"الحملات النّورية على مصر" كان تحرير وضم مصر من أهم إنجازات السلطان نور الدين زنكي (رحمه الله) في إطار عملية توحيد البلاد الإسلامية تحت قيادة واحدة، وإكمال مشروع والده في التحرير، فقد تمكَّن من إسقاط الدولة الفاطمية بعد مجموعة من الحملات العسكرية والخطط الإستراتيجية، نظراً لما سببته تلك الدولة في مصر من فساد سياسي، وخلل عقائدي في أنحاء العالم الإسلامي لأكثر من قرنين، فهي التي أعانت الصليبيين على احتلال بلاد الشام بتحالفها معهم، وهي التي تبنَّت المذهب الشيعي ونشرته في البلاد التي استولت عليها، وضيقت الخناق على المسلمين السنة في مصر والشام، وعندما سادت الفوضى في إدارة الحكم فيها، وتحكم الوزراء الفاسدين بالأمر دون خلفائها، طمع الصليبيون بغزو مصر، فهاجموها المرَّة تلو المرَّة، وعندها جرد نور الدين محمود حملاته العسكرية لتخليص مصر من مطامعهم، ولإعادة أرض الكنانة إلى منهج أهل السنَّة والجماعة، وجمع كلمة المسلمين في دولة قوية واحدة. أولاً: دوافع الحملات النورية، وضم مصر الدافع الأول: حالة الفوضى التي سادت مصر آخر أيامها، فقد أصبحت الدولة تعاني كثيراً من مظاهر الانحلال، والفساد، فضعفت الدولة، وسادت الفوضى في البلاد، ومن أواخر هذا الصراع خروج شاور من مصر، بعد أن طرده «ضرغام»، ومن ثمَّ استنجاده بنور الدين محمود، الذي وجد الفرصة مواتيةً لتوحيد الوحدة الإسلامية في بلاد الشام، ومصر. الدافع الثاني: إنَّ مطامع الصليبيين شجَّعت القائد المجاهد نور الدين على التفكير جدياً بضم مصر إلى الجبهة الإسلامية، كما أن تلقيه العهد من الخليفة العباسي بإطلاق يده في بلاد الشام ومصر عام 549ه، شدَّ من عزيمته لإتمام هذا الفتح والتوحيد. الدافع الثالث: العامل العقائدي، فقد كانت دولة باطنية المعتقد، إسماعيلية المذهب، فرَّقت وحدة المسلمين، وتآمرت مراراً مع أعدائهم. فكان لا بدَّ من إقامة وحدة قوية في عقيدتها، شرعية في توجهها في مصر والشام، تكون تابعة للخلافة العباسية في بغداد (مصر والشام في عهد الأيوبييين والمماليك، سعيد عاشور، ص13). ثانياً: الحملة النورية الأولى على مصر قرر نور الدين محمود زنكي إرسال حملة عسكرية إلى مصر، بقيادة أسد الدين شيركوه لتحقيق هدفين هما: الوقوف عن كثب على أوضاع مصر الداخلية تمهيداً لضمها وبخاصة أن شاور وعده إن هو عاد إلى منصبه، سيتحمّل نفقات الحملة ويؤمن إقامة أسد الدين شيركوه وجنده في مصر، وإعادة شاور الوزير الفاطمي المخلوع إلى منصبه. علم ضرغام بالاستعدادات التي تجري في دمشق لتجهيز حملة لمساعدة شاور، فاحتاط للأمر واستنجد بعموري الأول في بيت المقدس، في محاولة منه للدخول في لعبة توازن القوى، وعقد معه اتفاقاً لمساعدته ضد نور الدين محمود، وتعهد له، بالمقابل أن يدفع جزية سنوية يقررها الملك، كما وافق على أن تدخل مصر في تبعية لمملكة بيت المقدس الصليبية آنذاك، وأجبر الخليفة الفاطمي