتهم الرمضانية وتخلوا عن مساحات وحدود تملكوها طيلة شهر بوضع اليد .. هدات الحركة حول المسجد وخدام المسجد , فرمضان كان لهم شهر رواج وصدقات ورزق ولم يبقى لهم من يوم بعده سوى يوم العيد وايام الجمعة.. - صافي آ المساخيط .. رمضان تسالا .. ( إنتهى ) دابا لي عندو شي حساب يصفيه - وباقي آ البغل .. باقي العيد وثالث العيد .. - أنا غير كانقول زعما .. شي بنادم كايشوف فيا . ياكما بغاني نردلو الحساب المأخر.؟!! ( مهددا) - فرق الكارطا وسكوت .. الليل باقي طويل .. آرا ما نتحاسبو .. بنادم فيه غير الدقوم ( الدقوم في لغة أهل طنجة تعني الفم ) كان العربي يتحرش بحميد .. ومع عباراته أحسسنا أن رمضان بالفعل قد انتهى وعادت المشاحنة بين الأعداء ولاحت علامات الأيام العادية , أيام الملل ثم تخيلنا السكاري في أركان الحي المظلمة مع نهاية شهر التوبة.. كان مجرد التفكير في انتهاء شهر رمضان يعكر صفو مزاجنا فتتملكنا حالة من الإكتئاب القاسية لتتلاشى مع مرورالأيام والأسابيع فتهل علينا مناسبات أخرى ولكل منها طقوسه وعاداته. لم تطل مرحلة الإنتظار كثيرا لكننا مططناها قسريا إلى حين الإنتهاء من مبارة في كرة الجوارب ( القدم ) كان اللعب في الظلام ممتعا ومسليا لكنه موجعا وخطيرا فكم كنا نتلقى من ركلات لست أصدق أن لا أثر لها الآن وكأنها خاصمت رجولتنا وأبت إلا أن ترحل مع تلك الطفولة الصادقة. حملنا الصواني إلى البيت وكنا نعرج على ركن من سطح بيت عبد الرحمن فنضع على جانب محصول عملية السطو.. وكل أملنا أن تسير الأمور على خير .. كنا نختلف على عدد الحبات فقد كان عبد الرحمن شرها كريما وهو يسحب من صينية بيتي و مقترا محتاطا وهو يأخذ من صينية أسرته - شفتي انتينا والله ما راجل - آ سكت آ بنادم .. شكا تخور - علاش زعما كترون ( تبعثر ) الصينيات ديالنا وديالكم كتعدلوم مزيونين ؟ - باراكا من الشك .. راه حنا شوراكا زعما آ صحبي أدخلت الصينية الأولى والثانية على خير وسار الأمر كما خططنا له ثم أطلقت صفيرا من شباك المنزل فأجابني عبد الرحمن بمثله ففهمت أن أموره كذلك على مايرام .. كانت جدتي مشغولة في عمل الرغايف وقد تحلق أخواتي حولها وهن يحتسين كؤوس الشاي فحاولت الإندماج قليلا في جلستهم النسائية الحميمية لكن كما العادة كان الطرد نصيبي المحتوم .. فقد كن على يقين أن جلوسي لن يكون لوجه الله وإنما للسطو على تنتجنه من رغايف وكذلك حفاظا على معجون اللوز الذي كن يستعملنه لحشو العجين. - اليوم كيتسرحو مساكن - شكون هما آ العزيزة ؟ - خوتك الجنون .. سير جيب لي بقا .. باش تدخل تغسل طرافك راك وليتي بحال البوهالي دشطية .. - شكون هو البوهالي دشطية آ العزيزة .. ؟ - واحد كانو جنابو كياكلوه بزاف فحالك .. بلغت الفرن فسلمني العامل آخر صينية .. تسلمتها وانطلقت نحو البيت أجري كان الأمر سهلا في غاية السهولة فحلوة الكوكو تلتصق ومهما أسرعت لن تتساقط فقد تعودت على التعاطي مع الصينية دون أدنى حرج أو خوف .. دخلت البيت فكان الأسرة جالسة على مائدة السحور رغم أن الغد هو يوم عيد فقد كان والدي يصر على تناول آخر سحور .. ويدعو الله أن يعيده علينا باليمن والخير والبركات .. وكثيرا ما كان يشدد على أن يكون الجميع حاضر في آخر سحور رمضاني .. لسبب أدركته بعد أعوام فقد كان الحزن على فراق شهر الصيام عاما بين الصغار والكبار دون تمييز.