غارات إسرائيلية تخلف 19 قتيلا في غزة    توقعات أحوال الطقس ليوم السبت        بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    موتسيبي يتوقع نجاح "كان السيدات"    الصويرة تستضيف اليوم الوطني السادس لفائدة النزيلات    ضمنهم موظفين.. اعتقال 22 شخصاً متورطين في شبكة تزوير وثائق تعشير سيارات مسروقة    موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    طقس حار من السبت إلى الاثنين وهبات رياح قوية مع تطاير الغبار الأحد بعدد من مناطق المغرب    صادرات الصناعة التقليدية تتجاوز 922 مليون درهم وأمريكا تزيح أوروبا من الصدارة        الرئيس الصيني يضع المغرب على قائمة الشركاء الاستراتيجيين    افتتاح أول مصنع لمجموعة MP Industry في طنجة المتوسط    خبراء: التعاون الأمني المغربي الإسباني يصد التهديد الإرهابي بضفتي المتوسط    الإكوادور تغلق "ممثلية البوليساريو".. وتطالب الانفصاليين بمغادرة البلاد    وهبي: أزماتُ المحاماة تقوّي المهنة    حكيمي لن يغادر حديقة الأمراء    المغرب التطواني يُخصص منحة مالية للاعبيه للفوز على اتحاد طنجة    ابن يحيى تشارك في افتتاح أشغال المنتدى البرلماني السنوي الأول للمساواة والمناصفة    المحكمة توزع 12 سنة سجنا على المتهمين في قضية التحرش بفتاة في طنجة    بوريطة: المقاربة الملكية لحقوق الإنسان أطرت الأوراش الإصلاحية والمبادرات الرائدة التي باشرها المغرب في هذا المجال    من العاصمة .. إخفاقات الحكومة وخطاياها    مجلس المنافسة يفرض غرامة ثقيلة على شركة الأدوية الأميركية العملاقة "فياتريس"        لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد: انطلاق عملية 'رعاية 2024-2025'    هذا ما قررته المحكمة في قضية رئيس جهة الشرق بعيوي    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    "أطاك": اعتقال مناهضي التطبيع يجسد خنقا لحرية التعبير وتضييقا للأصوات المعارضة    مجلس الحكومة يصادق على تعيين إطار ينحدر من الجديدة مديرا للمكتب الوطني المغربي للسياحة    المحكمة الجنائية الدولية تنتصر للفلسطينيين وتصدر أوامر اعتقال ضد نتنياهو ووزير حربه السابق    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    قانون حماية التراث الثقافي المغربي يواجه محاولات الاستيلاء وتشويه المعالم    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    الغربة والتغريب..    كينونة البشر ووجود الأشياء    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    ما صفات المترجِم الناجح؟    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    العربي القطري يستهدف ضم حكيم زياش في الانتقالات الشتوية    رابطة السلة تحدد موعد انطلاق الدوري الأفريقي بالرباط    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !        تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خبير لساني يسأل: من يعادي التعددية اللغوية بالمغرب؟

أقر الدستور المغربي الجديد سنة 2011 ضربا من السياسة التعددية اللغوية Multilingualism ، ترتكز بالأساس على لغتين رسميتين وطنيتين، وهما العربية والمازيغية، وعلى لغتين "للانفتاح العلمي والثقافي-الحضاري (الأكثر انتشارا في العالم) لعلهما، في الممارسة المغربية، الفرنسية والإنجليزية.
ويغتني هذا التعدد اللغوي بتنوع ثقافي Cultural diversity في إطار الوحدة Unity، ينبغي أن يشمل التنوعات الثقافية واللهجية، سنضعه جانبا في هذا النقاش.