العاضد على توقيع هذا الاتفاق، وكان طبيعياً أن يقبل عموري الأول هذا العرض الذي سيتيح له فرصة لا تُعوض لدخول مصر، وهو الأمل الذي سعى إليه الصليبيون، منذ أكثر من نصف قرن، فأعد حملة عسكرية من أجل الزحف على مصر، وخرج أسد الدين شيركوه على رأس حملته في جمادى الآخرة 559ه/ إبريل 1164م، بصحبة ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب، الذي كان يناهز السابعة والعشرين من عمره، وسار على الطريق المحدد للحملة، والذي يمر عبر أراضي يسيطر عليها الصليبيون، وحتى يصرف أنظارهم عن التعرض للحملة، وتأميناً لحياة أفرادها تصرف نور الدين محمود على محورين: المحور الأول: أنه رافق الحملة بجيشه إلى ما يلي دمشق للحيلولة دون التعرض لأفرادها. المحور الثاني: فراح يهاجم الأطراف الشمالية لمملكة بيت المقدس المجاورة لدمشق لتحويل أنطار الصليبيين عن مصر (تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام، محمد سهيل طقوش، ص328). وسار أسد الدين شيركوه على رأس جيشه الكثيف عبر الصحراء؛ بصحبة شاور، فعبر الكرك، ومر بالشوبك، ثم أيلة، فالسويس، ومنها إلى القاهرة، وقد بلغ من السرعة في سيره أنه أجتاز برزخ السويس قبل أن يستعد الصليبيون للتدخل، فأرسل ضرغام قوة عسكرية بقيادة أخ له يُدعى ناصر الدين للتصدي لزحفه، وقد أسفر لقاء الطرفين في بلبيس عن انتصار واضح لأسد الدين شيركوه، وتراجع ناصر الدين مهزوماً إلى القاهرة، فطارده أسد الدين شيركوه، ووصل في أواخر جمادى الآخرة إلى العاصمة المصرية، فخرج إليه ضرغام بكل ما يملك من قوة؛ لإدراكه بأن هذه المعركة هي معركته الأخيرة، وجرى اللقاء تحت أسوار القاهرة، اتسمت المعركة بالعنف، وانتهت بانتصار أسد الدين شيركوه بعد أن تخلى الجيش والناس والخليفة عن ضرغام، وقُتل أثناء محاولته الفرار قرب مشهد السيدة نفيسة (المزعوم) في رجب 559ه/ يونيو 1164م، كما قتل أخوه ناصر الدين، ودخل أسد الدين شيركوه القاهرة منتصراً، وأعاد شاور إلى منصبه في الوزارة، ثم أقام معسكره خارجها، وبعد أن ضمن شاور عودته إلى منصب الوزارة، عاد إلى طبيعته التي اتصف بها في التآمر والمكر والخداع، ليدخل في صراع جديد مع أسد الدين شيركوه، فأساء معاملة الناس، وتناسى وعوده لنور الدين محمود، بل سرعان ما ظهرت عليه إمارات الغدر، فنقض اتفاقيته معه، وطلب من شيركوه الخروج من مصر، وأن يعود فوراً مع قواته إلى بلاد الشام، لكن هذا الأخير رفض الاستجابة لطلبه، ورد على موقفه المتقلب، فسارع إلى الاستيلاء على بلبيس، وحكم البلاد الشرقية. ولم يُسَعْ شاور إلا أن يستنجد بالملك الصليبي عموري الأول، والذي كان يتأهب للزحف على مصر، وأخذ يخوفه من نور الدين محمود، وعرض عليه أن يؤدي له مبلغ ألف دينار عن كل مرحلة من مراحل الرحلة من بيت المقدس إلى نهر النيل البالغ عددها سبعاً وعشرين مرحلة، ومنح هدية لكل من يصحبه من فرسان الاسبتارية، هذا بالإضافة