تساءل خبير اللسانيات المغربي عبد العلي الودغيري عمن له المصلحة في القضاء على اللغة العربية في المغرب، وذلك على خلفية سعي البرلمان لمناقشة مشروع قانون يتبنى تدريس العلوم باللغة الفرنسية عوضا عن اللغة العربية. وأكد الدكتور الودغيري -له عدة أبحاث ومؤلفات في الدفاع عن اللغة العربية- في حواره مع الجزيرة نت أن القانون بصيغته الحالية سيتسبب في أعطاب وخسائر معنوية كبيرة على المتجمع المغربي وثقافته وهويته، خاصة مع تراجع اللغة العربية التي يعدها الدستور لغة رسمية إلى جانب الأمازيغية. ويتضمن مشروع القانون الذي وضعته الحكومة ستين مادة تتحدث عن تدابير تهم رفع جودة التعليم وتحقيق تكافؤ الفرص وإلزامية التعليم وتنمية تدريس اللغات الأجنبية. غير أن الخلاف اندلع بسبب مادتين، تتعلق أولاهما بتدريس المواد العلمية بالفرنسية، والثانية بإقرار رسوم بكيفية تدريجية على الأسر الميسورة لتسجيل أبنائها في مؤسسات التعليم العام، مما اعتبر ضربا لمجانية التعليم في البلاد. والدكتور الودغيري من مواليد أربعينيات القرن الماضي، ودرس بجامعتي فاس والرباط، ثم واصل دراسته في السوربون الفرنسية، وحصل على دكتوراه الدولة في اللغة العربية وآدابها. كما حصل الخبير المغربي خلال مساره الطويل في الدفاع عن اللغة العربية على جوائز عدة، آخرها جائزة الملك فيصل العالمية في دورتها ال41 في فرع اللغة العربية والأدب. وفيما يلي نص الحوار: – مشروع القانون بشأن إصلاح التعليم والضجة التي أحدثها.. لماذا كل هذا الانزعاج؟ – لأن هذا المشروع المعروض على البرلمان للتصويت عليه نعتبره انتكاسة وانقلابًا على المشروع الوطني في مجال التعليم الذي حققنا فيه بعض المنجزات طيلة العقود الماضية، بعد كفاح وإصرار مستميتين من النخب المثقفة الواعية والطبقة السياسية المتنورة، رغم أن تلك المنجزات كانت دون طموحنا وما كان منتظرًا إنجازُه خلال فترة تزيد عن ستين عاما. فبعد لأيٍ وتماطل طويلين وصراع طويل النفَس مع اللوبي الفرنكفوني وحلفائه في الداخل والخارج، استجابت الدولة بأن أقدمت خلال سبعينيات القرن الماضي على خطوة أولى في طريق تعريب المواد الدراسية التي كانت مفرنَسة منذ بداية الاستقلال، إذ تمَّ تعريب المواد الاجتماعية (التاريخ والجغرافيا) والفلسفة في كل أسلاك التعليم. ومع بداية الثمانينيات، وبعد صراع مرير وانتظار طويل، انتقلنا إلى الخطوة الثانية بتعريب المواد العلمية الأخرى من رياضيات وهندسة وعلوم تجريبية وطبيعيات، وكان ذلك بالتدريج سنة بعد سنة، إلى أن تخرّج أولُ فوج من الحاصلين على البكالوريا (الشهادة الثانوية العامة) العلمية المعرّبة عام 1990. – ولماذا توقفت عجلة التعريب؟ – كان يفترض أن يواصل التعريبُ طريقَه في الجامعة ومؤسسات التعليم العالي على اختلافها بشكل تدريجي وعلى مراحل وبخطى ثابتة لا رجعة فيها، ولكن الإرادة السياسية لم تكن متوفّرة لإتمام هذا المشروع كما كنا نأمل، فتوقف التعريب عند مرحلة البكالوريا. واليوم، وبعد عقود وسنوات طويلة (قرابة أربعين عاما مضت على تجربة تعريب المواد العلمية)، وبعد تخرّج 29 فوجًا معرّبا من حاملي البكالوريا، يأتي مشروع القانون الجديد ليعيدنا إلى المربّع الأول كما يقولون وينقلب بشكل فجائي وتعسّفي على كل ما تمَّ إنجازُه.. ذلك نوع من العبث، فهو ينصُّ صراحة على العودة لتدريس المواد العلمية بالفرنسية في كل أسلاك التعليم. منذ الروضة! – وماذا عن إلزامية تدريس الفرنسية منذ الروضة؟ – القانون ينص أيضًا على إلزامية تعليم الفرنسية بدءًا من مرحلة الروضة خلافًا لكل توصيات خبراء التربية والتعليم الذين ينادون بتخصيص المرحلة الابتدائية أو أغلبها لترسيخ اللغة الوطنية وتثبيتها قبل البدء في تعلّم أي لغة أجنبية. مع العلم بأن فرض اللغة الأجنبية على الأطفال الصغار قبل سن التمدرس العادي، يعتبر سابقة في تاريخ المغرب كله، ولم يحدث هذا حتى خلال مرحلة الاحتلال.. من قبل، كان تعليم اللغة الأجنبية الأولى يبدأ من السنة الثانية أو الثالثة من الابتدائي، وهذا ما كان مقرّرا على الأقل في الميثاق الوطني للتعليم الذي أقر عام 1999. هذا القانون انقلب حتى على الرؤية الإستراتيجية للتعليم التي أصدرها المجلس الأعلى للتعليم عام 2016 رغم ما فيها من عيوب وثغرات، فهي على كل حال تنص على أن اللغة العربية هي اللغة الأساسية في تعليم كل المواد العلوم، على أن تُستعمل الإنجليزية والفرنسية بالمرحلة الثانوية في تلقين بعض المجزوءات والمضامين من بعض المواد، وليس تلقين المواد الدراسية (هناك فرق واضح ودقيق بين تدريس كل المواد العلمية وبين تدريس بعض المضامين أو بعض المجزوءات منها)، وذلك على أساس الشروع في تهيئة التلاميذ للمرحلة الجامعية التي تُلقَّن فيها العلوم التجريبية والبحتة باللغة الأجنبية. لكن مشروع القانون جاء مخالفا لذلك، فنحَّى اللغتين العربية والإنجليزية وأبقى على الفرنسية، بل جعلها لغةً وحيدة لتدريس المواد العلمية كلها في كل أطوار التعليم. – ما خطورة هذا القانون على مستقبل التعليم في المغرب؟ – هذا القانون سيرهن مستقبل التعليم المغربي لمدة 15 عاما على الأقل، مما سيجعل التراجع عنه أو مراجعته وإصلاحه بعد إقراره أمرًا صعبا للغاية إن لم يكن مستحيلا. ونحن لا نريد أن يصدر قانون ملزِم بهذا الشكل إلا بعد أن يحظى بتوافق حقيقي بين جميع الشركاء في الوطن وفي العملية التعليمية، ولا نريد أن تظل بلادنا حقلا للتجارب الفاشلة والمتضاربة. لذلك نرى أن مناقشة مشروع القانون في هذا الجانب وغيره من الجوانب الأخرى، تحتاج إلى وقت كافٍ لإنضاج توافق حقيقي حول مسائل ترهن مستقبل المغرب لمدى بعيد أو متوسط. إقرار هذا القانون بصيغته الحالية ستترتب عنه أمور خطيرة في المستقبل، منها: الانتقال إلى طور جديد وحاسم من فرنسة المجتمع المغربي أكثر مما هو