قبل سنة تقريبا، كان الخلاف بين باريسوالرباط مسيجا ضمن منطقة الضغط المنخفض، وكانت أسبابه ظاهرة، من الجهتين. ففرنسا تعلقت بقضيتين اثنتين لتبرر تغيير نظرتها لسياستها المغاربية، قضية التأشيرات ورفض المغرب استقبال القاصرين الذين رحلتهم باريس في سياق محاربة الهجرة غير النظامية، وقضية برنامج «بيغاسوس» التي اتهمت فيها باريس المغرب بالتنصت على هواتف مسؤولين فرنسيين بمن فيهم هاتف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. أما الرباط، فاعتبرت أن مشكلة العلاقات تكمن في اعتبارين اثنين، الأول عدم رغبة باريس التجاوب مع سياسة الرباطالجديدة التي أعلن عنها الملك محمد السادس في شهر آب من السنة الماضية، والتي وضعت قضية الصحراء محددا أساسيا في علاقاتها الاستراتيجية مع الدول، وإصرار باريس على أن تحد الرباط من امتدادها الإفريقي على حساب المصالح الفرنسية في المنطقة، واعتبرت أن إثارة قضيتي «بيغاسوس» وموقف الرباط من ترحيل قاصريها إلى المغرب، هي أمور افتعلتها باريس لتبرير المضي في سياستها الجديدة للتقارب مع الجزائر، ومعاكسة مصالح المغرب الحيوية. تطور المؤشرات طيلة هذه السنة لم يخرج عن هذا النسق الحاكم للتوتر، حتى في سعي باريس إلى التأثير على البرلمان الأوروبي واستصدار قرار بإدانة المغرب على خلفية وضعية حقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة وذلك في يناير من السنة الجارية، وهو القرار الذي لم يصدر ضد المغرب قبل ربع قرن(1994) أي خمس سنوات قبل حكم الملك محمد السادس، وطيلة حكمه. رد فعل الرباط وقتها كان قويا، إذ لم يكتف فقط بتوصيف القرار باعتباره اعتداء على السيادة المغربية وتدخلا في استقلالية القضاء، بل اتجه الموقف لتقييم العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، وإعادة تعريفها وفق مقاربة الشراكة لا مقاربة المقايضة بين تأمين الحدود ودفع الأموال. زلزال الحوز، والموقف الذي اتخذه المغرب بحصر الاستجابة للمساعدة الدولية التقنية في أربع دول (إسبانيا وبريطانيا والإمارات وقطر) غير المعادلة بشكل كامل، إذ كانت فرنسا تعتقد أن هذه فرصتها لطي ملف التوتر دون أن تقدم أي ثمن سياسي، كما اعتقدت أن المغرب سيكون مضطرا لطلب مساعدتها، وهو الأمر الذي لم يحصل، وبدا من خلال مقاربة المغرب في التدخل لمواجهة آثار الزلزال، الحرص الشديد على أن تكون القوات المسلحة الملكية هي الفاعل الأقوى في الميدان، وأن تكون وزارة الداخلية المغربية هي الجهة الوحيدة الممسكة بالمعلومة والتدبير. العديد من المراقبين لاحظوا الارتباك في الموقف الفرنسي، وتباين التعاطي بين وزارة الخارجية الفرنسية وبين الرئاسة، وكيف أمسكت المخابرات الفرنسية بالملف، ومارست تأثيرها على الصحف والقنوات الفرنسية من أجل أن تحول اللحظة، إلى حملة وهجوم شرس على المغرب وعلى قيادته (حملة ممنهجة ضد الملك محمد السادس) ففي الوقت الذي كان فيه الملك في زيارة لباريس لملازمة والدته التي تعيش ظروفا صحية خاصة، شنت الصحف الفرنسية هجوما عنيفا عليه، محاولة التشكيك في خلفيات زيارته لباريس، فحاولت الإيهام بأن الملك كان يمارس حياة اللهو في العاصمة الباريسية بينما كان الشعب المغربي يعاني من آثار الزلزال المدمر ! بل روجت لفكرة تأخر الملك عن التدخل، ودخول الحكومة المغربية في حالة صمت انتظارا لقرار الملك، وأنه لم يباشر بشكل فعلي عملية التدخل إلا بعد أربعة أيام ! وتكاثرت الرسومات الكاريكاتورية في عدد من الصحف والمجلات الفرنسية، تستهدف الملك وحياته الخاصة، وتتصور أن هذه الحملة الابتزازية يمكن أن تدفع في هذه الظروف إلى تهييج الشعب وتحريضه