إلى التكفل بنفقات علف أفراسهم، وهكذا انغمس شاور في اللعبة السياسية بين الأعداء الكبار، محاولاً بذلك إثارتهم لمصلحته الخاصة، ولاشك بأن عموري كان يراقب تطورات المشهد السياسي والعسكري في مصر، فلما علم بزحف أسد الدين شيركوه ازدادت مخاوفه، ولما وصلت إليه دعوة شاور رحب بها، وبذلك لم يضيع الفرصة عليه لدخول مصر، وإن اختلف الحليف، الأمر الذي لا يهمه في شيء فكل ما يعنيه هو دخول مصر. ثالثاً: حملة عموري الثانية (الصليبية) على مصر فشلت حملة عموري الأولى على مصر، واضطر إلى الانسحاب، والعودة إلى بيت المقدس، وكانت في عام 558ه/ 1163م، وعندما أتيحت الفرصة مرة أخرى لدخول مصر، بادر عموري الأول فور تلقيه دعوة شاور، إلى عقد مجلس في بيت المقدس، حضره بارونات المملكة، وقرّر فيه تلبية دعوة شاور بعد أن أوضح للمجلس أن في قدرته تجهيز حملة لغزو مصر دون أن يُضعف من دفاعات المملكة، وأسرع ملك بيت المقدس بالزحف إلى مصر على رأس قواته للمرة الثانية في رمضان 559ه/ أغسطس 1164م، واتصل فور وصوله إلى فاقوس بشاور، واتفقا على حصار أسد الدين شيركوه في بلبيس، وصمد هذا الحصن للحصار مدة ثلاثة أشهر، دافع أسد الدين شيركوه خلالها عن مواقعه (تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام، مرجع سابق، ص331). وفجأة، قرّر عموري الأول الدخول في مفاوضات معه للجلاء المزدوج عن مصر، وهنا تبرز عبقرية نور الدين العسكرية، وقيادته الفذة، فقد تلقَى عموري الأول أنباء مزعجة من بلاد الشام، بتعرض ممتلكاته لضغط من نور الدين محمود، ففضّل العودة للدفاع عنها، وأدرك في الوقت نفسه أن حملته محكوم عليها بالفشل، في ظل تحصن أسد الدين شيركوه في بلبيس، وكان موقف أسد الدين شيركوه صعباً أيضاً، فالمؤن بدأت في النفاد، فضلاً عن تفوق القوات الصليبية – الفاطمية المشتركة في العدد، وأن الوضع العسكري ليس في صالحه، ولذلك قبل الدخول في مفاوضات من أجل الجلاء عن مصر. وفعلاً، تم الاتفاق بين الرجلين على الخروج من مصر في شهر ذي الحجة عام 559ه، وسار الجيشان الإسلامي والصليبي في طريقين متوازيين، عبر شبه جزيرة سيناء، بعد أن تركا شاور يسيطر على مقاليد الحكم، وكان شيركوه آخر من غادر البلاد للحاق بجيشه، وكان شاور الفائز الحقيقي في هذا الصراع الذي انتهى لمصلحته، فتخلص من الجيوش الإسلامية الشامية والصليبية على السواء، كما تخلص من ضرغام، وأضحى طوال العامين التاليين صاحب الأمر والنهي، والمتحكم في مقاليد البلاد، ووضع أسد الدين شيركوه نفسه بعد عودته من مصر تحت تصرف نور الدين محمود، وأصبحت مصر محور تفكير أسد الدين شيركوه وحديثه في مجالسه، ومحور أفكاره. وعلى الرغم من أن حملة أسد الدين شيركوه لم تحقق أهدافها في مصر إلا أن النتيجة النهائية هي أن أملاك نور الدين محمود، قد تدعمت في بلاد الشام، وارتفع شأنه في العالم الإسلامي، بينما تقلصت أملاك الصليبيين إلى الساحل، واستبد