ورغم أن الخطابات الرسمية في مختلف المناسبات تتباهى بهذا الأنموذج التعددي الجديد في تدبير اللغات والثقافات (أو الثقافة بالمفرد، كما في الدستور)، ورغم أن النقاشات العمومية والأدبيات لم توضح بعد بما يكفي معالم هذه التعددية، بأصولها ومصادرها وأبعادها وآليات تصريفها، لكي تصير مفهومة ومقبولة من لدن من ستطبق عليهم، أي المواطنين (الذين كان من المفروض أن يستشاروا أو يستفتوا بشأنها وشأن تفاصيلها)، في مختلف المجالات، وخاصة في التعليم، ورغم أن الخطة الإستراتيجية لإصلاح "أنظمة التربية والتعليم والتكوين والبحث العلمي" تبشر بتعددية في التعليم التأهيلي والعالي (على وجه الخصوص)، فإن بعض المسؤولين السياسيين وبعض النخب الفكرية والثقافية ما زالوا يتبارون في الممارسة والحجاج من أجل إقرار خطة لغوية أحادية monolingual، تنفرد فيها اللغة الفرنسية بتدريس المواد العلمية والتقنية، بدءا من التعليم الإعدادي إلى التعليم الجامعي. وضدا على لوحت به الخطة الإستراتيجية للتعليم من "تناوب للغات" (وإن بصفة غير دقيقة)، فإن وزير التربية الوطنية، السيد رشيد بلمختار، سارع إلى ترجمة الأنموذج الجديد عبر فرنسة أحادية، لاغيا في الوقت نفسه الحاجة إلى التدريس باللغة الرسمية الوطنية المؤهلة (وما تراكم في التعليم بهذا الشأن)، وتوسيع مجال استعمالها والنهوض بها، والحاجة إلى التدريس باللغة الإنجليزية، التي يجمع العلماء وأصحاب الخبرة على أنها لغة العلم الأولى عالميا.
وإذا استثنينا بعض الدول غير النامية القليلة التي عانت ولازالت تعاني من مخلفات الاستعمار واستبقاء توجهاته اللغوية (مثل بعض الدول الإفريقية الضعيفة)، فإننا لا ندري أي نموذج لغوي سياسي نهضوي يحاكيه السيد الوزير، وهل طبق في التعليم في أي دولة على ظهر البسيطة هذا النوع الأحادي غير الوطني ونال النجاح في رفع الاختلالات ذات الصلة؟، هل وقع ذلك في إيران أو إسرائيل أو كوريا، أو اليابان، أو أوروبا، الخ؟ ففي كل هذه الدول وغيرها يدرس التلميذ-الطالب المواد العلمية والتقنية (إضافة إلى المواد الأخرى) بلغته الوطنية، وليس بلغة أجنبية.
ورغم أن التعليم اليوم في جل البلدان ينزع إلى أن يكون ثنائيا أو تعدديا، نتيجة عولمة تعليم المواد المذكورة، فإن هذه الدول تلجأ إلى تعليم "دولي"، أي تعليم بعض المواد أو بعض المجزوءات داخل المواد باللغة الدولية، وما هو معياري في هذا الصدد هو أن يقصد باللغة الدولية الإنجليزية. وهي لغة مكملة داعمة، وليست لغة منفردة بتعليم المادة بكاملها، إلا في الدول الضعيفة كذلك .
ولأن المغرب بلد صاعد يتبوأ ويتوق إلى أن يلعب دورا متميزا في المنتظم الدولي، سياسيا واقتصاديا وثقافيا، فلا يمكن أن نتصور أنه يمكن أن يأخذ قرار استصغار لغته (أو لغاته)، وأن يقر بالتبعية اللغوية والثقافية، بل الأجدر به أن يتبنى تعددية لغوية وثقافية استشرافية ومتزنة، تمكنه من الحفاظ على استقلاليته من جهة، ومن جني فوائد التعليم بلغتين (أو أكثر) من اللغات الأكثر انتشارا في العالم، طبقا للأحكام ذات الصلة الواردة في الدستور. ما هو مطلوب إذن في التخطيط لاختيار لغات التعليم هو إقرار توازن بين الهوياتية والأداتية (الكونية) في الاختيار، أو بالأحرى البحث عن "القسمة العادلة" التي تمكن من عدم تضييع فرص المتعلم، عبر اللغة الوطنية، من جهة، وفرصه عبر اللغتين الأجنبيتين، من جهة أخرى.
