لا أستغرب ما اعتاد الأستاذ خالد الصمدي (كاتب الدولة في التعليم العالي سابقا)، على نشره بين الفينة والأخرى من دفاع مستميت عن القانون الإطار للتربية والتعليم الذي صدر نصه النهائي في الجريدة الرسمية منذ ثلاث سنوات، فهو واحد من ʺمُبدعيهʺ وصُنّاعه. ولكني أستغرب غاية الاستغراب مما يتعمَّده باستمرار من محاولات يائسة إبعاد الشبهات عن هذا القانون وتبرئته من تهمة كونه قانونًا للفَرْنَسة، وإظهاره بمظهر القانون الذي أنقذ التعليم المغربي من السكتة القلبية والإتيان بما عجز عنه الأوائل. ولا يكتفي بهذا الحد وإنما يتجاوزه إلى استبلاد معارضي هذا القانون واستغفالهم، ووصفهم بالاندفاع والتسرّع وقلة الفهم وعدم الاطلاع. والحجة الوحيدة التي يستند إليها في نفي صفة الفَرْنَسة عن القانون، هي كونه لم يذكر الفرنسية بالاسم، وما ذُكِر بالاسم هو العربية والأمازيغية. ولتوضيح ما يرفض الأستاذ الصمدي الاعتراف به، وهو أن القانون الإطار إنما جاء حصريًّا لفَرْنَسة التعليم والتراجع عن تعريب المواد العلمية والتقنية، لا لشيء آخر، أكتفي بالنقطتين الآتيتين: الأولى: تتعلق بفرنسة المواد العلمية والتقنية، والثانية: بفرنسة التعليم الأوَّلي. فَرْنَسة المواد العلمية والتقنية: تنص المادة الثانية من القانون المذكور حرفيّا على ما يلي: «…وذلك بتدريس بعض المواد، ولاسيما العلمية والتقنية منها، أو بعض المضامين أو المجزوءات في بعض المواد بلغة أو بلغات أجنبية». وخطورة هذه الفقرة رغم قصرها تتجلى في النواحي الثلاث الآتية: الأولى: أنها استعملت عبارة (اللغة الأجنبية) عوض (اللغة الفرنسية)، وهي عبارة دبلوماسية توصّل إليها واضعو القانون بعد نقاش طويل، تفاديا لردود الفعل التي قد تؤدي إلى عدم قبوله بتلك الصيغة الواضحة السافرة، فكان لا بد من مسحوق للتجميل وهي تلك الكلمة التي جيء بها للتمويه والتضليل وتمرير القانون، لا غير، وإلا فإن المقصود باللغة الأجنبية واضح لا ينطلي على أحد، فهي الفرنسية بالدرجة الأولى. وقد كان الميثاق الوطني للتعليم عندما يتحدث عن اللغة الفرنسية يسميها (اللغة الأجنبية الأولى) في مقابل (اللغة الأجنبية الثانية) التي يراد بها الإنجليزية أو الإسبانية أو لغة أخرى يختارها الدارس. وسنكون من السذاجة والسخافة والبلادة بمكان إذا لم نفهم المقصود باللغة الأجنبية في ظل الهيمنة الفرنكفونية التي نعيشها، وفي ظل المناقشات التي دارت علنًا حول لغة التدريس منذ الاستقلال، واشتدت حدّتُها في العَشْرية الأخيرة وبالضبط منذ سنة 2010، واتُّهمت فيه العربية الفصحى بكونها السبَبَ المباشر في تدهور التعليم بالمدرسة المغربية، ونُودي بالفرنسية لتبايَع لغةً للإنقاذ، وكان الأستاذ الصمدي، وهو وزير، في جملة المنخرطين في الزمرة القائلة بفشل التعريب السابق (حواره مع هسبريس بتاريخ 22 غشت 2019). بل إن المقصود باللغة الأجنبية قد وقع توضيحه بما لا يقبل أي دحض أو غموض في الرؤية الاستراتيجية (ص:38 و39) ضمن الرافعة 13 التي تم فيها توضيح المقصود بالهندسة والتناوب اللغويّين، فجاءت العبارة عند الحديث عن سلك التعليم الإعدادي هكذا: «إلزامية اللغة الفرنسية في مستويات هذا السلك كافة، بوصفها لغةً مدرَّسة، كما يتم على المدى المتوسط إدراجُها لغةً لتدريس بعض المضامين أو المجزوءات». ثم أتبع هذا النص بحديث عن التعليم الثانوي التأهيلي، جاء فيه : « إلزامية اللغة الفرنسية بوصفها لغةً مُدرَّسة، كما يتم إدراجُها لغةً لتدريس بعض المضامين أو المجزوءات في المدى القريب». فهل هنالك وضوح أكثر من هذا الوضوح، ولاسيما إذا علمنا أن نص الرؤية الاستراتيجية هو المؤطّر والمفسِّر لكل ما أجمِل في القانون الإطار؟ وإضافة إلى هذا الوضوح اللفظي الذي لا وضوح بعده، هناك الوضوح العملي التطبيقي، وهو ما جرى على أرض الواقع من شروع في الفرَنسة العملية والسريعة للمواد العلمية حتى قبل صدور القانون الإطار. فقد بدأ التراجع عن تعريب المواد العلمية بصفة رسمية منذ عهد الوزير بلمختار الذي أعلن خلال الموسم الدراسي 2013 2014 عن الشروع في فتح مسالك في ست مدن مغربية، لما سُمي «البكالوريا الدولية»، وهي عبارة أخرى للتمويه والتضليل والمقصود بها البكالوريا الفرنسية كما لا يخفى. وذلك مباشرة بعد توقيع اتفاقية بينه وبين وزير التربية الفرنسي فرانسوا بيون. ثم ما لبث هذا الوزير أن شرع بعد ذلك في إصدار مذكرات وزارية إلى مديري الأكاديميات يدعوهم فيها إلى الشروع في تدريس المواد العلمية بالفرنسية ابتداء من الدخول المدرسي 2014 2015. وهذا ما كان وقتها قد أثار ضجة كبرى جعلت الأستاذ عبد الإلاه بنكيران يتهم الوزير بعدم التنسيق معه. فرد الوزير بأن تلك الخطة كانت موضوعة في عهد سلَفه محمد الوفا (وزير التربية في حكومة بنكيران). وحين انتقل الوزير محمد حصاد من الداخلية إلى التعليم خلفًا لابن المختار، سنة 2017، لم يلبث بدوره، رغم قصر مدته، أن أصدر مذكرة تدعو الأكاديميات إلى الشروعَ رسميّا في تدريس الفرنسية منذ الصفِّ الأول من التعليم الابتدائي بالمدرسة العمومية. والشيء نفسه حدث مع خلفه سعيد أمزازي، الذي عمل الأستاذ الصمدي تحت مأموريته، إذ تابعَ نفس النهج بإرسال المذكرات الداعية لتطبيق فرنسة المواد العلمية حتى قبل صدور القانون الإطار في الجريدة الرسمية، وهو ما كنا نتابع التعليق عليه في حينه. وحينها لم يصدر عن الأستاذ الصمدي، وهو عضو في الحكومة، أي رد فعل يستنكر ما وقع. بل لقد دعا الوزير أمزازي عند بداية شهر مارس 2019 ، في خطوة استباقية، رؤساء الجامعات للاجتماع وطلب منهم بطريقة فِجّة إصدار بيان يدعون فيه إلى فرنسة التعليم في مرحلتيه الابتدائية والثانوية، وذلك من أجل توجيه النقاش والتأثير عليه حين طرحت مسودة القانون في البرلمان وتعثَّر خروجها، ويومها كان الأستاذ الصمدي مسؤولا عن التعليم العالي وعن رؤساء الجامعات، فلم ينبس ببنت شفة ولم يقل كلمة في معارضة رئيسه المباشر. ثانيا: الفقرة المذكورة من القانون لم تُحدّد المستوى التعليمي الذي يُشرَع فيه بتدريس هذه المواد باللغة الأجنبية. وتَركُ تلك الثغرة وعدمُ التحديد كانا مقصودَين ومتعمدَّين وليسا إهمالاً أو نسيانًا، وذلك ليمكن استغلالهما من أجل تعميم التراجع عن تعريب تلك المواد على كل مراحل التعليم (من الابتدائي إلى نهاية الثانوي). وهذا ما تم الإسراع بإنجازه عمليا في الميدان، بينما كانت الرؤية الاستراتيجية، على الأقل، تنص على أن تدريس بعض المضامين أو المجزوءات لا يُشرَع فيه إلا في مرحلة التعليم الإعدادي والثانوي التأهيلي. وإن كان هذا لا يعني بدوره أن التراجع عن تعريب تلك المواد سيقف عند تلك المرحلة ولا يتجاوزها إلى السك الابتدائي. ثالثا: أن القانون ينص بالحرف على استعمال اللغة الأجنبية في تدريس «بعض المواد ولاسيما العلمية والتقنية»، بينما كانت الرؤية الاستراتيجية تنص على تدريس «بعض المضامين أو المجزوءات»، وليس تدريس المواد. وهناك فرق كبير بين تدريس بعض المضامين والمجزوءات وتدريس المواد بكل مضامينها ومجزوءاتها. وطبعا عندما يستعمل القانون عبارة ʺبعض الموادʺ، فالذين يطبقون هذا القانون يفسرون البعض بالكل. وهذا ما يحدث عمليا وفعليا في الميدان. فالتراجع شملَ كل المواد وليس