ضد السلطات. ما من شك أن المقاربة المغربية بالاعتماد على الذات، وتحريك فعالية المجتمع نحو التضامن الواسع مع ضحايا الزلزال والمتضررين منه، والتحرك السريع والفعال من أجل تطويق تداعيات الزلزال، أدخل باريس في صدمة عنيفة، كان من مؤشراتها حصول تغير كبير في مقاربة العديد من الصحف والقنوات الفرنسية، التي حولت الهجوم في اتجاه الرئيس الفرنسي، وطريقته في التعاطي مع المغرب، وسوء تقديره وإفلاس سياسته الخارجية، والتسبب المباشر في إهدار كثير من الفرص المتاحة، وفي إضعاف النفوذ الفرنسي في الساحل جنوب الصحراء، وأيضا في منطقة غرب إفريقيا، إذ عكس هذا النقد الكثيف لسياسة ماكرون واقع تراجع شعبيته، فعبر 71 في المائة من الشعب الفرنسي- حسب ما أظهرته الاستطلاعات الأخيرة- عن استيائهم من سياسته وأسلوبه في إدارة البلاد داخليا، وفي رسم السياسة الخارجية الفرنسية. بعض المراقبين توقفوا عند ردود فعل غير مسبوقة من الجانب المغربي، وذكروا من ضمنها رد بعض المواقع المغربية المقربة من السلطة على هذه الحملة، وتعرضها إلى الحياة الخاصة للرئيس إيمانويل ماكرون، جريا على قاعدة التعامل بالمثل. والواقع، أن سياسة المغرب في الرد على الحملات، غالبا ما تنأى عن الطابع الرسمي، وتفضل أن يكون الرد بالقدر المناسب للمضمون دون حرص على التناسب من حيث الكم والمقدار، وأن يصرف ذلك صحف محدودة لا كل الصحف ولا أغلبها كما هو الشأن في الحالة الفرنسية، وذلك لبعث رسالة مفادها أن المغرب يستطيع استخدام الأسلحة الثقيلة للرد بالمثل، لكنه لا يريد استعمال كل الأوراق، وإنما يستعمل بعضها فقط في سياق الردع. بعض المراقبين يرون أن التوتر تعدى كل السقوف، بعد أن خرج ملف إدارة العلاقة مع المغرب من يد وزارة الخارجية الفرنسية، وأضحى بيد الأجهزة الاستخباراتية والأمنية، وبدا الارتباك واضحا في موقف كاترينا وزيرة الخارجية الفرنسية كولونا وهي تتحدث عن زيارة مرتقبة للرئيس الفرنسي إيمانويل للمغرب، دون أن تكون محل توافق بين الطرفين، ما دفع الجانب المغربي للرد بشكل رسمي عبر وكالة الأنباء المغربية بأن الزيارة غير مدرجة في جدول الأعمال وغير مبرمجة. في مقال سابق، حاولنا نفي أن يكون موضوع إعادة العلاقة إلى وضعها الطبيعي بين باريسوالرباط مرتبطة بخلاف شخصي بين ماكرون وملك المغرب، محتجين بالطابع البراغماتي للسياسة الخارجية المغربية، وبالتحديات التي تشعر بها السياسة الفرنسية وحاجتها في هذه الظرفية الحرجة إلى استعادة العلاقات لعافيتها مع المغرب. المؤشرات الجديدة التي تعكس خروج العلاقات الفرنسية المغربية عن منطقة الضغط المنخفض، لا تدحض هذا الاستنتاج، فالمغرب، لا يهمه شخص ماكرون، بقدر ما تهمه سياسته على الأرض، واتجاهها في مسار معاكس لمصالح المغرب، وإصرارها على أن تتعامل مع الرباط من منطق استعلاء، لا يقيم وزنا لمصالحها الحيوية. الأفق بالنسبة للرباط واضح، فقد ربحت رأيا عاما فرنسيا ممتعضا من سياسة ماكرون، والمؤشرات تظهر كل مرة تهاوي النفوذ الفرنسي في أكثر من منطقة، بينما الأفق بالنسبة لباريس جد مختلف، فلم تربح رأيا عاما مغربيا مستجيبا لتحريضها وحملتها الإعلامية، بل على العكس من ذلك ازدادت أسهم شرعية الملكية في المغرب في هذه اللحظات العصيبة، ولم يخسر المغرب نفوذه في منطقة الساحل جنوب الصحراء، ولا حتى في الغابون التي تربط العائلة الملكية برئيسها السابق علي بونغو علاقة متينة، وكسبت الرباط في المقابل عطف المجتمع الدولي، فتوسع حجم الدعم الذي أعربت عنه عشرات من الدول، فضلا عن الإشادة الدولية الواسعة بالطريقة الفعالية والفورية التي استجاب بها المغرب لزلزال الحوز.