فما هي القسمة العادلة والمعقولة في مجال اللغات؟ ..إن الدستور يشير في مادته الخامسة إلى ضرورة إتقان (المتعلم المغربي) اللغتين الأجنبيتين الأكثر تداولا في العالم. وقد أشرنا في عدة مناسبات (وهذا ليس اكتشافا) إلى أن الإنجليزية أولها بدون منازع، والفرنسية ثانيها (على الأقل بالنسبة للمغاربة).
نحن لا نريد التفريط في الفرنسية، ولا أحد دعا إلى هذا، ولكننا لا نريد التفريط في الإنجليزية كذلك، وهي التي يدرس أبناء الفرنسيين بها في دراساتهم العلمية والتقنية، إلى جانب الفرنسية طبعا، ونحن لا نريد التفريط في لغتنا، إلى جانب اللغتين المذكورتين. نحن إذن بصدد ثلاثية لغوية متزنة وضرورية، ولا يمكن أن ندعو إلى أحادية لغوية، تقصي اللغات الأجنبية، ولا إلى ثتائية (عربية-إنجليزية) تقصي الفرنسية، الخ.
التعليم العلمي التأهيلي والعالي يقوم بثلاث لغات، إنصافا للغة الوطنية أولا، وللغة العالمية ثانيا، الإنجليزية، وللفرنسية ثالثا، في إطار امتداد ثقافي-حضاري "فرنكوفوني" متعاون، غير متطرف ولا إقصائي. هذه الثلاثية توفرها الدولة وتدعمها في التعليم العمومي والتعليم الخصوصي الحاصل على اعتماد وترخيص الدولة. وهناك جانب مكمل لهذه الهندسة يترك للمتعلم الاختيار بين اللغة الرئيسة في تعليم المواد واللغات الداعمة المساعدة. فقد يختار المتعلم أن تكون لغته الرئيسة للتعليم هي الإنجليزية، مع لغتين داعمتين (العربية والفرنسية)، أو الفرنسية مع لغتين داعمتين، أو العربية مع لغتين داعمتين.
وفعلا أقر السيد عزيمان، رئيس المجلس الأعلى للتربية والتعليم والتكوين والبحث العلمي، في استجواب له مع جريدة "الاقتصادي L'economiste "، في 23-02-2016، بأن الثلاثية اللغوية هي الحل الأمثل (في الأسلاك المعنية). ونحن لا نجادله في المبدأ، لأن تحاليلنا واقتراحاتنا منذ 1996، والتي أقنعنا بها اللجنة الخاصة للتربية والتكوين، وصيغت في الميثاق سنة 1999، هي ثلاثية، دققنا فيها في عدة مناسبات. فأين المشكل إذن؟ المشكل يكمن في أن السيد عزيمان يؤكد في الاستجواب نفسه أن خطة السيد بلمختار الأحادية هي عينها الخطة الإستراتيجية التي رسمها المجلس الأعلى المذكور. هناك إذن انعدام التناظر بين المبادئ التعددية المزعومة من قبل المجلس، والتنزيل الأحادي المناقض للتعددية من قبل وزارة التربية، بدعم من المجلس نفسه. إذن هناك سياسة غموض وتعتيم تدعي التعددية، وتمارس أحادية أجنبية على أرض الواقع (مع تسويف بالنسبة للثلاثية الموعودة، وإجراء فوري بإلغاء تدريس المواد العلمية باللغة العربية).
والأدهى من هذا أن التعمية والتعتيم امتدا إلى توجيهات جلالة الملك في المجلس الوزاري الأخير، في 06-02-2016 بالعيون، حيث أوصى جلالته بعدم الاستلاب والتبعية من جهة، وعدم التحجر في هوية غير منفتحة من جهة أخرى.. وإذا كانت توجيهاته هي عين الحكمة والاعتدال، وهي مطابقة لروح الدستور في مادته الخامسة وفي ديباجته، إذ يقر التوازن الهوياتي والانفتاح والانسجام، فإن الصحافة الفرنكوفونية غير المتزنة وجدت مع ذلك في المجلس وما دار فيه فرصة لجعل السيد بلمختار منتصرا على السيد بنكيران، وجعل الأحادية التي يتشبث بها في الممارسة منتصرة كذلك.
