خلال الاستماع إلى نقاش تاريخي حول فترة "النهضة" في القرن 19 وأسبابها، أعادتني الأفكار إلى ذكريات الماضي "النهضة" هي فترة أعقبت الغزو النابليوني لمصر في أوائل القرن التاسع عشر اكتشف خلالها "المصدومون" أنهم كانوا متخلفين عن غزاتهم الذين كانت غزوتهم أشبه بالنزهة في مصر. ما أبعد حالهم عن ذكرى أسر لويس التاسع في الاسكندرية عندما شن الحملة الصليبية، فكان أسره إذلالا له ولأوروبا بأكملها. قررت جامعة الأزهر خلال عصر "النهضة" إرسال مجموعة من الطلاب إلى فرنسا "للتعلم" و"الملاحظة" من أجل اكتشاف سر الصدمة التي هزت المسلمين بالتزامن مع أفول نجم العثمانيين. . كثيرون هم "مفكرو" هذه الفترة الذين بذلوا الوقت والجهد للتعمق في النصوص لمحاولة تحديد المرحلة التي تخلف فيها المسلمون عن التطور، وكان الانبهار " بفرنسا الأنوار " هو الشعور العام خلال ثلاثينات القرن 19، و ذلك بعد أن أخذت مصر وبترت الجزائر من العثمانيين. لكن، ما الذي كان يحدث حقيقة يا ترى؟ هذا الانبهار وهذا الإعجاب الغامض بقي له تأثير لا يُمحى على تاريخنا... ومن بين تأثيراته الكثيرة: ثقافة متجذرة في هذا الانبهار والإعجاب بالغرب، بدون تمييز في كثير من الأحيان. لقد عشت أنا أيضا مثل هذا الانبهار (لكن ليس سنة 1830)، في هذه الفترة من حياتي كان الانبهار الغامض قويًا ومتجذرًا، وكنت متشبعا بالاستياء من أي كل ما هو جنوبي أو عربي، وكان يملؤني الإعجاب بكل ما هو شمالي وأوروبي. كانت فكرة الدراسة و الاستقرار والتقدم في السن في هذا الجانب الجنوبي من البحر الأبيض المتوسط فكرة تثير مشاعر الاشمئزاز والاحتقار دون معرفة سبب واضح لذلك.. ربما استمرت هذه المشاعر 20 سنة من حياتي... ثم عشت معهم وبينهم وفي بيوتهم. عشت في فرنسا لسنوات عديدة، ثم في المملكة المتحدة. زرت بولندا و السويد والدنمارك وبلجيكا و كوريا الجنوبية وهونج كونج... وفي نفس الوقت بدأت أطلع على كتب عبد الوهاب المسيري وعلي عزت بيغوفيتش وعبد العزيز الطريفي والطيب بوعزة والمهدي المنجرة وغيرهم. أخذت دروسا في الفلسفة، وحصلت على الدكتوراة في الاقتصاد، وناقشت الملحدين والليبراليين والنسويات والعلمانيين... وقد انتقلت من الافتتان الكامل إلى خيبة أمل كبيرة، وانكشف لي القناع... لقد هزني ذلك كثيرا وشعرت أنني كنت مخدوعا، شعرت أنني ضيعت 20 سنة من عمري معجبًا بيد من نار في قفاز ذهبي، ولم أكن أرى إلا السطح الذهبي. لقد ارتفعت الغشاوة عن عيني، ليس هناك في الواقع ما يستحق ذلك الانبهار والإعجاب. لكنني عند التدقيق لم أخسر شيئا... اليوم عندما يقترح علي زيارة المملكة المتحدة أو السويد أو اليابان أو الولاياتالمتحدةالأمريكية... لا أشعر بأي حماس أو إثارة، ولا يرى في عيني بريق الإعجاب أو الرغبة في هذه الرحلة إلى الشمال. لا شوق لي إلى استنشاق الهواء الباريسي أو التبختر في حقول ال elysée؛ لا أشعر بالرغبة في رؤية برج إيفل أو التجول في شوارع الحي اللاتيني... لم يعد أي من هذا يسحرني لقد أصبحت أعيش في فترة "ما بعد عصر النهضة".. غير أنني ما زلت أرى كل يوم، أولئك الذين لا يزالون يحلمون بgreencard، بالحياة في كندا، أو في فرنسا أو الولاياتالمتحدة، يحلمون بحمل جنسية غربية وتبني نمط الحياة الغربي والتفاخر بالأسفار المتكررة إلى أوروبا، أولئك الذين تظهر عليهم نشوة الفخر والانتصار عندما يرون تلك التأشيرة الشهيرة مختومة على جواز السفر، وتعرفهم بسيماهم في المطار... لم يعد لأي من ذلك وجود في حياتي. إنني أتمنى أن يعرفوا ويعوا ويحسوا ويروا ما يختبئ تحت القناع، أريدهم أن يستشعروا خطر اللهيب والنار المختبئين تحت القفاز الذهبي... إنهم يحلمون بما أنفر منه ينجذبون إلى ما يثير اشمئزازي... عندما يتحدثون عن ذلك تلمع أعينهم... وعندما يخبرونني عن ذلك تظلم عيناي... لقد أصبح الاختلاف بيننا كبيرا. عندما أفكر في الغرب، فإن أول شيء يخطر ببالي الآن هو الحداثة السائلة والسيولة التي تمتص وتدمر القيم، أرى الاستهلاكية والرأسمالية المتوحشة، والبنوك المفترسة والإمبريالية، أرى انتشار الانتحارو الطلاق والشذوذ، أرى الغرور و الانحلال الأخلاقي وتدمير الأسرة والأنانية والعجب والاكتئاب والضغط والإجهاد و إدمان الكحول وغير ذلك من الآفات.. النار، الجمرة...مخبأة تحت القفاز الذهبي للتكنولوجيا والمباني والبنية التحتية والمكوك الفضائي والشركات البديلة والأسلحة واليخوت... باختصار، رماد يذر في العيون. إن أول ما يتبادر إلى ذهني هو المبادئ المؤسسة للغرب.. الأسس إيديولوجية، تلك القناعات التي تحكم الغرب من الناحية الأيديولوجية والفلسفية... لهذا السبب لا أذكر حقائق معزولة مثل غزو العراق أو القنبلة الذرية أو الرسوم الكاريكاتورية للنبي صلى الله عليه وسلم أو غوانتانامو. هناك فرق كبير جدا بين أهمية الأفكار المؤسسة وبين أهمية نتائجها . هذه المبادئ الهيكلية تؤدي بلا شك إلى الانحطاط وانعدام الأخلاق، لكنها مع ذلك لا تزال ترتدي ملابس ذكية (الحرية) وتسويقها بشكل جميل (Netflix, instagram) في وضع مواد لامعة وجذابة (siliconvalley, مدينة لندن...). لقد تطلب هذا الوعي 20 سنة من حياتي... لقد مرت 200 سنة منذ بداية عصر النهضة، وإنني لأتساءل: من يفكر مثلي؟ ومن مازال منبهرا ذلك الانبهار الأعمى؟ إلى متى يمكن للسراب الغربي أن يسرق عقولنا ويغوي أفكارنا؟ ليس لدي إجابة على هذا..