من الخطأ اعتبار المدينة الذكية هي تلك التي تنتشر فيها التكنولوجيا الحديثة ويكون سكانها مهووسين بتطبيقات الذكاء الاصطناعي، أو المدينة التي تستعمل الروبوتات بكثرة. مفهوم المدينة الذكية جاء نتيجة تطور الذكاء الاصطناعي في وقتنا الحاضر، ليُجيب عن معضلة ترَكُّز السكان في المدن الذي نتج عنه تدهور كبير في جودة الحياة، وتهديد جدي للعيش السليم في المستقبل. فالمدينة بما أنها محرك قوي للنمو الاقتصادي، فهي عامل جذب قوي للسكان، وبذلك تكون معرضة لتصير الحياة فيها صعبة ومحفوفة بالمخاطر. المدينة الذكية تجعل التكنولوجيا الذكية في خدمة سكان المدينة. ومن وظائفها استدامة العيش السليم لكي نحافظ على حقوق الأجيال القادمة. ولذلك نتحدث عن المدينة الذكية المستدامة. فالذكاء لم يعد مرتبطا بالعقل البشري فحسب، وإنما تعداه إلى المدن التي أصبحت تصنف إلى مدن ذكية وأخرى أقل ذكاء أو تقليدية، كما بدأنا نسمع أن فيينا مثلا هي أذكى مدينة في العالم وأن برشلون هي مدينة ذكية نموذجية. مفهوم المدينة الذكية: يُعرِّف الاتحاد الدولي للاتصالات (UIT) المدينة الذكية المستدامة على أنها مدينة مبتكِرة تستخدم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لتحسين نوعية الحياة وكفاءة العمليات والخدمات الحضرية والقدرة على المنافسة، مع ضمان تلبية احتياجات الأجيال الحالية والقادمة فيما يتعلق بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. انطلاقا من هذا التعريف، يمكننا الإقرار بأن المدينة الذكية هي المدينة التي تستجيب لحاجيات القاطنين فيها، تضمن رفاهيتهم وأمنهم، مع العمل على الحفاظ على الموارد والبيئة في إطار منظومة الاستدامة. المدينة الذكية هي كذلك المدينة التي تعتمد على السكان والتكنولوجيا، لتخلق الخدمات، وتستعمل آليات تدبيرية من قبيل التحسين والتسهيل والتنظيم والاستباق والتكييف …من أجل خلق منطقة حضرية ذات تطور اقتصادي مستدام وجودة حياة مرتفعة من خلال التميز في مجالات رئيسية متعددة هي: الاقتصاد، والتنقل، والبيئة، والمعيشة، والحكامة. كل هذا يجب أن يتم بالارتكاز على السكان والتكنولوجيا وفق مبدأ الاستدامة الذي يحفظ الموارد للأجيال القادمة. إنه تحدي مدن الغد. المدينة الذكية هي مدينة مرنة ، قادرة على التكيف مع مختلف المخاطر والأزمات والأحداث ، من أجل الحد من تأثيرها السلبي. ولا يقتصر هذا المفهوم الأكثر شمولية على معالجة المعلومات ولكنه يتضمن بعدًا مجتمعيًا يضع السكان في قلب المشروع. عندما نقول إن المدينة الذكية ترتكز على عنصري التكنولوجيا والسكان، فإننا نقصد المدينة الذكية التي تقوم بتجميع المعطيات واستخدامها من أجل تحسين تنظيمها وتدبيرها. وذلك لكي تضع تحت تصرف الساكنة في ظرف قياسي، معلومات دقيقة وعرض أفضل للخدمات مع توفير الموارد بشكل أفضل. هذا "الذكاء" من شأنه أن يؤثر إيجابا على العديد من المجالات مثل النقل (حركة المرور، وقوف السيارات، إلخ)، وإمدادات الكهرباء والمياه، وجمع القمامة وما إلى ذلك. في أي سياق تندرج المدينة الذكية؟ تندرج المدينة الذكية في سياق واقع يتسم بالتركيز السكاني المرتفع في المدن. فحاليا، يعيش أكثر من نصف السكان في المدن، وبحلول عام 2050 سوف ترتفع هذه النسبة إلى حوالي 70%. إلى جانب هذا المعطى، نضيف معطى آخر متعلق بكون المدن كثيفة الاستهلاك للطاقة. فإذا كانت المدينة لا تمثل سوى 2٪ فقط من سطح الكوكب، فإنها تستعمل 75٪ من الاستهلاك العالمي للطاقة، وهي مسؤولة عن 80٪ من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون المسؤول الأول عن الاحتباس الحراري. وبالتالي ، فإن معالجة هذا الاختلال ومكافحة الاحتباس الحراري سيفرضان حتما تحولا في المدن، وإلا سنضطر في العقود القادمة للعيش في مدن عبارة عن تجمعات سكانية تستنزف مواردها وتعاني من ظروف معيشية في تراجع مستمر. خصائص المدينة الذكية تشير أعمال الخبير في البحث التحليلي حول التنمية الحضرية والإقليمية في جامعة فيينا للتكنولوجيا، رودولف جيفينجرRudolf Giffinger) (، والمرجع في هذا المجال، إلى أن المدينة الذكية يجب أن تعمل بشكل جيد في ستة مجالات: -1- اقتصاد ذكي: أي القدرة التنافسية الاقتصادية للمدينة. ويتم قياسها من خلال عوامل مثل الابتكار وريادة الأعمال والإنتاجية ومرونة سوق العمل أو الاندماج في السوق الوطنية والدولية. -2- مواطنون أذكياء: المواطن هو رأس المال البشري والاجتماعي للمدينة. إنها بالطبع