وقد واكبت الحدث حرب إعلامية بئيسة شنتها الصحافة المفرنسة على اللغة العربية، واصفة إياها بأوصاف استرجعتها من أدبيات كولونيالية.
ودرءا للتأويلات المغرضة لما وقع بالفعل في المجلس المذكور، أذكر ببعض الفقرات الواردة في نص البلاغ الرسمي الذي تلاه الناطق الرسمي باسم القصر الملكي، السيد عبد الحق المريني، عقب الاجتماع:
"ترأس صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله يومه 26 ربيع الثاني 1437ه، الموافق 6 فبراير
2016 م، بالعيون مجلسا وزاريا ...
في بداية أشغال المجلس، قدم وزير التربية الوطنية والتكوين المهني عرضا بين يدي جلالة الملك حول التوجهات الإستراتيجية لسياسة الدولة، في ما يتعلق بالرؤية الإستراتيجية لإصلاح منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي 2015-2030 ... الرؤية تهدف إلى انبثاق مدرسة للإنصاف وتكافؤ الفرص،[ و ] مدرسة عالية الجودة، ومدرسة للانفتاح والارتقاء الاجتماعي ...أكد [السيد الوزير ] أنه تنفيذا للتعليمات الملكية السامية، سيتم إعطاء الأسبقية لجودة التعليم العمومي، وللانفتاح على اللغات الأجنبية، خاصة في تدريس المواد والتخصصات العلمية والتقنية، وكذا للنهوض بالتكوين المهني، لاسيما من خلال اعتماد التوجيه المبكر للتلاميذ والطلبة الذين لهم مؤهلات وميول في هذا المجال.
... وفي هذا الصدد، أوضح جلالة الملك، أعزه الله، أن الانفتاح والتواصل لا يعني الاستلاب أو الانجرار وراء الآخر؛ كما لا ينبغي أن يكون [هناك] مدعاة للتزمت والانغلاق ...كما شدد جلالته على أن ترتكز هذه البرامج والمناهج التعليمية على القيم الأصيلة للشعب المغربي، وعلى عاداته وتقاليده العريقة، القائمة على التشبث بمقومات الهوية الوطنية الموحدة، الغنية بتعدد مكوناتها، وعلى التفاعل الإيجابي والانفتاح على مجتمع المعرفة وعلى مستجدات العصر".
فهل في هذا الكلام ما يدعم الأحادية اللغوية للسيد بلمختار؟ قطعا لا. إن التوجيهات واضحة بشأن المحافظة على توازنات الهوية والعالمية.. وترجمة ذلك عمليا في هندسة لغات التعليم هي تنزيل الثلاثية التي دافعنا عنها من زمن ليس بقريب، ويلوح بها السيد عزيمان، ولكنه يؤيد تنزيلا أحاديا يناقضها.
والحق أن السيد الوزير لا ينفرد وحده بحلم العودة إلى الفرنسة الأحادية لتعليم المغرب، بل له أكثر من حليف ومناصر، لأسباب لعل السيد جاك أتالي قد فصل فيها وفي أسرارها في تقريره الواضح عن التوجه الاقتصادي والسياسي للفرنكوفونية، والذي سيصدر تحليل ونقد له في بحث لكاتب هذه الأسطر (قيد النشر).