اليأس بهم. ومهما يكن من أمر فقد غادر كل من شيركوه وعموري الأول أرض مصر، وقد وقف كل منهما على أوضاعها السياسية المتردية وسوء أحوالها الاقتصادية، بالإضافة إلى ما تمتع به من ثروة وفيرة وموارد بشرية هائلة ترجح كفة من يضع يده عليها، وانتهز شاور فرصة خروجهما فعاد إلى سيرته الأولى؛ يظلم ويقتل، ويصادر أموال الناس، بحيث لم يبق للخليفة الفاطمي العاضد معه أمر ولا نهي، ولما ثقلت وطأته عليه، كتب إلى نور الدين محمود يستنجد به ليخلصه منه (النجوم الزاهرة، ابن تغري بردي، م5/ ص348). رابعاً: الحملة النورية الثانية على مصر أعد نور الدين زنكي القوات اللازمة، وأرسلها إلى مصر في ربيع الأول 562ه/ يناير 1167م، بقيادة أسد الدين شيركوه، وصحبة ابن أخيه القائد صلاح الدين، وسيّر معه جماعة من الأمراء، وبلغ تعداد هذه القوات ألفي فارس، ورافقه نور الدين حتى أطراف الشام، خوفاً من تعرض الصليبيين له، وسار أفراد الحملة في طريق محفوفة بالأخطار، فالصليبيون الذين كانوا على طريقهم رابضين في الكرك والشوبك، قد ينقضُون عليهم، وينكلون بهم، وهم بعيدون عن مناطقهم، والبدو يلاحقونهم وينقلون أخبارهم إلى الصليبيين، وكان عليهم أن يغيروا طريق سيرهم أحيانا للتخفي، كما عرقلت الطبيعة زحفهم، إذ أن عاصفة رملية عنيفة هبّت عليهم، وقضت على عدد من الرجال وبعض الزاد، وعلى الرغم من ذلك واصلوا رحلتهم إلى مصر، وتوافر لشاور من الوقت ما جعله يستنجد مجدّدا بعموري الأول، إذ أيقن من استقراء الأحداث، أن أسد الدين شيركوه إذا قدم إلى مصر هذه المرة، فإنه سوف يبقى فيها ولا يغادرها لذلك فإنه لم يتوان عن الاتصال بملك بيت المقدس والتفاوض معه، موضحاً له الخطر الذي يمثله نور الدين محمود على تملكة بيت المقدس لو نجح في امتلاك مصر. وقد رحّب عموري الأول بدعوة شاور طمعاً في امتلاك مصر، وإبعاد جيوش نور الدين محمود عنها، حتى لا يتمكن من تطويق مملكته التي ستصبح في وسط ممتلكات نور الدين محمود (مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، محمد المازني، م1/ ص149). وقبل أن تستكمل الاستعدادات، وردت الأنباء بأن أسد الدين شيركوه يجتاز صحراء سيناء، فلم يسع عموري الأول إلا أن يرسل ما تيسر الحصول عليه من الجند لعرقلة تقدمه، غير أن هذا التدبير جاء متأخراً، وعلى الرغم من أن جيش أسد الدين شيركوه تعرض لعاصفة رملية عرقلت تقدمه، وكادت تقضي على قواته، فإنه وصل سالماً إلى برزخ السويس في شهر ربيع الآخر 562ه، وعلم أسد الدين شيركوه بأن جيشاً صليبياً شرع في الزحف باتجاه مصر، عندئذ اجتاز الصحراء باتجاه الجنوب الغربي، ليتفادى مواجهة مبكرة مع الصليبيين، حتى بلغ نهر النيل عند أطفيح على مسافة أربعين ميلاً جنوبي القاهرة، ثم عبر إلى الضفة الغربية، والتزمها في سيره حتى وصل إلى الجيزة، وعسكر بمواجهة الفسطاط، وتصرف في مصر الغربية، وحكمها نيفاً وخمسين يوماً (الكامل في