عليه، والقضاء على كل أمل قريب للتراجع أو إصلاح ما يترتّب على ذلك من أعطاب وخسائر معنوية كثيرة ذات آثار سيئة على ثقافة المجتمع المغربي وثقافته وهويته. كما سيقضي على كل محاولة جدّية لتنمية لغتنا وتطويرها واستعمالها في كل المجالات، لأن اللغة كما هو معلوم، لا يمكن أن تنمو وتتطور بعيدًا عن الاستعمال في المجالات الحيوية كالعلوم والتقنيات والاقتصاد وغيرها. ونحن -بهذا القانون الجديد- سنكون قد خالفنا منطوق الدستور ومفهومه، وعملنا بمحض إرادتنا على إضعاف لغتنا وتقوية لغة أجنبية ذات حمولة سيئة في ذاكرة المغاربة، لأنها مرتبطة في أذهاننا وتاريخنا بالدولة التي استعمرتنا وحاربت العربية والإسلام وأحدثت شروخا عميقة في المجتمع المغربي، وافتعلت الصراع العرقي والثقافي بين مكوّناته. وللعلم فإن اللغة الفرنسية التي يُراد تعميق وجودها في المجتمع المغربي، لم تعد ذات قيمة علمية مقارنةً مع الإنجليزية، فهي لغة منتهية الصلاحية من الناحية العلمية، كما يعرف الجميع. الخلاصة أن كل ما غزلناه من قبل جاء المشروع لينقُضه ويَنسفه جملة وتفصيلا. بل إن العربية ستتقهقر وتتراجع خطوات إلى الوراء بعد أن كنا نريد التقدم إلى الأمام، علما بأن الدستور المغربي ينص في فصله الخامس على ضرورة تنمية هذه اللغة وتطويرها والمحافظة عليها. أين المتخصصون؟ – هل اختيار لغة التدريس قضية يحسمها السياسيون أم الخبراء؟ – الخبراء يقولون رأيهم ويدلون باقتراحاتهم، ولكن القرار الفصل بيد السياسيين الذين يتولون الأمور. وما نستنكره في هذا القانون -إضافة إلى ما سبق- أن واضعيه لم يأخذوا في الحسبان رأي الخبراء ولم يريدوا الاستماع إليهم والعمل بنصيحتهم، لأنهم اعتبروا أن القرار قرارهم وحدهم. ومع ذلك فإن كثيرًا من الخبراء الحقيقيين الأكفاء قالوا كلمتَهم ورفعوا أصواتهم وعبروا عن رأيهم في مختلف المنابر الإعلامية والمنتديات الثقافية والعلمية حسب ما أمكن وما أتيح لهم، رغم أنه لم يُطلب منهم ذلك بصفة رسمية. – لماذا يغيب الخبراء والمتخصصون عن مثل هذه القضايا التي تهم كل المغاربة؟ – الخبراء والمثقفون ليسوا غائبين تمامًا، لكنهم مغيَّبون، بمعنى أن السياسيين لا يريدون سماع رأيهم، لأنهم يعرفون من قبل أنهم لن يوافقوا على كل ما جاء به القانون في النواحي التي نتحدث عنها. وأحيانا يحدث أن يتم إبعاد الخبراء النزهاء الأكفاء والإتيان بأشخاص مُوالين لأصحاب القرار أو غير مؤهلين، وكثيرًا ما يلجؤون إلى خبراء أجانب -فرنسيين خصوصا- يختارونهم اختيارًا، فيدلون بفتاوى حسب الطلب، لا سيما أن المسألة تتعلق بالفرنسية التي تُزاحِم العربية وتنافِسُها، فلا يمكن أن تنتظر من هؤلاء الخبراء الفرنسيين أو الفرنكفونيين أن يشهدوا للعربية ويزكّوها ويدعموها. إننا نعرف الكثيرين منهم بأسمائهم وصفاتهم ومواقفهم السلبية بل المعادية للغة العربية ولا سيما الفصحى، وكثير منهم منخرط في مخططات منظمة الفرنكفونية بصفة أو بأخرى. بل يمكن القول إن كثيرا من التصورات والسيناريوهات التي تُطرح علينا في مجال التعليم يكون مصدرها منذ البداية هؤلاء الخبراء المستقدَمين من الخارج، بينما نحن في المغرب نتوفر على خبراء على درجة كبيرة من الخبرة والتجربة والدراية، لكنهم مهمّشون. تدريس اللغات – لغة التدريس وتدريس اللغات، كيف تشرح كخبير خطورة الخلط بينهما؟ وهل الأولى ضد الانفتاح؟ – الأمر واضح وضوح الشمس، إلا لمن أراد قاصدا ومتعمدا المغالطة وتشويه الحقيقة، فموضوع النقاش ليس هو تدريس اللغات وتعلّمها وإتقانها. لا أحد يجادل في ضرورة تعلم اللغات الأجنبية والتبحر فيها، ولا أحد يقف ضد دراسة الفرنسية بالذات ولا ضد غيرها من اللغات وتعلمها باعتبارها أدوات للانفتاح على العالم وتحصيل المعرفة، ولغايات ومزايا أخرى كثيرة. وإنما موضوع النقاش هو: هل نجمّد لغتنا العربية وهي اللغة الوطنية والرسمية المشتركة بين جميع المغاربة ونركنها جانبا، خلافا للدستور الذي هو المرجع القانوني الأعلى في البلاد، ونمنعها بالقوة القانونية من الاقتراب من المجالات العلمية والتقنية، أم نواصل دعمَ موقعها والتمكين لها حتى تكتسب ما نرجو لها من نمو وتطور وتقدم، باعتبار أن اللغة لا تنمو ولا تتطور إلا بإقحامها في كل المجالات؟ والسؤال الملح الذي يطرحه الكثيرون هو: لماذا تحتكر الفرنسية وحدها مجال تدريس العلوم، مع أن هناك لغة عالمية أخرى أحق منها بهذه الوظيفة وهي الإنجليزية التي يلجأ إليها الفرنسيون أنفسُهم في معاهدهم العليا وبحوثهم المتخصصة؟ وقبل أشهر قليلة طلع علينا في وسائل الإعلام وزير التربية والتعليم الفرنسي وهو يدعو الفرنسيّين إلى ضرورة إتقان الإنجليزية باعتبارها لغة العولمة التي لا مفر لهم من التعامل معها. والرؤية الإستراتيجية نصت على حل يبدو مقبولا إلى حد ما في المرحلة الحالية، وهو اعتماد العربية لغة أساسية في تعليم كافة المواد الدراسية في المرحلتين الابتدائية والثانوية، مع إمكانية اللجوء إلى لغة أكثر نفعًا (الإنجليزية) في تدريس بعض المجزوءات والمضامين العلمية في المرحلة الثانوية، وإلى الفرنسية أيضا لنفس المهمة. ولكن مشروع القانون الذي نتحدث عنه تجاوز هذا الإطار وطرح أمورًا جديدة، وهو ما نعتبره موقفا سياسيا لا علميا ولا موضوعيا، يترتب عنه تكريس التبعية اللغوية والثقافية، ومزيد من الهيمنة الفرنكفونية الآخذة في اكتساح كل مجالات الحياة. وهذا ضد أفكارنا ومبادئنا التي بيّناها في مناسبات وكتابات كثيرة.. نحن منفتحون أكثر من غيرنا على تعلّم اللغات، ولاسيما ذات النفع والمردودية العليا، ولا أحد يمكن أن يزايد علينا في هذا الموضوع. ولكننا في الوقت نفسه لا يمكن أن نقبل التخلي عن لغتنا وهويتنا العربية الإسلامية والتضحية بها لصالح لغة أجنبية نعلم جيدا خطر هيمنتها الثقافية، لأن اللغة هي الشيء الذي يختزل التعبير عن كل ذلك، ولا أن نقبل مزيداً من التبعية والاستلاب الثقافي والحضاري أكثر مما نحن فيه. إننا شعب ينتمي إلى أمة ذات حضارة عظيمة وثقافة غنية وتراث علمي وفكري قل نظيره لدى الأمم الأخرى، فلماذا كل هذا الانبطاح والارتماء في أحضان غيرنا؟ هذا هو المشكل الحقيقي بتلخيص شديد. النهضة هي اللغة – بخصوص ارتباط اللغة بالمعرفة والتنمية، هل بإمكان أمة أن تنهض بغير لغتها؟ – لا أعرف أمة ولا دولة سبق لها أن تمكَّنت من تحقيق النهضة والتنمية الشاملة لنفسها بلغة أجنبية.. أعطوني مثلا واحدا، والسبب أن اللغة ليست مجرد أداة لحمل المعارف ونقلها بكل أمانة دون أن تترك أثرها العميق في ذهن المتلقي وثقافته وسلوكه وعاداته ونمط تفكيره وتوجهه في الحياة ورؤيته للعالَم. اللغة عنوان مركَّز جدا يلخِّص كل ما في المجتمع من خصائص ثقافية وفكرية وتاريخية، ويعبِّر بكل دقة عن انتمائه الحضاري والديني، وعن وجوده وكينونته وشخصيته وهويته التي يتميَّز بها عن غيره. فهي إذن من أخصّ الخصائص والصفات التي تلتصق بالإنسان ولا تحيد عنه، وهي أشبه ما تكون بجيناته البيولوجية التي بها يُعرَف ويُعرَّف. وقد بيَّنت في عدة مناسبات ولا سيما في كتابي "لغة الأمة ولغة الأم"، أن نشر المعرفة وتعميمها على أفراد المجتمع وطبقاته بالتساوي، ونقل ما يُستورد منها ويُنقَل إليها من أُمم أخرى، وتوطينه واستنباته فيه، وهضمه واستيعابه وتمثُّله (وهو الشرط الضروري والأساسي في كل تنمية شاملة)، لا يمكن أن يتم بالشكل الناجح، ومن غير كلفة مالية مرتفعة، وفي أقصر وقت ممكن، إلا باللغة الوطنية المشتركة. حتى اللهجات واللغات المحلية الصغيرة ذات التجربة المحدودة لا تستطيع ذلك، أو قد تستطيعه لكن بعد مدة طويلة. وكذلك لا بد منها في إيجاد تماسك وتلاحم بين مكونات هذا المجتمع ورصّ صفوفه لتحقيق الأمن والسلم والاستقرار، وهي أمور كلها مطلوبة أيضًا بصفة ملحة لتحقيق التنمية. ولذلك ننادي بضرورة أن تُكيَّف برامجنا التعليمية في المراحل كلها لخدمة هذا الهدف النبيل الرامي إلى تحقيق التنمية الشاملة الحقيقية والإقلاع الحضاري الذي ننشده. وهذا لا يمكن أن يتحقق -كما قلت- إلا باستعمال اللغة الوطنية المشتركة وهي اللغة العربية في حالتنا بالمغرب. من أبسط قوانين الهندسة أن أقصر الخطوط هو الخط المستقيم، وأنا أقول: أقصر طريق للنهضة والتنمية هو اللغة الوطنية المشتركة، لأنها بمثابة الخط المستقيم. – في حال تبني الفرنسية لغةً للتدريس وهي اللغة التي ما تزال متغلغلة في المغرب، ما هي المآلات التي تتصورها لهذه الخطوة؟ – في هذه الحال سنواصل العمل والمقاومة لسياسة الفرنسة وتغريب المجتمع وتعميق التبعية والاستلاب. إننا نعتقد أننا حصلنا على استقلالنا الترابي منذ العام 1955، ولسنا مستعدين للاعتراف مرة أخرى بغزو أشد وأنكى وهو الغزو الثقافي واللغوي.. لسنا مستعدين للترحيب بالاحتلال الذي يأتينا من النافذة بعد أن أخرجناه من الباب.. نتعلم الفرنسية ونستفيد منها ومن ثقافتها وحضارتها، نعم.. نتقنها، نعم.. نتعاون معها، نعم.. ولكن ليس إلى درجة إهمال لغتنا والتضحية بها أو حتى منافستها وإضعافها. إننا نعمل من أجل التحرر من التبعية وإعطاء السيادة للغتنا الوطنية فوق أرضها وترابها، وإتاحة الفرصة لها كي تنمو وتتطور، وإعطاء الفرصة للأمازيغية أيضا باعتبارها لغة وطنية ثانية، كي تنهض وتتطور وتتعاون مع أختها العربية في القيام بالوظائف المنوطة بكل واحدة منهما، كل حسب إمكانياته وقدراته، وفتح الأبواب لتعلم كل ما هو مفيد ونافع لأبنائنا وأحفادنا من اللغات العالمية، باختيارنا وإرادتنا دون فرض ولا إكراه. حماية اللغة حماية للبلد – ما هي الإجراءات الواجب اتخاذها من طرف الدولة المغربية لحماية هويتها ومستقبلها عبر حماية اللغة العربية؟ – ما ننتظره من الدولة كثير، وكله مختصر في جملة واحدة هي التفعيل الإيجابي للفصل الخامس من الدستور، الذي يعتبر اللغة العربية لغة رسمية للبلاد وبجانبها الأمازيغية، وينص على ضرورة حمايتها وتنميتها وتطويرها بكل الوسائل الممكنة. وهذا يتطلب اتخاذ خطوات ملموسة وعملية من بينها: 1- أن تحرص الدولة بوسائلها المختلفة والمتعددة على استعمال العربية في كل مجالات الحياة بلا استثناء، بما في ذلك استعمالها في تدريس كل المواد العلمية والتقنية في كل مراحل التعليم ومن ضمنها العالي والجامعي. ولذلك خطوات وإجراءات يمكن القيام بها إذا توفرت الإرادة السياسية والنية الصادقة. 2- أن تنخرط بكل ثقلها وإمكانياتها في ورشة حضارية وعلمية وثقافية كبيرة تتمثل في ترجمة الكتب العلمية المختصة إلى العربية وتشجيع الأساتذة والباحثين على القيام بذلك، فهذا يساعد على تدريس العلوم بهذه اللغة، وفي الوقت ذاته يعمل على تنمية لغتنا وتطويرها. 3- إصدار قانون لحماية العربية واحترامها اقتداء بعدد من الدول العربية والأوروبية -وفرنسا في مقدمتها- التي وجدت أن لغتَها بحاجة إلى مثل هذا القانون الذي ينص في العادة على جزاءات وغرامات للمخالفين. 4- تفعيل القانون الصادر بالجريدة الرسمية عام 2003 والقاضي بإنشاء أكاديمية محمد السادس للغة العربية. فتجميد هذا القانون وحده يطرح عدة أسئلة محيّرة: هل دولتُنا لا رغبة لها في تنمية هذه اللغة وتطويرها؟ فهذه هي المهمة التي أناطها القانون بتلك المؤسسة العلمية، مثل تقديم الاقتراحات العملية بناء على توصيات الخبراء لمعالجة كل النواحي التي تتعلق بتطوير اللغة الوطنية وتنميتها وتيسيرها وتجديد طرق تعليمها ونشرها ووضع المصطلحات، وغير ذلك من الأمور. أنا شخصيا لا أدري ما الذي يخيف الدولة من إحداث هذه الأكاديمية بالمواصفات التي جاءت في قانون تأسيسها، وليس بالشكل الذي يجعلها تذوب في شكل كيان صغير لا قيمة له وسط مجموعة من المؤسسات البيروقراطية داخل المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية؟!