وقد أثار انتباهي بعض الزملاء إلى عمود صادر عن السيد حسن أوريد في مجلة "زمان" لشهر يناير 2016 (عدد 27)، بعنوان "اللغة، عود على بدء"، يدافع فيه عن ضرورة إقرار أحادية لغوية فرنسية، بمفصلة استدلالية وفكرية تثير الاستغراب. فلأن التعريب في رأيه كارثي، و"التعليم باللغة العربية أفرز مجموعة [من المتعلمين] مقصاة من سوق الشغل"، و"لغة عربية مهلهلة، لأن ما اعتبر تعريبا لم يكن إلا ترجمة حرفية من الفرنسية، لم يراع عبقرية اللغة العربية"، "وتعليم المواد العلمية تم بطريقة غريبة كذلك: بحيث يكتب سؤال المعادلة الرياضية أو الكيميائية من اليمين إلى الشمال، وتكتب المعادلة أو الصيغة الكيماوية من الشمال إلى اليمين"...وهكذا تخلط المبررات والأسباب بتسرع يروم القفز إلى النتيجة المرجوة سلفا، وهي إقصاء اللغة العربية من تعليم المواد العلمية! ولو كانت السياسات اللغوية تبنى بهذا المنطق لما درس أي بلد نام أو صغير بلغته، ولدرست فلندا وكوريا وإسرائيل بالإنجليزية وحدها! فكل بلد سيعجز عن تكوين وتأهيل الأطر الملائمة بلغته، وتأليف الكتب الضرورية، وتطوير الأدوات والطرق البيداغوجية، الخ. ولو كان التعليم بالفرنسية يضمن الشغل لضمنه في فرنسا قبل المغرب، وأرقام ارتفاع البطالة في فرنسا قياسية بالنظر إلى مثيلاتها الأوروبية. فأي إحصاءات دالة يستند إليها مثل هذا الكلام؟ إن النقص في تكوين المغاربة عموما قائم بالفعل، وقد يكون النقص في تكوين المعربين أكبر، لكن الرفع من مستوى تكوين المعربين سيصبح فعليا حين نخرج من السياسة الأحادية أولا، ومن الطرق البيداغوجية المهلهلة، ونرفع الأسباب المعقدة التي تحول دون إتاحة فرص الشغل لهم، بما في ذلك بخس كل تكوين يتم بالعربية، ومنح الأفضلية لمن يكون بالفرنسية، سواء أبان عن كفاءة، أو اكتفي بالنطق بلغة موليير فقط، دون مهارات. وإن تكوين المعربين في سوريا والعراق ومصر، بل حتى في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ليشهد على ذلك، بالمعايير والقياسات المعيارية الدولية، كما تشهد على ذلك النتائج المغربية المتدنية ذات الصلة (انظر احتلال المغرب للمراتب الأخيرة في قياسات بيرلز PIRLS وتميس TIMMS مثلا) .
فهل مناداة البعض بتعليم المواد العملية باللغة الفرنسية وحدها، يتساءل السيد أوريد (في استفهام إنكاري)، ازدراء للغة العربية؟ نعم بكل تأكيد، إذا قسنا الأمر على أي بلد متحضر أو نام ذي سيادة. لا يستعيض البلد عن لغته بأي لغة أخرى، إلا حين يكون ضعيفا فاقدا للسيادة. وبما أننا ننأى ببلدنا عن أن يصنف ضمن هذه الطبقة، فإن الجواب واضح إثباتي لا غبار عليه. ولعل الجواب الإيجابي المناسب هو ما سبق أن نص عليه ميثاق التربية والتكوين حين أقر بضرورة فتح شعب في التعليم العالي، يكون الاختيار فيها متاحا للطلبة بأن يتابعوا دراساتهم العلمية باللغة العربية، مع لغتين أجنبيتين داعمتين.
وأما اللغة الإنجليزية، التي يسلم السيد أوريد بأنه لا يتنازع في أمرها اثنان بأنها اللغة العالمية بامتياز، بل أنكى من ذلك أن اللغة الفرنسية متجاوزة، قياسا بالإنجليزية، حسب قوله، فإنه مع ذلك يرى، بمنطق غريب، أن "المسألة ليست قرارا بل مسارا، وقضايا التربية والتعليم، مثلما نعلم، لا تحل في الزمن القصير، وهي تستلزم الأناة والروية. وتفترض الحصافة أن ننظر إلى واقع الحال ... [ إلى ] تراث تراكم باللغة الفرنسية، [ و... ] بنية ثقافية مستشرية، لشرائح عدة تشتغل باللغة الفرنسية في قطاعات حيوية ...