التاريخ، ابن الأثير، ص344). خامساً: حملة عموري الثالثة على مصر خرج عموري الأول بقواته من بيت المقدس في ربيع الأول عام 562ه/ يناير1167م، متوجهاً إلى مصر في الحملة الثالثة على هذا البلد، واجتاز الطريق المألوف من غزة إلى العريش، ثم اخترق الصحراء إلى بلبيس، وارتاع شاور من ظهوره المفاجئ، وساوره القلق لعدم التنسيق معه، ويبدو أنه لم يكن على علم بوصول شيركوه إلى أطفيح، ولم يطمئن إلا عندما أرسل كشافته إلى الصحراء للوقوف على حقيقة الوضع، وعندئذ خرج لاستقبال الملك الصليبي، والتقى به، وأنزله عموري الأول في معسكره على الضفة الشرقية لنهر النيل على مسافة ميل واحد من أسوار القاهرة، وأجرى مع شاور مباحثات، تعهد شاور خلالها بأن يدفع أربعمائة ألف دينار، مقابل طرد أسد الدين شيركوه من مصر، على أن يجري دفع نصف هذا المبلغ على الفور، ثم يبذل النصف الآخر فيما بعد، واشترط أن يُقسم عموري الأول على هذا، ولدعم هذه الاتفاقية وإعطائها صيغة رسمية، أرسل عموري الأول كلاً من هيوه سيد قسارية، وجفري مقدم فرسان الداوية، إلى الخليفة الفاطمي للحصول منه على الموافقة الرسمية عليها، فاستُقبل الرسولان استقبالا حافلاً في القصر الفاطمي، وتم التصديق على المعاهدة، وكان من الطبيعي أن يرحب الصليبيون بهذه الاتفاقية التي تجعل منهم حماة لمصر والخلافة الفاطمية، وتُبعد أسد الدين شيركوه، بوصفه المنافس الوحيد لهم في السيطرة على هذا البلد (صلاح الدين الايوبي، علي الصلابي، ص171). معركة البَابين: كان أسد الدين، والعسكر النوري، قد ساروا إلى الصّعيد، فبلغوا مكاناً يُعرف بالبَابين، وسارت العساكر الفاطمية والصليبية وراءهم، فأدركوهم به في الخامس والعشرين من جمادى الأولى 562ه، وكان قد أرسل إليهم جواسيس، فعادوا، وأخبروه بكثرة عدّدهم وعدتهم، وجدّهم في طلبه، فعزم على لقائهم وقتالهم، وأن تحكم السيوف بينه وبينهم، إلا أنه خاف من أصحابه أن تضعف نفوسهم عن الثبات في هذا المقام الخطير الذي عطبهم فيه أقرب من السّلامة؛ لقلة عددهم وبعدهم عن بلادهم، فاستشارهم، فكلهم أشار عليه بعبور النيل إلى الجانب الشرقي، والعودة إلى الشّام، وقالوا له: إن نحن انهزمنا، وهو الذي لا شك فيه، فإلى أين نلتجئ؟ وبمن نحتمي؟ وكل من في هذه الديار من جندي وعامي وفلاح عدو لنا، ويوّدُون لو شربوا دماءنا، فاجتمعت الكلمة على اللقاء، فأقام بمكانه حتى أدركه جيش الفاطميين والصليبيين، وهو على تعبئة، وهنا برزت حنكة أسد الدين شيركوه، وخبرته العسكرية، فقد جعل الأثقال في القلب يستكثر بها، ولأنه لا يمكنه أن يتركها بمكان آخر فينهبها أهل البلاد، ثم إنه جعل صلاح الدين ابن أخيه في القلب، واختار من شجعان أصحابه جمعاً يثق إليهم، ويعرف صبرهم وشجاعتهم، ووقف بهم في الميمنة، فلما تقابلت الطائفتان فعل الفرنج ما ذكره أسد الدين وحملوا على القلب ظنا منهم أنه فيه، فقاتلهم من به قتالا يسيراً ثم انهزموا