هوية بريس – احسان الفقيه بإمكانك أن تتجاوز المُقدّمة وتبدأ من العنوان الفرعيّ الأول ولكني أنصحك أن تقرأ كل شيء لتفهم أصل الحكاية وفصلها… بمعزل عن حُبّك لأردوغان أو كرهك له ولكل حزبٍ (بُعبع) تنسبه إليه… هنا بعض حقيقة الكيان الموازي في تركيا… أما قبل: الصياد يصطنع الصفير ليوقع طائرا يظنه من نوعه فيجيء للمصيدة والسكين.. اللئيم يسرق لغة الدراويش يتلو على البسطاء أسطورة عنهم ولستُ أجيد الاثنتين.. قلت سابقا كفّاي متحفّزان للتصفيق لمن ينتصر لفكرتي كليّا أو جزئيّا.. وذلك من حقّي.. أما بعد: "إذا كانت لك صلة بحركة غولن أو عملت معها أو تطوعتَ في أحد أنشطتها.. تتفتح لك الطرق في تركيا، وتحصل على أفضل الوظائف". هكذا تحدثت لصحيفة الشرق الأوسط عام 2007 "جوتشكه غل" تلك الشابة التركية التي كانت تشتكي من صعوبة الحصول على عمل جيد بعد تخرجها من الجامعة. لم تكن "جوتشكه غل" لتدرك أن فتح الله غولن العمود الفقري للإسلام الاجتماعي في تركيا، سوف يتهم بعد سنوات بتزعّمه للكيان الموازي، الذي اعتبر أخطر تهديدات واجهت حزب العدالة والتنمية على مدى 13 عاما. حلفاء الأمس أعداء اليوم فتح الله غولن الذي ورث التوجه الصوفي عن المفكر والداعية الإسلامي بديع الزمان النورسي، هو أحد أبرز الشخصيات المثيرة للجدل في تركيا، حافظ على مسار أستاذه في النأي عن السياسة والنفور منها طيلة عقود، إلا أنه وجد متنفسا للتوغل في عالمها عبر مؤسساته في ظل تولي حزب العدالة والتنمية إدارة شؤون البلاد. الجميع يرى أن نجم الدين أربكان هو أستاذ الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان، وأحد عناصر تكوينه السياسي، وفي المقابل يرون أن غولن هو الزعيم الروحي لأردوغان، وهو ما جعل أتباع غولن يدعمون أردوغان وحزبه في الانتخابات التركية التي وصل من خلالها إلى سدة الحكم. ودخل الطرفان في تحالف لمواجهة شبكة أرغينيكون ذات التوجه العلماني المتطرف المعروفة ب"الدولة العميقة". لندع هذا المشهد ونقفز إلى المشهد الحالي في تركيا، والذي باتت معالم الصراع فيه واضحة بين غولن وأردوغان، بعد أن أصبحت جماعة كولن دولة داخل الدولة، بما لها من توغل حقيقي وقوي داخل كافة مؤسسات الدولة من جيش وشرطة وقضاء وإعلام… وهذه حقيقة معروفة في تركيا، عبر عنها السفير الأمريكي في تركيا عام 2009 بقوله: "لم نجد شخصا واحدا يشكك في هذه الحقيقة". وعن اتساع حركة غولن وقوة نفوذها يقول "داني رودريك" الخبير الاقتصادي التركي وأستاذ العلوم الاجتماعية بمعهد الدراسات المتقدمة بجامعة برينستون الأمريكية: "يضمن نفوذ الحركة داخل السلطة القضائية عدم الطعن في تجاوزات أعضائها. ففي قضية جيدة التوثيق تم ضبط أحد ضباط الصف في قاعدة عسكرية وهو يزرع بتكليف من حركة غولِن بعض المستندات من أجل إحراج ضباط عسكريين. وسرعان ما وجد النائب العسكري الذي يحقق في هذه القضية نفسه في السجن باتهامات ملفقة، في حين أعيد الجاني إلى مركزه السابق". لقد وصلت ممارسات الحركة للعمل ضد حكومة حزب العدالة والتنمية إلى الحدّ الذي اقترب من شخص أردوغان حيث حاولت الحركة إسقاط رئيس استخبارات أردوغان وأمين سره، فضلا عن اتهام أردوغان للحركة بأنها وراء محاولة اغتيال ابنته، والتخطيط لاغتياله شخصيا. محطات الصراع ما بين المشهدين خلافات طفت على السطح، وأشعلت الصراع بين الجانبين، كان أبرزها حادث سفينة مرمرة، والتي هاجمتها قوات الاحتلال "الإسرائيلي" أثناء توجهها لكسر الحصار عن قطاع غزة، وقُتل خلال الاعتداء تسعة من الأتراك في مايو 2010.. وفي الوقت الذي صعَّد فيه أردوغان بطرد السفير "الإسرائيلي" في تركيا والاتجاه لقطع العلاقات مع الكيان الصهيوني، انبرى فتح الله غولن، لكي يلقي باللائمة على حكومة أردوغان، وأنه كان ينبغي الحصول على إذن من "إسرائيل"، معتبرا ذلك تجاوزا واعتداء على الشرعية. فالعلاقة مع "إسرائيل" وأمريكا هي أحد أهم مسائل الخلاف بين غولن وأرودغان، فالأول يرى أن الخلافات مع "إسرائيل" سوف تبعد تركيا عن التقارب مع أمريكا والغرب، وهو من المبادئ التي تأسست عليها حركة غولن، والتي تسعى للانفتاح على الغرب دون الشرق الأوسط، وهذا قطعا يعارض ما عليه أردوغان ونظامه، والذي