[وبناء على كون] اللغة الفرنسية إحدى أدواتنا للتحديث، و...اللغة الإنجليزية سبيل العولمة وأداتها، ولكن العولمة تقتضي من الشخص أو المجتمع أن يكون عصريا، أولا، وإلا دخل العولمة بشكل فلكلوري، أو فج… إن دفاعي عن تعليم المواد العلمية باللغة الفرنسية، أسوة بالكثيرين، ليس نابعا من استيلاب ثقافي، أو جهل باللغة العربية أو ازدراء لها،... إن دفاعي عن ذلك نابع من... أن قضية إصلاح التعليم والتدريس باللغة الفرنسية... قضية إستراتيجية [ التفخيم منا] تتجاوز المرجعيات الحزبية لفائدة المصلحة العليا للأمة المغربية… تحل من لدن ذوي الخبرة الذين تهمهم مصلحة الوطن وبنوه، وتحسم من المؤسسة المؤتمنة على القضايا الإستراتيجية للبلد. إنها فرصتنا الأخيرة لإصلاح التعليم". كذا إذن، فالمنطق أن نبتعد عن العربية والإنجليزية لصالح الفرنسية وحدها، حفاظا على المصالح العليا للأمة وبنيها، ولا يوكل هذا القرار إلا إلى المؤسسة العليا وحدها "المؤتمنة على القضايا الإستراتيجية للبلد"، أي المؤسسة الملكية دون شك.
أعترف بأنني لم أكن أتصور أن العناية بالإنجليزية (واللغة العربية كذلك) تهدد المصالح العليا للأمة في المغرب إلى هذه الدرجة، وأن هذا الموضوع ينبغي أن يترك الجواب عنه للمؤسسة الملكية. كنت أتصور أن الملك مؤتمن على الدستور، وحماية اللغتين الرسميتين فيه، العربية والأمازيغية، والانفتاح على اللغتين الأجنبيتين الأكثر تداولا في العالم ... الخ، لا على لغة وحيدة، في إطار أحادية أجنبية تتنافى ومنطوق الدستور ومنظوره.
إن الدستور في مادته الخامسة يشير إلى ضرورة إتقان اللغتين الأجنبيتين الأكثر تداولا في العالم، ولعل الإنجليزية أولها بدون منازع، والفرنسية ضمنها. ونؤكد أننا لا نريد التفريط في الفرنسية، ولا أحد دعا إلى هذا، ولكننا لا نريد التفريط في الإنجليزية، ولا نريد التفريط في لغتنا، إلى جانب اللغتين المذكورتين.
ونحن كمغاربة "فرنكوفونيين" معتدلين (على الطريقة الفرنسية) نريد فقط أن نحاكي إلى حد النموذج الفرنسي، الذي يجعل من لغته لغة التعليم الأولى، وجعل من الإنجليزية اللغة الأجنبية الداعمة الأولى في التعليم العالي على الخصوص. ومراعاة لارتباطنا بالفرنسية، للأسباب الإستراتيجية الملوح بها، لا يمكن أن نطمح إلا إلى ثلاثية لغوية متزنة. واحتراما لحق المواطن المتعلم في اختيار فرصه عبر لغات التعليم، في التأهيلي والعالي على الخصوص، لا يمكن للدولة بأي وجه حق أن تلجأ إلى أحادية مفروضة من أبراج السيد أوريد، في ظل "مصلحة الدولة" التي لا يحددها إلا هو، خلافا لما يتطلبه أي نظام ديمقراطي.
لقد أطلقت الخطة الإستراتيجية عددا من الشعارات والمبادئ النبيلة التي كنا قد دعونا لها في عدد من كتاباتنا السابقة، وفصلنا في شأنها في كتاب "السياسة اللغوية في البلاد العربية"، وكتاب "السياسة اللغوية والتخطيط"، الخ، بما فيها مبادئ الحرية والعدالة والدمقراطية، الخ. إن المجلس الأعلى للتعليم لطالما تباهى بتمثيليته وتشاركيته، ولكنه أقصى من المشاركة خبراء اللسانيات والسياسة اللغوية والمعتدلين في توجهاتهم اللغوية، ولم يساير المجلس الأصوات المعتدلة الداعية إلى سياسة لغوية متزنة توفق بين الهوية والكونية، طبقا للتوجيهات الملكية نفسها.