بين أيديهم، فتبعوهم، فحمل حينئذ أسد الدين فيمن معه على من تخلف من الفرنج الذين حملوا على القلب، من المصريين والفرنج، فهزمهم ووضع السيف فيهم، فأثخن، وأكثر القتل والأسر، وانهزم الباقون، فلما عاد الصليبيون من أثر المنهزمين الذين كانوا في القلب رأوا مكان المعركة من أصحابهم بَلقعا ليس بها منهم ديّار، فانهزموا أيضاً، وكان هذا من أعجب ما يؤْرّخ: أن ألفي فارس تهزم عساكر مصر وفرنج الساحل (الروضتين في أخبار الدولتين، شهاب المقدسي، م2، ص13). حصار الإسكندرية بعد ذلك، سار أسد الدين إلى ثغر الإسكندرية، وجبى ما في طريقها من القرى من الأموال، ووصل إلى الإسكندرية، فتسلمها من غير قتال، إذ سلمّها أهلها إليه، فاستناب عليها ابن أخيه صلاح الدّين، وعاد إلى الصّعيد، وتَملكّه، وجبى أمواله، وأقام به، حتى صام رمضان، وأما المصريون والصليبيون، فإنهم عادوا إلى القاهرة، وجمعوا أصحابهم، وأقاموا عرض من قل منهم، واستكثروا، وحشدوا، وساروا إلى الإسكندرية، وبها صلاح الدين في عسكر يمنعونها منهم، وقد أعانهم أهلها خوفاً من الفرنج، فاشتد الحصار، وقَلّ الطعام بالبلد، فصبر أهله على ذلك ثم إن أسد الدين سار من الصعيد نحوهم، وكان شاور قد أفسد بعض من معه من التركمان، ووصله رسل المصريين والصليبيين يطلبون الصّلح. المفاوضات النورية – الصليبية جرت المفاوضات النورية – الصليبية، بشأن الجلاء عن مصر، وبعد مفاوضات بين الطرفين، تم عقد الاتفاق على خروج القوات النورية والصليبية من مصر، وتبادل الأسرى، إضافة لتعهد شاور بألا يُعاقب رعاياه في الإسكندرية، وفي غيرها من الجهات الذين ساندوا أسد الدين شيركوه. ومهما يكن من أمر، فقد دخل عموري الأول مدينة الإسكندرية في شهر شوال من ذلك العام، في حين غادرها صلاح الدين في موكب عسكري حافل على الرغم مما أصاب السكان من ضيق لرحيله، والتقى الرجلان وأعجب كل منهما بالآخر، حتى قام ملك بيت المقدس، بإمداد صلاح الدين ببعض المراكب لنقل الجرحى المسلمين إلى بلاد الشام، على أن متاعب السكان لم تنته، فلم يكد أتباع شاور، يدخلون المدينة حتى ألقوا القبض على كل من جرى الاشتباه في أنه تعاون مع الجند النوري، وقد احتج هذا الأخير لدى عموري الأول، الذي نصح شاور بأن يطلق سراح الأسرى، وكانت هذه هي المرة الثانية التي يغدر فيها شاور، وقد علمّت صلاح الدين درساً قاسياً، حتى أنه لم يتركها تتكرر، واِقتص بنفسه من شاور عندما عادت القوات الشامية إلى مصر عام 564ه/ 1168م (تاريخ الفاطميين، محمد طقوش، ص495). سادساً: الحماية الصليبية على مصر غادر كل من أسد الدين شيركوه وصلاح الدين مصر في ذي القعدة من عام 562ه، في حين تأخر عموري الأول لبضعة أسابيع، لأنه مرّ بالقاهرة، ليثبت الحماية الصليبية على الدولة الفاطمية وشاور، وكانت أهم مظاهرها: دفع مصر جزية سنوية قدرها مائة ألف دينار للصليبيين. بقاء قوة من الفرسان الصليبيين، تحمي أبواب