مسألة تتعلق بمستوى تأهيل السكان، ولكنها تتعلق أيضًا بتنوعهم، ومدى انفتاحهم وإبداعهم، ونوعية التفاعلات الاجتماعية أو المشارَكة في الحياة العامة. -3- الحكامة الذكية: وهذا يعني، أسلوب إدارة شفاف للمدينة يُدمِج مشاركة المواطن في تسيير شؤون مدينته. -4- التنقل الذكي: وهو متعلق بالوصول المحلي والدولي إلى المدينة، جودة البنى التحتية المتصلة باستخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وأنظمة النقل المبتكرة والمستدامة والآمنة. -5- بيئة ذكية: نحن نتحدث هنا عن البيئة وإدارة الموارد. يجب أن تُعزِّز المدينة الذكية بيئة جيدة (المساحات الخضراء وجودة الهواء)، وإدارة مواردها بشكل مستدام والعمل على حماية البيئة. الأحياء البيئية هي أمثلة محلية لبيئة مُدارة بذكاء. -6- أسلوب حياة ذكي: يجمع بين العوامل المتعلقة بنوعية الحياة: الثقافة، والصحة، والسلامة، والتعليم، والسياحة، والتماسك الاجتماعي، إلخ. المدينة الذكية والمدينة المستدامة: الكثير من الدراسات تخلط بين مفاهيم المدينة المستدامة والمدينة الذكية، لكننا نقول إن كل مدينة ذكية هي مدينة مستدامة والعكس ليس دائما صحيحا. إذا لم تكن المدينة المستدامة، من الناحية النظرية، ذكية بالضرورة، فإننا نرى عمليًا أن ذكاء المدينة يسمح لها بمتابعة وتحقيق أهداف الاستدامة الخاصة بها على المستويات الثلاثة التي تشكلها: الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. لأن النظام البيئي للمدينة الذكية، من خلال تحسين إدارة التكاليف والموارد والخدمات، يسعى إلى تحقيق نفس الأهداف. الأسس التكنولوجية للمدينة الذكية: المدينة الذكية هي منطقة حضرية تستخدم أنواعًا مختلفة من المستشعِرات الإلكترونية (Les Capteurs) لجمع البيانات والمعلومات التي تُستخدَم لإدارة الأصول والموارد بصورة فعالة. تتشارك مشروعات المدينة الذكية أيضًا في ثلاثة أسس تكنولوجية: مستشعرات أنترنت الأشياء (Les capteurs de l'Internet des Objets)، الاتصالات وأخيرا البيانات. تتمثل المستشعِرات في أي جهاز متصل يزود الشبكة بالمعلومات، ويتوفر الاتصال من خلال الشبكات الثابتة أو اللاسلكية، وتمثل البيانات تخزين وتحليل وعرض المعطيات في الوقت الحقيقي ووفق تسلسها التاريخي. من خلال ربط هذه الأسس الثلاثة، تتمتع المدن بمنصة قوية لطرق جديدة وأكثر فاعلية لخلق مدن ذات جودة حياة مرتفعة. ويتجلى ذلك جيدًا في الحالات التالية لاستخدام الذكاء الاصطناعي: – الإدارة الذكية للنفايات: حاويات النفايات مجهزة بمستشعرات، الأمر الذي يُتيح للشركة المسؤولة عن تجميع النفايات، معرفة مقدار امتلائها في الوقت الحقيقي. وهو ما يساعدها على ترشيد استعمال شاحنات تجميع النفايات. – الحلول الذكية لركن السيارات: حيث تستمر المُستشعِرات بتعقب الأماكن الشاغرة المتاحة في الوقت الحقيقي، ثم تَعرض الأماكن الشاغرة على السائقين، إما عبر اللافتات الرقمية على طول الطريق، أو عبر تطبيقات الهاتف الجوال. وبذلك يمكنهم بسهولة العثور على أفضل خيار لركن السيارة والانتقال إليه بسلاسة. – أنظمة المباني الذكية: أي على سبيل المثال، مواءمة التدفئة والتهوية تلقائيًا مع المستوى المحدد في الوقت الحقيقي، والتأكد من إطفاء الأضواء عندما لا يتواجد أي فرد بالغرفة. – حلول السلامة والأمن العام الذكية: حيث تُمكِّن أجهزة الاستشعار المختلفة والكاميرات المتصلة، هيئات إنفاذ القانون وخدمات الطوارئ من الاستجابة بكفاءة للحوادث كالسرقة، وحالات الطوارئ كالحريق، والتصدي لها بنجاعة وفي الوقت الحقيقي. خلاصة: ليس هناك مفهوم واحد أو موحد للمدينة الذكية. كما أن صياغة مفهوم المدينة الذكية يختلف من مدينة إلى مدينة ومن بلد إلى بلد، وفقًا لمستوى التطور، والاستعداد للتغيير والإصلاح، وموارد وتطلعات سكان المدينة أو المشرفين على تسييرها. كما أن مفهوم المدينة الذكية مرتبط بكيفية استخدام أجهزة الاستِشعار والاتصالات والبيانات لتحسين جودة الحياة في المدينة. قد تختلف مفاهيم المدينة الذكية، لكن الهدف منها واحد ويتجلى في أفضل استخدام للتكنولوجيا الذكية من أجل عيش أفضل وجودة أكبر في الحياة. ويبقى التوفيق بين الذكاء الجماعي للسكان والذكاء الاصطناعي ووضعهما في خدمة بعضهما البعض هو المحدد الأساسي في بناء المدينة الذكية. الهدف هو مدينة مستدامة والطريقة هي الذكاء الجماعي والوسائل هي الذكاء الصناعي. باحث في التنمية وتكنولوجيا المعلومات والاتصال