إن الحملة الإعلامية المواكبة للمجلس الوزاري خرجته على ما لم يرد فيه، فمجدت إقبار التعريب والعربية، وبخستها سفلي البخس، ووصفتها بأنها لغة الدين المتطرف والإرهاب (محاكية اتهامات السيد فرميرينVermeren في عام 2003، التي قمت بالرد عليها في وقته)، جاعلة منها مطية لحملات انتخابية حزبية مؤدلجة وضيقة الرؤية، لم تتورع في احترام لغة المواطنين الرسمية، ولغة العلم والحضارة، واللغة العلمية الحرة المتوسطية lingua franca التي كانت متموقعة في المنطقة قرونا قبل أن تولد الفرنسية، وهي لغة الفرص في المجرة اللغوية الكونية بالنسبة لنصف مليار من الناطقين بها، واللغة الرمزية لمليار ونصف من المسلمين، الخ. إنه عين الظلم وعين العبث أن يقذف برأسمال لغوي ثمين مثل هذا في حملة انتخابية تهدف إلى التسابق على بعض الكراسي في البرلمان المقبل، لا تسمن من جوع، ولا تغير في سياسة. إن النداءات الأحادية، المرتبطة بمصالح لا علاقة لها بمصلحة الأمة الفعلية، بل هي مصالح فردية احتكارية فصل فيها السيد جاك أتالي Jacques Attali في تقريره عن الفرنكوفونية (وإن كان هو نفسه لم يدع إلى الأحادية)، وإقصاء الإنجليزية في التنزيل لمن شأنه أن ينقلنا إلى توجهات أحادية تقلص فرص المغاربة في الفائدة والاعتدال، وتعود بنا إلى الوراء. بل تصير هي نفسها مصدر التطرف الذي ندعو إلى مقاومته.
وإذا كان التعليم التأهيلي والعالي ينبغي أن يكون ثلاثيا بثلاث لغات، هي العربية والفرنسية والإنجليزية، فإن الاختيار ينبغي أن يترك للمتعلم (وللتوجيه) في إمكان اختيار اللغة التي تكون هي اللغة الرئيسة للتدريس، بدعم لغتين أخريين مساعدتين، وحسب المفصلة والعبرية اللغوية Translinguality) أو المجزوئية، أو التناوب) التي يختارها كل متعلم في مشروعه التربوي. فالمتعلم أولى أن يحدد فرصه في التعلم باللغات، حسب الاختيارات الثلاثية المتاحة (والتي قد ينضاف إليها تعلم لغات أخرى بالاختيار).
سيناريوهات كثيرة متاحة لمجلس الأعلى للتعليم يمكن أن يوظفها، في إطار التوجيهات الملكية، وبتعاون مع الحكومة، ورعيا لمقتضيات الدستور الواضحة، من أجل تنزيل تعددية لغوية فعلية في التعليم، بدون تسويف أو مواربة، وبدون تراجع عن مبدأ التدريس بالعربية، وإهدار ما تراكم فيه من تجربة وتقدم، بعيدا عن كل إيديولوجية أحادية من هذا الطرف أو ذاك.
إن العدالة والدمقراطية تقتضيان فسح مجال الاختيار للمتعلم. وإن السياسة اللغوية تراعي مصالح الفرد ومصالح المجتمع عبر التوازن المعقول بين ما هو هوي وما هو كوني، في إطار "قسمة عادلة" منشودة، متسمة بالاتزان. وإن سياسة لغوية تتميز بالتبعية لا يمكن أن تكون محل تراض من قبل الأفراد والجماعات، حتى ولو حاول البعض فرضها بقوانين لا مثيل لها في أي بلد متحضر أو طموح".
*خبير لساني دولي، رئيس جمعية اللسانيات بالمغرب


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.