القاهرة من هجمات نور الدين إن كرّر محاولة الهجوم. إقامة مندوب عن الملك الصليبي في القاهرة يشارك في شؤون الحكم. وإن الراجح أن فكرة تملك مصر كانت ناشطة في عقل عموري الأول السياسي، ولم يعد بوسعه أن يتخلى عنها، وهو ينوي العودة بعد إقرار الأمور في بلاد الشام، وذلك طمعاً في ثروتها، وحماية لكيانه في بلاد الشام، ثم عاد الملك إلى فلسطين، وبهذه الإجراءات تأكدت الحماية على مصر، وترتب على هذا استمرار التنافس بين نور الدين محمود وعموري (تاريخ الفاطميين، سابق،495). سابعاً: الحملة النورية الثالثة على مصر عام 564ه إن سبب هذه الحملة أن الصليبين جعلوا لهم حامية في القاهرة، وتسلموا أبوابها، وحكموا المسلمين حكماً جائراً، فلما رأوا أنه ليس في البلاد من يردهم، أرسلوا إلى ملكهم عموري في القدس يستدعونه ليملك مصر، وهونوا عليه أمرها، فتردد خوفاً من سوء العاقبة، ثم سار مع فرسانهم على كره منه حتى وصلوا بلبيس مستهل شهر صفر عام 54ه، ونهبوها، وقتلوا وأسروا من فيها، ثم ساروا إلى الفسطاط، فأمر شاور بإحراقها، وأمر أهلها بالانتقال منها إلى القاهرة، وأن ينهب البلد خوفاً من أن يملكها الإفرنج، فنهبت المدينة، وبقيت النار تحرقها أربعة وخمسين يوماً، ثم حاصر الصليبيون القاهرة، وضيقوا على أهلها، وكان شاور هو المتولي للعساكر والقتال، فضاق به الأمر، وضعف عن ردهم، فأخلد إلى الحيلة، وراسل ملكهم عموري، ووعده بمال عظيم ألف ألف دينار مصرية يعجل بعضها الآن، ودفع لهم منها، مائة ألف دينار، وسألهم الرحيل عنه ليجمع لهم المال فرحلوا قريبا، وجعل يجمع لهم المال فلم يستطيع أن يجمع إلا خمسة آلاف دينار، حيث إن المصريين احترقت دورهم، ونهبت أموالهم. العاضد الفاطمي في مصر يستنجد بالجيش النوري في الشام بعد حريق مصر، أرسل حاكم مصر العاضد الفاطمي إلى نور الدين يستغيث به، ويعرفه ضعف المسلمين، وأرسل في الكتب شعور النساء، وقال له: هذه شعور نسائي من قصري، يستغثن بك لِتُنقذَهُنٌ من الصليبيين، وعرض على نور الدين مقابل إنقاذ البلاد من الصليبيين، منحه ثلث بلاد مصر، ومنح قادته الإقطاعات، ويسمح لشيركوه بأن يقيم في مصر (الجهاد والتجديد، محمد ناصر، ص202). القائد أسد الدين شيركوه يزحف إلى مصر، ويدخل القاهرة شرع نور الدين زنكي في تجهيز الجيوش، وإعدادها إعداداً قوياً، وأعطى قائد الحملة (شيركوه) مائتي ألف دينار سوى الثياب والدواب والأسلحة، وحَكَّمه في العسكر والخزائن، يأخذ حاجته، فاختار من العسكر ألفي فارس، وجمع من فرسان التركمان ستة آلاف، وسار نور الدين وشيركوه إلى باب دمشق، ورحلوا إلى رأس الماء، وأعطى نور الدين كل فارس منهم عشرين ديناراً معونة غير محسوبة، وأضاف إلى شيركوه جماعة أخرى من الأمراء، منهم صلاح الدين الأيوبي، وسار أسد الدين، فلما اقترب من مصر، رحل الصليبيون إلى بلادهم خائبين، وسمع نور الدين بعودتهم، فسرّه ذلك، وأمر بضرب البشائر في