هوية بريس – الخميس 31 مارس 2016 ألقى فضيلة العلامة "أبي الطيب مولود السريري" -حفظه الله تعالى- بكلية عين الشق بالدار البيضاء محاضرة في موضوع: "السنة وحجيتها ورد الشبهات" بتاريخ 19 جمادى الثانية 1437 ه. وقد أزالت هذه المحاضرة اللثام عن جملة من الإشكالات والقضايا المثارة حول السنة، وما هي في الحقيقة إلا زبد يذهب جفاءً أما كلمة الحق التي تنفع الناس فإنها تمكث في الأرض ولا تضطرب. وقد جهر الفقيه بكلمته أمام الملأ، صادعا بالحق قويا في نصرته، ثابتا على مواقفه، ولم يخش في ذلك لومة لائم، نعمْ لقد حرر القول حفظه الله تعالى في "أمراض القلب، (فتن الشبهات) وبيَّن أدواءها" فقال بأن العقل المريض هو الذي يتصيد الشبهات ويحتفل بها، وأما العقل السليم فإنه يطلب الحق ويخضع له، ولا يتقدم بين يديه، ويقف عنده ولا يتعداه. وكلنا نسمع وما زلنا نسمع ما كثر من اللغط واللغو والدعوة إلى تجديد المناهج المعينة على فهم الكتاب والسنة، ولكن إذا نظرنا إلى أصل ورودها وجدنا أن منبعها فاسد أصيب بلوثة فكرية عقدية، وأن الناطق بها إنما دفعه هوى وجده في نفسه، يطلب بذلك -أي باقتراح المناهج الحديثة التي يدعيها- حظوظا لنفسه وشهرة بين الناس لا أقل ولا أكثر. والعلم الشرعي لا يطلب به عرض الدنيا بل العالم هم الذي يُزَهِّد الناس عن عرضها، ويقربهم من دار القرار، وأن العلم لا يأتي إلا بتقوى الله عز وجل وهو القائل سبحانه: {واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم}[1]، ومن هذا النص يظهر لك مسلك العلم الصحيح، وأما ما يقع للناس من لبس واشتباه وذهول، فإنه ينقسم -حسب تقسيم الشيخ- إلى ما هو نفسي وما هو علمي، والاشتباه من عوارض النفس وتتقدمه أعراض وأحوال يحكيها القرآن عن هؤلاء وكأن الله سبحانه يذكرهم بأسمائهم، فترى تلك الأوصاف قائمة بهم في الخارج على حقيقتها، وهذا من أكبر المعجزات -كما قال الإمام الغزالي رحمه الله- ومن قرأ القرآن وتدبره سيقف على هذه الحقائق، وسيصنف نفسه إلى أي الأصناف ينتمي، وسيستقر الإيمان في قلبه، كقوله تعالى: {وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون}[2] يأتيهم الخير ولا ينتفعون به لقيام الموانع، فتعمى بصيرتهم عن درك الحق وإن نظروا إليه بالعين الجارحة الظاهرة، وهذه الأمور قد تزول عنهم ولكن إذا طلبوها بصدق وإخلاص، وإذا تجردوا عن التكبر على الله وآياته، وتابوا إلى الله وهادوا إليه، وتعرضوا لأسباب الهداية والتوفيق، فالقرآن والحديث يقرءان بإجلال واحترام وتواضع وافتقار طلبا للهداية والانتفاع والشفاء، أما من يقرؤهما ويدخل إليهما بعقيدة الاحتقار والتحدي وطلب الاعتراض، فإنه لن تُفتح عليه أبواب (معرفة الله وعرفانه) ولن يهتدي بهما لاختلال شروط ذلك، وحلول موانع النظر والإبصار، لقوله تعالى: {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين}[3] . فالعلو والاستعلاء من المخلات بالفهم والنظر، ونظر الإنسان لا يصفو ولا يستقيم إلا بالتزكية والتحلية والتخلية وإذلال النفس ومراقبة حركة القلب وحديث النفس، وتصحيح النية مرارا وتكرارا، وعدم التعالي على الله ونسبة الفقر والجهل وقلة الفهم والعلم إلى النفس، والعلم ينسب إلى الله، أما البشر فإنهم فقراء إليه. وبيَّن الشيخ -حفظه الله- أن كثرة الاعتراض على السنة والكتاب إنما يأتي من قلة العلم وعدم استيعاب الموضوع واستقصاء جهاته، فتجد العلماء الذي بلغوا في العلم مبلغا سرعان ما تزول الإشكالات عن أذهانهم وترتفع، لأنهم يعلمون حقا أن صريح المعقول لا يناقض صحيح المنقول، وبهذا يظهر لك ضعف وركاكة مسلك من يدعي التعارض بين النصوص والعقول، والغريب أنك تجد بعضهم -ممن يدعي الفهم السديد الثاقب؟