خلال هذه الأيام تابعت الكثير من البرامج والتصريحات والمداخلات لعدد كبير من الناشطات في الحقل النسائي حول مدونة الأسرة؛ وقد استفدت الشيء الكثير؛ وساعدني ذلك على وضع تشخيص أولي للوضع في المغرب فيما يتعلق بجوانب الهوية والدين. وأول نقطة هي أن الجرأة على الدين في المغرب أصبحت عالية السقف؛ فقد أصبح لدينا فئة من النساء لا يقمن أي حرمة للدين ولا يضعنه في الاعتبار أبدا؛ كل شيء عندهن مقبول؛ لا ديانة ولا شريعة وإنما الأمور بالغلبة والقاعدة الهامة هي هات وهل من مزيد. النقطة الثانية هي المطالبة الصريحة بإلغاء التعدد إلغاء نهائيا؛ وهذا معناه إلغاء ما أنزل الله في كتابه؛ فقد أعطى الله رخصة وقيدها؛ لكن هؤلاء يريدون منع تلك الرخصة؛ ولم يكفهم أن القانون قيدها وجعلها بيد القضاء؛ بل لا بد من محوها في النص بشكل نهائي. النقطة الثالثة أن من يتحدث في المدونة هن النساء بنسبة تفوق 90 في المائة؛ وهن نساء من فئة خاصة. النقطة الرابعة أن من يظهر في الإعلام والمواقع المعروفة هم المدافعون عن أطروحة واحدة هي هذه التي نتحدث عنها؛ بينما هناك حصار للأصوات الأخرى التي لديها وجهة نظر مغايرة. النقطة الخامسة هي أن صوت المثقفين غائب إلا بعض النماذج التي لها حضور في مواقع التواصل الاجتماعي؛ مما يعكس أزمة المثقف المغربي الذي اختفى نهائيا في القضايا الهامة؛ ولا يظهر له أثر إلا في التفاهات الفارغة عندما يريد أن "يناقش" الحداثة أو الدين أو الفكر الهامشي. وإنني أتساءل ما جدوى المثقفين إذا كانوا يخلون المجال في مثل هذه الظروف ولا يظهرون إلا في أعوام الرخاء؟ ولماذا يكثر لدينا المثقفون عندما يكون الموضوع هو الحديث العام والسماوي في المشروع المجتمعي وقال روسو قال ماركس قالت أم عمير؛ وعندما يتعلق الأمر بمشروع مجتمعي حقيقي يدسون رؤوسهم في التراب مثل النعامة؛ أليست مدونة الأسرة تتعلق بمشروع مجتمعي؛ فأين المثقف الحداثي الجبان الذي يكنش وينقل من هنا وهناك؟ وأين عبد الله العروي مثلا الذي يترجم روسو ومونتيسكيو وسبينوزا؛ ألم يعش روسو هموم مجتمعه؛ ألم يتعذب سبينوزا من أجل أفكاره؛ فماذا فعل الرجل سوى الاختباء ولوك النظريات القديمة؟ ما حاجة المغاربة إلى مثقفين يملأون الورق بالكلام الفارغ ولا يخوضون ولو معركة صغيرة حقيقية؟ لدينا آلاف الكتب في المغرب؛ لكن عدد المثقفين يقل عن عشرة. لم يتعلم مثقفونا الأبطال من المثقفين الأوروبيين شيئا؛ تعلموا النقل والتكرار والتقاط الصور ونشر الكتب؛ لكنهم لم يتعلموا الدفاع عن هموم الناس. إنني أكره الكثير من المثقفين الفرنسيين؛ ولكنني أحترمهم بسبب شجاعتهم وربطهم الفكر بالواقع. أكره ميشيل فوكو الشاذ لكني أحترم شجاعته وخوضه المعارك وسط الناس؛ أكره ماركس لدفاعه عن الاستعمار لكني أقدر نضاله وسط مجتمعه؛ أكره سارتر لعدميته لكني أحترم مواقفه الشجاعة ضد ديغول؛ أكره البير كامو بسبب تأييده لاحتلال الجزائر لكني أحترم معركته السياسية ضد عقوبة الإعدام في فرنسا. المثقف الذي يكتب لكي يكتب أو لكي ينال الجوائز أو ليتكسب بما يكتب مثقف جبان؛ كلنا نعرف التنظير؛ ولكن الممارسة هي المحك؛ وإذا انفصلت الثقافة عن الرجولة فلا خير فيها.