يتحلل من التبعية الأمريكية ويتقارب مع الدول العربية ومنطقة الشرق الأوسط باعتبارها مجاله الحيوي، ويدعم القضية الفلسطينية عل حساب علاقته ب"إسرائيل". وكان من أبرز نقاط الصراع والتي تجلى فيها رغبة حركة غولن في إسقاط رموز أردوغان، محاولة الإطاحة برئيس الاستخبارات هاكان فيدان بعد إجرائه مفاوضات سرية مع قادة حزب العمال الكردستاني للتسوية السلمية لتكون بديلا عن الصراع بين الكردستاني وتركيا. فقام أتباع غولن بإبراز تلك المفاوضات وكشفها، ووجهوا إليه تهمة تجاوز الصلاحيات والتفاوض مع أعداء تركيا، بيد أن أردوغان قد أعلن أن فيدان لا يتحرك إلا بتعليمات مباشرة من الرئيس، وقام كذلك باستصدار قانون يحظر استدعاء رجال المخابرات دون موافقة الرئيس. وفي 17 ديسمبر 2013 شهدت تركيا عملية أمنية خطيرة وحملة اعتقالات استهدفت العديد من قيادات ورموز حكومة أردوغان بدعوى مكافحة الفساد، كان من ورائها الكيان الموازي الذي يقوده حركة كولن بالتحالف مع حزب الشعب الجمهوري الأتاتوركي. لم تتوقف الضربات التي وجهها الكيان الموازي الذي تقوده حركة كولن لنظام أردوغان، ففي فبراير الماضي كشفت صحيفة "صباح" عن قيام الكيان بتقديم رشوة مالية ل43 عضوا في الكونجرس الأمريكي للتنديد بالسياسة التركية وتشويه سمعتها واتهامها بمحاربة الديموقراطية. وفي فبراير نفسه اتهم رئيس الوزراء داود أوغلو حركة فولن بأنها تبعث برسائل إلى اللوبيات اليهودية والأرمنية والرومية للتعاون معه ضد تركيا. فالذي يظهر بما لا يدع مجالا للشك، أن الحركة تسعى لإسقاط نظام أردوغان مستغلة نفوذها وتوغلها في مؤسسات الدولة وعلاقاتها الخارجية بالغرب الذي يجد لها ارتياحا بالغا. وقد أكد الخبير الألماني في شؤون تركيا، الدكتور غونتر زويفرت عن تلك الرغبة في إسقاط الحكومة بقوله: "المحسوبون على هذه الحركة لهم حاليا سياستهم الخاصة القائمة بذاتها في كلّ من الإدارات والشرطة وكذلك أيضًا في القضاء والجيش ووزارة الداخلية. وتهدف هذه السياسة في المقام الأول إلى إضعاف الحكومة وزعزعة استقرارها". تناقضات كولن لقد وقع فتح الله غولن أو أوقع نفسه في تناقضات عديدة عمّقت من القول بأن المُهيمن على كل مسار حركته هو الرغبة في إسقاط الحكومة. فعلى سبيل المثال: كانت الحركة قبل عهد العدالة والتنمية تنأى عن الإسلام السياسي، لدرجة أن غولن قد رفض دعم الأستاذ نجم الدين أربكان ذي التوجه الإسلامي، وقام في الوقت نفسه بدعم حزب اليسار الديموقراطي الذي يتزعمه بولنت أجاويد بالإضافة إلى دعمه لحزب الوطن بزعامة أوزال. ثم ها هي حركة غولن قد أسست حزب التقدم الديموقراطي، بالمنشقين من صفوف الحزب الحاكم من أتباع غولن، إلا أن الحزب باء بالفشل. وقد عبر الكاتب التركي إسماعيل ياشا عن هذا التحول في الممارسة السياسية وتداعياته بقوله: "كانت الجماعة تقول أعوذ بالله من السياسة، وأما اليوم فالسياسة تقول أعوذ بالله من الجماعة". * ظهر التناقض لدى حركة كولن خلال الزوبعة التي أثارتها تجاه قيام الحكومة التركية بإغلاق مؤسسات تعليمية تابعة للحركة، مع أن غولن قد عرض على الانقلابيين عام 1997 تسليم كل المراكز والمؤسسات التعليمية التابعة للجماعة. وظهر التناقض لدى غولن، خلال موقفه من حادثة مرمرة وإلقائه باللائمة على حكومة تركيا وأنه كان ينبغي أن تحصل على إذن "إسرائيل" والتنسيق معهم واعترض بقوة على سياسة الحكومة تجاه فك الحصار، رغم أنه في السابق كان يؤكد على مبدأ عدم الخروج على السلطة الحاكمة، ومن ذلك أنه لم ينتقد تدخل الجيش في إجبار رئيس الوزراء السابق "نجم الدين أربكان" على الاستقالة في فبراير عام 1997، في سياق أحداث عملية 28 فبراير. * فالحاصل أن حركة غولن كما تتحدث الأوساط التركية، تسعى للسيطرة على السلطة عبر توغلها في مؤسسات الدولة، وهو ما كانت تعمل له منذ سنين، غير أن الحكومة التركية قد تنبهت مؤخرا لخطورة الحركة وتسعى لتجفيف منابعها وتحجيم دورها المؤسسي. وأرى من وجهة نظري أن حركة غولن لم تصل إلى هذا النفوذ وهذا التوغل في مؤسسات الدولة إلا عبر المدارس الخاصة التي تُعتبر مصنعا لإعداد الكوادر التي تأخذ مكانها في تلك المؤسسات. ولكن هذا مقام آخر… لنا معه حديث آخر.