- يملؤون الدنيا بصراخهم إذا وقفوا على تعارض بين النصوص، وأنهم استطاعوا أن يعارضوا عظماء الإسلام كالإمام البخاري ومسلم، مساكين تكاد تشفق على حالهم ؟؟! والعقلاء يوقنون أن ذلك إنما يعبر عن الجهل المركب عند هؤلاء لأنهم لا يطلبون العلم من طرقه السليمة الصحيحة، وغايتهم أن يشغلوا الناس وطلبة العلم بترهاتهم وعويلهم حتى يستنزفوا طاقة الشباب، وعند الاجتماع على هؤلاء والإقبال عليهم تسمع جعجعة ولا ترى طحنا، ومنهم من يأتي بالغرائب والعجائب ويسلك مسلك "خالف تعرف"، وقد قيل قديما "من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب"، وما أكثر العجائب في زماننا، فتسمعهم ينطقون بكلام رديء من جميع الوجوه والجهات وغير ممكن، ويستحيل أن يقبله عقل إنسان سليم الفكر والنظر وسوي الفطرة، كالذين يدَّعون استقلالية المقاصد من الذين أرادوا تحكيم أهوائهم ومقاصدهم ومصالحهم، لمَّا أعجزهم فهم النصوص الشرعية بطريقة الفقهاء التي فيها نوع من المشقة والكلفة والعنت، وإفراغ الجهد في طلب الحقائق الشرعية واللغوية والعرفية لألفاظ القرآن والسنة، فهرعوا إلى المقاصد وتمسكوا بها لأنها سهلة الركوب والصعود؛ يصعدها كل من أحس بضعف نظره، وقلة علمه وفهمه، والمقاصد ترحب بالجميع، وبابها مفتوح في زماننا. فالنص الشرعي متضمن للمقاصد وما أتت نصوص الشرع إلى لتحقيق مصالح العباد في الدنيا والآخرة، والمقاصد لا يستهدي بها الفقيه إلا في مواضع معينة: عند الحمل ليسلم له، وعند التنزيل ليسلم له كذلك، وجهة المقصد والمعنى جهة معتبر عند جمهور العلماء من أهل المذاهب ولم يشذ عنهم إلا الظاهرية ومسلكهم في ما ذهبوا إليه من التمسك بظواهر النصوص معروف، ومن جاوز بالمقاصد هذه المواطن وأنزلها أكثر مما تستحق فإنه واهم وليس في العلم بشيء، ولم يستوعب علم أصول الفقه وموقع المقاصد منه، ولم يتصوره على الشكل المطلوب الذي درج عليه المتقدمون من أرباب الفكر والنظر في هذا الشأن، وتنزيل الأشياء منازلها سنة السلف لا يحيد عنها إلا هالك، وخاتمة القول في هذا الموضوع أن "المقاصد تبصر المجتهد -ولا يستعملها العوام لأنهم يتسيبون ولا ينضبطون بقيد، ويتجاوزن النصوص الشرعية ولا يتهيبونها- بمواطن الأحكام وتنفعه في مواطن التنزيل. وأجاب الشيخ العلامة مولود السريري عن مجموعة من الإشكالات والتساؤلات أبرزها -باختصار-: 1- قال في عدالة الصحابة، أن هذا الأمر محسوم عند المسلمين ولا يجادل فيه إلا مكابر معاند للحقائق والمسلمات، فكيف يحق لنا أن نتكلم في حق أناس حكم لهم الله سبحانه وتعالى بالرضا من فوق سبع سماوات في عدة مواطن من كتابه، قال سبحانه: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا}[4]، وقوله تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم}[5]، وقوله تعالى: {رضي الله عنهم ورضوا عنه} وردت هذه الصيغة في سورة المائدة والتوبة والمجادلة والبينة، بأدلة ونصوص قطعية لا يمكن أن ترتفع، تزول الجبال الراسيات ولا تزول هذه الآيات البينات الواضحات، وتنكسر كل الشبه أمام هذه الحقائق وتتلاشى، فبكل يقين وإيمان صادق نقول: إن الصحابة كلهم عدول، لأن القرآن شهد لهم بذلك، وهي أدلة قطعية، وأدلة المخالفين كلها ظنية تحتمل وتحتمل فسقط بها الاستدلال، فكيف يعارض القطعي بالظني، فهذا في ميزان الأصوليين المدققين فهم مختل لا ينهض به الاحتجاج، ومعلوم أن هذه الآيات محكمات غير منسوخات، وما يثيره الناس حول هذه المسألة لا يعدو أن يكون إلا شَغْبًا -بتعبير الإمام ابن حزم- واجترار لكلام قد قيل قديما ويعاد لوكه في كل زمان ومكان ‘النقاشات التاريخية التي لا