بعضَها. والخلاصة، أن التراجع عن تعريب المواد العلمية والتقنية تحصيل حاصل، حتى مع فرض أن المقصود باللغة الأجنبية (أية لغة أجنبية؟) هو لغة أخرى غير الفرنسية. وهذا التراجع لم يقتصر على السلكين الإعدادي والثانوي كما جاء واضحًا في الرؤية الاستراتيجية، وإنما أصبح شاملاً لكل مراحل التعليم كما بيّنا. فلا حاجة للمغالطة والاستغفال. على أن اعتراضنا على القانون الإطار ليس لكونه عوّضَ اللغة الوطنية باللغة الفرنسية على وجه التحديد، بل لأنه عوَّضها بلغة أجنبية سواء كانت هي الفرنسية أو أية لغة أجنبية أخرى، بينما كان المفروض أن نبقي على تجربة تعريب الابتدائي والثانوي ونعمل على تجويدها وتصحيح مسيرتها إن كان فيها ما يدعو للتصحيح، وتعزيزها بخطة أخرى عملية لا ورقية، بالشروع التدريجي في تدريس المواد العلمية في مرحلة التعليم العالي، وفق مخطط زمني وبيداغوجي وعلمي مدروس. ولا تقل لي إن القانون الإطار دعا إلى فتح إمكانية استعمال العربية في تدريس بعض المواد بالمرحلة الجامعية، فهذا الأمر ليس جديدًا ولا يد لكم في اختراعه، إذ كان موجودًا في الميثاق الوطني منذ 1999، بما هو أوضح وأدق، ولاسيما أنه جاء معزّزا بقرار إحداث أكاديمية محمد السادس للغة العربية، وبقرار الإبقاء على تعريب التعليم الابتدائي والثانوي. وقد كانت الفرصة أمامكم سانحة جدا لتطبيقه كما توقعنا خطأ، لكنهم جمَّدتم، أنتم المسؤولين في حكومتي ابن كيران والعثماني، ما جاء به الميثاق في هذا الشأن، وقبَرتُم نهائيا أكاديمية محمد السادس، وتوّجتم كل هذه المهازل بالانتكاسة المدوّية المتمثلة في قانون التراجع عن استعمال العربية في تدريس العلوم والتقنيات وترسيخ أقدام الفرنسة والذهاب بها إلى أبعد حدودها، وإعادة النقاش حول المسألة اللغوية في التعليم إلى نقطة الصفر بعدما كنا قطعنا أشواطًا إيجابية في الموضوع. أكل هذا تتباهون به وتتمادحون، وتعتبرونه مفخرةً تعتزون بها وتجاهرون بمزاياها، بينما كان المفروض أن تداروا خيبتَكم وتعتذروا للشعب المغربي، وتقضوا بقية عُمركم في الاستغفار وطلب التوبة مقابل ما اقترفتموه من جناية عظمى في حق لغة الوطن والأمة!! أما فَرْنَسة التعليم الأوَّلي: فأمرها واضح. ذلك أن المادة رقم 8 من القانون تنص على «إرساء التعليم الأوّلي وفتحه في وجه جميع الأطفال المتراوحة أعمارهم ما بين أربع وست سنوات، والشروع في دمجه تدريجيا في التعليم الابتدائي في أجل ثلاث سنوات (…) على أن يتم فتحه في وجه الأطفال البالغين ثلاث سنوات بعد تعميمه». وبما أن التعليم الأوّلي الذي يبدأ من السن الثالثة للطفل، قد أصبح إلزاميا بنص هذه المادة والمادة 19 من القانون نفسه، فمعنى ذلك أن اللغة الفرنسية في هذا السلك قد أصبحت بدورها إلزامية. والذي يفسر هنا إلزامية هذه اللغة هو الرافعة 13 من الرؤية الاستراتيجية التي نصّت بشكل لا لبس فيه على أن لغتي التعليم في هذا السلك هي العربية والفرنسية. وهذه المرة لم يكن هناك أي التباس، إذ لم تستعمل عبارة (اللغة الأجنبية) وإنما استعملت عبارة (اللغة الفرنسية). ولا يمكن التهرب من هذا الأمر بالادعاء أن القانون الإطار لم ينص على اللغة التي تدرَّس في هذا السلك، لأن الرؤية الاستراتيجية التي هي المرجع الأول والأساس في تفسير كل ما جاء غامضا أو ملتبسا في القانون الإطار، قد بيَّنت ذلك بكامل الصراحة والوضوح. خلاصة هذه النقطة إذن، هي أن الفَرْنَسة أصبحت إلزامية على كل أطفال المغاربة منذ السن الثالثة أو الرابعة. وهذا تراجع كبير وخطير عن المكتسبات السابقة. ففي الميثاق الوطني للتعليم الذي كان مطبّقا إلى غاية 2019، جاء