الشام، ولما وصل أسد الدين القاهرة، دخلها واجتمع بالعاضد، والذي خلع عليه، وفرح به أهل مصر، وأُجريت على عساكره الجرايات الكثيرة. مقتل الوزير الفاطمي شاور لم يفصح شاور عما في نفسه، وشرع يماطل أسد الدين، فيما وعد به من المال، ورواتب الجند، وعزم على الغدر بهم من جديد، فقرر أن يُقيم وليمة لأسد الدين وأمرائه، ثم يغدر بهم ويقتلهم، فنهاه ابنه الكامل عن ذلك، فترك ما كان قد عزم عليه، وأخيراً اتفق صلاح الدين وبعض الأمراء على التخلص من الخائن شاور، فأسروه، وسمع العاضد بذلك، فأرسل إلى شيركوه يطلب رأسه، وأذن أسد الدين بقتله فقتل، وأرسل رأسه إلى العاضد في 17 ربيع الآخر 643ه. تولي أسد الدين الوزارة الفاطمية: دخل أسد الدين القاهرة، وقصد قصر العاضد، فخلع عليه الوزارة، ولقبه الملك المنصور، وأمير الجيوش، واستعمل على الأعمال من يثق به من أصحابه، وأقطع البلاد لعساكره. وفاة أسد الدين شيركوه: لم تطل وزارة شيركوه؛ حيث توفي في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة 564ه، فكانت ولايته شهرين وخمسة أيام، رحمه الله رحمة واسعة وخلفه في الوزارة ابن أخيه صلاح الدين (الروضتين، مرجع سابق، م2، ص55). كان أسد الدين من أكبر قادة نورالدين، وقد اِدخره الملك العادل للخطوة الكبرى التي كان يمهد لها، وهي ضم مصر إلى بلاد الشام، وكان رحمه الله كريماً على جنده، صارماً يعرف كيف يُقر النظام في عسكره، فهابه جنده، وأحبوه، وركبوا معه المخاطر في حملات عظيمة، ومغامرات عجيبة، نفع الله بها الإسلام والمسلمين، وأسهمت في تقوية المشروع المقاوم للغزو الصليبي الذي كان يقوده نور الدين، ومن ثم بعده صلاح الدين، وسيأتي التفصيل بإذن الله عن أسد الدين شيركوه وبني أيوب في حديثنا المقاومة والتحرير في أيام الحكم الأيوبي، وفي سيرة صلاح الدين الأيوبي (بإذن الله). ……………………………………… المصادر والمراجع 1. الكامل في التاريخ، ابن الأثير،ط1، دار الكتاب العربي، بيروت،1997م. 2. صلاح الدين الايوبي، علي الصلابي،ط1، دار المعرف، بيروت، لبنان، 2013م. 3. الروضتين في أخبار الدولتين، شهاب المقدسي أبي شامة، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 2002م. 4. تاريخ الفاطميين، محمد طقوش، ط1، دار النفائس، الكويت، 2007م. 5. الجهاد والتجديد، محمد ناصر، ط1، مكتبة الكوثر للنشر، الرياض، 1988م. 6. تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام،محمد سهيل طقوش، ط1 دار النفائس، الكويت، 2020م. 7. مصر والشام في عهد الأيوبيين والمماليك، سعيد عبد الفتاح عاشور،ط1، دار النهضة العربية، بيروت، 1972م. 8. مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، محمد بن سالم المازني، ط1، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة،1953م. 9. النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، ابن تغري بردي،ط1 وزارة الثقافة، مصر، 2016م.