ينبني عليه عمل'، فكيف نحكم على الصحابة الذين شهد لهم القرآن بالإيمان والجنة، ونحن لا نعلم مصيرنا ولا قدرنا عند الله ولا مقامنا ومنزلنا عنده، فمال هؤلاء القوم كيف يحكمون ؟! والمؤمن الصادق الذي يطلب الحق والذي يبحث عن النجاة فإنه يأوي إلى الركن الشديد الذي هو القرآن، ويدع عنه ما يَرِيبُه إلى ما لا يَريبه. 2- إن علم الأصول علم عزيز، فقد جدَّ قوم من أهل الاجتهاد أن يدخلوا فيه أصولا فلم يسلم لهم ذلك وطولبوا بالآيات والحجج والأدلة والبراهين للدفاع عن "مبدأ الشرعية"، كالعزم عند الشافعي، والاستحسان عند أبي حنيفة -ولكنه لم يستكمل شروط التأصيل نهائيا كما قال الشيخ- وسعى الإمام مالك إلى إدخال عمل أهل المدينة، ونوقش فيه نقاشا طويلا.. "فالشرعيات لا تقبل فيها إلا الشرعيات"، والعلماء كانوا يبحثون عن القطعيات في الأصول، حتى تقوى وتترسخ ويصلح أن تبنى عليها فروع الشريعة المختلفة، وكل من أراد أن يدخل شيئا إلى الشريعة أو يخرجه فلْيُؤَصِّل له على طريقة علماء المسلمين، وسيناقش معه الأمر بالعلم والحجة، أما كلام الخواطر والإنشاء والقصص وروايات "ألف ليلى وليلى" الذي يتبجح به بعض المغرورين والمفتونين بالمناهج الغربية فغير مقبول البتة في العلوم الشرعية الإسلامية المنبت والمنشأ؛ لأن المعرفة والمنهج وطرق التفكير وأحوال النفوس والقلوب كلها أمور مرتبطة متكاملة يستحيل الفصل بينها بأي وجه من الوجوه، فلا يمكن أن تأتي بعلم صنعه عقل مسلم نظيف، وتطبق عليه منهجا اقترحه عقل كافر أو فاجر؟! 3- "خبر الآحاد" مسألة طال فيها الكلام، نعمْ نقول إن دلالته ظنية، ولكن النبي استعمله واعتمد عليه ونزَّله منزلة جعلته قطعيا، ألم يرسل عليه الصلاة والسلام الوفود إلى الأمصار لتبليغ العقائد والشرائع للناس، فلَزِمَ الناسَ الاتباعُ وأقيمت عليهم الحجة بخبر الفرد الواحد، ومن أنكر شيئا من الأخبار التي أتته عن طريق الآحاد كالبعث والحساب وأمور الغيب، فإنه قد أنكر معلوما من الدين بالضرورة ؟؟؟ وقصة ذي القبلتين مشهورة فنسخوا بخبره ما تلبسوا به من الحكم الأول، وانقلبوا فورا إلى القبلة الجديدة، ومقام النسخ معلوم في الشريعة الإسلامية. ثم نبه الشيخ الطلبة إلى قضية منهجية في غاية الأهمية عند التعامل مع شبه المخالفين، فقال بأن منهج رد الشبهات لا يكون بالسب والشتم والانفعال وبالنعت بالأوصاف القبيحة، وكل هذه الأوصاف تفقد الحجة قوتها وقيمتها، فالجدال يكون بالحكمة والتثبت وطلب الدليل والتأصيل لكل مسألة مسألة، وإنصاف المخالف، وهذا منهج قرآني أصيل ألم يحْكِ القرآن كلام الكفر على لسان فرعون، قال سبحانه وتعالى: {فقال أنا ربكم الأعلى}[6]، وساق شبهات الدهريين، في قوله تعالى: {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر}[7]، ومن خلال هذه النصوص نستفيد أصول النقاش عند طلب الحقيقة، فنذكر السياق والدليل والمأخذ، وعندها نُقَوِّم مأخذ الشبهة، ونَزِنُهُ بمناهجنا الإسلامية الأصيلة؛ التحليلية والموضوعية، وبعدها نحكم عليه آنذاك بالصحة أو الضعف، وعلينا أن نسلك المسالك التي سلكها المتقدمون في الرد على المخالفين، وأن نحيي المناهج العلمية القديمة وأن ننزلها واقعا عمليا في نقاشاتنا ومناظراتنا، وبهذه المناهج السوية يظهر الحق حقا والباطل باطلا، والباطل سرعان ما يزهق وينسى الناس صاحبه. هذا ما تيسر ذكره، والله تعالى الموفق والهادي إلى الصراط المستقيم. [1] سورة البقرة، الآية: 282. [2] سورة الأعراف، الآية: 198. [3] سورة الأعراف، الآية: 146. [4] سورة الفتح، الآية: 18. [5] سورة التوبة، الآية : 100. [6] سورة النازعات، الآية: 24. [7] سورة الجاثية، الآية : 24.