النص في مادته 117 على ما يلي: «يُدرَج تعليم اللغة الأجنبية الأولى في السنة الثانية من السلك الأول من المدرسة الابتدائية، مع التركيز خلال هذه السنة على الاستئناس بالسّمع والنطق. ويُدرَج تعليم اللغة الأجنبية الثانية ابتداء من السنة الخامسة من المدرسة الابتدائية، مع التركيز خلال هذه السنة على الاستئناس بالسمع والنطق». كان الأطفال قبل 2019، إذن، مُطالَبين بالشروع في دراسة الفرنسية وهم في سن السابعة أو الثامنة، والإنجليزية في سن العاشرة. وهذا معقول نسبيًّا، فأصبح، تعليم الفرنسية، بمقتضى القانون الجديد، إجباريًّا منذ السن الثالثة أو الرابعة من عمر الأطفال. فهل هذا تراجع واضح أم مجرد افتراء نفتريه وادعاء ندَّعيه؟ وهل هو تعميم للفرنسية وترسيخ لجذورها منذ نعومة أظافر الأطفال إلى آخر مراحل التعليم، أم هو مجرد ادعاءات ومغالطات ومزاعم وحماس وتسرع وانفعال، مما تنعتون به معارضي القانون المذكور وقد أعلنت جماعة منهم موقفها الجماعي الصريح في بلاغ صادر في 7 غشت 2019؟ أما ما جاء في القانون الإطار من عبارات لدغدغة العواطف كالعبارة الواردة في (المادة 31) من «اعتماد اللغة العربية لغة أساسية للتدريس»، فهي لازمة من لوازم الكلام تقال كثيرًا وتستعمل قليلاً. على أن هذا لا ينفي بحال ما قلناه من كون القانون قد نص على تدريس المواد العلمية والتقنية باللغة الأجنبية، ولا ينفي كون الفرنسية أصبحت تدرَّس للأطفال منذ السن الثالثة أو الرابعة. ولا ينفي بحال ما جاء في هذه المادة (31) أيضا من تأكيد لتدريس المواد العلمية باللغة الأجنبية (الفرنسية)، وهو بالنص: «إعمال مبدأ التناوب اللغوي في التدريس كما هو منصوص عليه في المادة 2 أعلاه». وهنا أيضا يستعمل القانون الإطار، كما الرؤية الاستراتيجية، ألفاظا مجوَّفة للاستهلاك الشعبي، وعبارات دبلوماسية للتشحيم والترطيب، من قبيل: التناوب اللغوي، والهندسة اللغوية، والتعددية اللغوية ..الخ. وكلها ألفاظ لا تعني سوى الوصول للغاية الأساسية التي جاء من أجلها القانون الإطار والرؤية الاستراتيجية، ألا وهي فَرنَسة التعليم بالتراجع عن تعريب المواد العلمية، من جهة، وتعميم تدريس الفرنسية في كل أسلاك التعليم بما فيها التعليم الأوّلي، من جهة ثانية. هذه هي حقيقة ما جاء من أجله القانون الإطار وقبله الرؤية الاستراتيجية، وهو ما يهمني الحديث عنه، وهذا ما كنتُ قد وضحتُه من قبل في عدة مقالات ومناسبات. أما غير ذلك من المواد والنقط الأخرى التي حُشِيت بها صفحان النص القانوني، فهي مهما قيل عن فائدتها لا ترقى إلى أهمية موضوع اللغة وخطورة ما وقع فيها بعد هذا التحوّل الدراماتيكي العميق في الوقت الذي كانت كل الآمال معلقة على وجود العدالة والتنمية وأطرها في قاطرة قيادة الحكومة. فخابت تلك الآمال. ولا حول ولا قوة إلا بالله. ومن المؤكد حسب التجارب السابقة، أن ما يُطبَّق في المواثيق والبرامج والقوانين المعلنة حول التعليم، هو الجزء الذي كان مقصودًا عند وضعها وتحريرها، أما ما سوى ذلك فيظل نسيًا منسيّاً. وهذا ما حدث بالضبط مع الميثاق الوطني للتربية والتعليم، إذ طبّق منه ما يهم أصحاب القرار، وأهمل الباقي كقضية أكاديمية اللغة العربية وغيرها. كانت الحاجة ماسة إلى إيجاد إطار قانوني لإبعاد العربية عن مجال التعليم، وتعميق جذور الفرنسة في المجتمع إلى أقصى الحدود الممكنة، فحصلت الغاية على أيديكم وببركتكم وبركة من تعاونتم معه وتعاون معكم، وقُضي الأمر الذي فيه تستفتيان، فما جدوى التساؤل عن سبب تأخّر صدور المراسيم التنظيمية؟ وهل بعد هذا البيان، نستمر في تغطية الشمس بالغربال؟