هوية بريس – الجمعة 27 دجنبر 2013م لا يختلف اثنان في الكفاح المتميز الذي خاضه المناضل الجنوب أفريقي (نيلسون مانديلا).. كفاح مرير انتهى بتحقيق انتصار تاريخي على ديكتاتورية الميز العنصري، وتمتيع شرائح من الناس بحقوقهم في العالم كله؛ حيث أسقط التمييز ضد السود في عديد من الدول وارتقى بحقوقهم السياسية والاجتماعية في جنوب أفريقيا.. هذا الإنجاز العظيم؛ حمل بعض الدعاة الإسلاميين الأفاضل؛ على ادعاء أن ما فعله الرجل يمكن أن يجعله من المتقين الذين يرضى عنهم الخالق ويكرمهم بالجنة.. يذكرنا هذا الادعاء بإشكالية ترتبط عند البعض بالعقيدة الإسلامية من حيث حكمها في رجال ونساء من غير المسلمين؛ قدموا خيرا معتبرا للبشرية في مجالات نشر العدل ومكافحة الظلم ومحاربة الفقر وتوسيع دائرة العيش الكريم واستغلال ما سخر الله في السماوات والأرض لصالح الإنسان.. وهو ما حمل أولئك على استشكال الحكم عليهم بالكفر ما لم يشهدوا أن لا إلاه إلا الله وأن محمدا رسول الله، وبعضهم يتخوف من رمي الإسلام بأنه لا يعترف بالخير الذي فعله أولئك؛ مما يستلزم توضيح الحق في هذا الموضوع وكشف الشبهة التي تشوش على كثيرين: لا يمكن لعاقل منصف أن يشكك في كون الإسلام -عقيدة وشريعة-؛ دينا حرر الإنسان من عبادة الإنسان وبغي الناس بعضهم على بعض، وأنه دعا إلى إرساء قيم الحق والخير؛ من عدل وحرية وكرامة..، كما أنه قاوم كل أنواع الظلم؛ ومنها: الاستبداد السياسي.. والإسلام هنا هو دين الله الذي بعث به جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام؛ كما قال الله تعالى في حق نوح: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ – فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:71-72]. وقال تعالى في إبراهيم: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ – إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:130-131]. وقال تعالى عن يوسف: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101]. وقال تعالى عن موسى وقومه: {وَقَالَ مُوسَى (5) يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس:84]. وقال في أنبياء بني إسرائيل: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا}. فهذا الدين العظيم اتفقت شرائعه على إرساء دعائم الخير والحق والعدل عبر تاريخ البشرية، وهو ما أكده ورسخه النبي الخاتم محمد عليه الصلاة والسلام الذي أشاد بكل الجهود المبذولة لرفع الظلم عن الإنسان ولو قام بها غير المسلمين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو دعيت به في الإسلام لأجبت، تحالفوا أن يردوا الفضول على أهلها وألا يغلب ظالم مظلوما"[1]. ومن هنا اعتبر الإسلام العدل قيمة مطلقة لا تخضع للنسبية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة:8]. ومع هذا الإعلاء من شأن قيم الخير والعدل؛ فإن العقيدة الإسلامية تجعل توحيد الخالق هو أجل المبادئ وأعظم القيم؛ وتقرر من هذا المنطلق بأن الإنسان غير الموحد الذي يفعل الخير؛ يثاب ويكافئ على فعله، لكنها تجعل مكافأته في حدود هذه الحياة الدنيا بسعة الرزق وتحقق الشهرة والجاه ونحو ذلك، أما في الآخرة فلا ثواب له: عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل لا يظلم المؤمن حسنة، يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيعطى بحسناته ما عمل بها لله في الدنيا، فإذا لقي الله عز وجل يوم القيامة لم تكن له حسنة يعطى بها خيرا"[2]. وهذا أمر منطقي؛ بحكم أن الكافر بالله واليوم الآخر لم يتطلب يوما بعمله مرضاة الله ولا جنته ولا آمن بذلك أصلا! وهو المشار إليه في حديث عائشة رضي الله عنها؛ قالت: قلت: يا رسول الله؛ ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المساكين، [ويقري الضيف ويصل الرحم ويفك العاني ويحسن الجوار، – فأثنيت عليه -]؛ فهل ذاك نافعه؟ قال: "لا يا عائشة، إنه لم يقل يوما: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين"[3]. إنها الإرادة الربانية العادلة: توحيد الله وعدم الإشراك به، وابتغاء وجهه بفعل الخير؛ شرط لمن أراد مرضاته سبحانه والخلود في دار النعيم، ومن كفر بذلك حُرِمه: قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:65-67]. وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} [النور:39-43]. إن الكفر والإشراك غير مسوغين في العقل والمنطق؛ فإن الله تعالى هو الذي {يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، وهو الخالق الذي له الملك المطلق والتدبير المطلق، أوجد الخلق من عدم وأمدهم بالنعم؛ فكيف يعبدون غيره؟؟ وقد ضرب أنبياء الله عليهم السلام لهذا المعنى؛ مثلا: عن الحارث الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بها ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها وإنه كاد أن يبطىء بها قال عيسى إن الله أمرك بخمس كلمات لتعمل بها وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم فقال يحيى أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي أو أعذب. فجمع الناس في بيت المقدس فامتلأ وقعدوا على الشرف؛ فقال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن: أولاهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وإن مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بذهب أو ورق فقال هذه داري وهذا عملي فاعمل وأَدِّ إلي، فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده، فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك؟.."[4]. وقد تفضل الله على عباده؛ فأجرى لهم ثواب كل خير فعلوه قبل إسلامهم: عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أسلم العبد، فحسن إسلامه، كتب الله له كل حسنة كان أزلفها، ومحيت عنه كل سيئة كان أزلفها، ثم كان بعد ذلك القصاص، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عز وجل عنها"[5]. قال النووي: "والصواب الذي نقل بعضهم فيه الإجماع أن الكافر إذا فعل أفعالا جميلة كالصدقة وصلة الرحم، ثم أسلم، ثم مات على الإسلام أن ثواب ذلك يكتب له"اه. [1]– رواه البيهقي. [2]– رواه مسلم. [3]– رواه مسلم والزيادة عند أبي عوانة بسند صحيح. [4]– رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. [5]– رواه البخاري معلقا ووصله النسائي بسند صحيح؛ راجع: سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (1/492).