هوية بريس – الأربعاء 27 نونبر 2013م الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الهدى محمد وآله وصحبه ومن بآثارهم اهتدى، وبعد: فقد كنت قبل سنوات قليلة خلت، أتأمل في نعمة البصر، محاولا جهدي تجلية بعض فوائدها على العبد دنيا وأخرى، وكان الدافع الذي شحذ همتي لهذا التنقيب العلمي الفكري ما يتكرر علي كل عام من إعداد درس في مادة التربية الإسلامية حول نعمة البصر. وقد وقفت في بحثي عن هذا الموضوع بما تقر به العين، ويطمئن إليه الفؤاد، وتجمع عندي فيه من الفوائد اللطيفة، والنكت العلمية الطريفة ما لا يتسع المجال لذكره الآن. غير أني قاصد من تسويد هذا البياض أن أشير إلى جزئية واحدة من تلكم التأملات التي بانت لي خلال بحثي، ذكرتني بها الحملة الطبية لمكافحة العمى التي استضافتها جمعية اليسر مشكورة مأجورة. والأجمل في هذه الحملة، ما من الله به على بعض الأشخاص من نعمة البصر لأول مرة في حياتهم. لكم أن تتصوروا عظم فرحة هؤلاء وهم ينعمون بالنظر، إنها فرحة تقصر في وصفها العبارات، وتنطق بذكرها العبرات، ولا عجب في ذلك، فالعين هي الدرة الثمينة التي لا تقدر بثمن، وقد سماها الله تعالى الحبيبة والكريمة، كما صح في الحديث القدسي: (إن الله عز وجل قال: إذا أخذت كريمتي عبدي فصبر واحتسب لم أرض له ثوابًا دون الجنة)وفي رواية (حبيبتي عبدي). رواه البخاري والترمذي وابن حبان. أدير رأس القلم لأقول: من الفوائد التي ذكرتني بها هذه الحالات التي ترى النور لأول مرة، ما اختصت به العين المبصرة من العبادات الجليلة، أذكر جملة منها من باب التمثيل لا الحصر، فمنها: 1 عبادة التأمل في مخلوقات الله: فبالعين يتفكر الإنسان في نعم الله عليه وفي هذا الجمال الذي أودعه الله في هذا الكون الفسيح قال تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)(آل عمران:191)، وقال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ)(السجدة:27). وبالعين يستدل الإنسان على عظمة الله ووحدانيته سبحانه وتعالى، قال جل جلاله: (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَت وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَت) (الغاشية:17-20). ولذلك فإن الأعرابي في الصحراء استدل على وحدانية الله من خلال النظر في خلقه فقال: (البعرة تدل على البعير، وأثر السير يدل على المسير، وسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، أفلا تدل على اللطيف الخبير). وفي نفس المعنى يقول الشاعر: تأمل في نبات الأرض وانظر — إلى آثار ما صنع المليك عيون من لجين شاخصات — بأحداق هي الذهب السبيك على قضب الزبرجد شاهدات — بأن الله ليس له شريك 2 عبادة النظر والقراءة في المصحف: قال صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يحب الله ورسوله فليقرأ في المصحف) (رواه أبو نعيم في الحلية وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة تحت رقم:2342). وبوب الإمام ابن أبي شيبة في مصنفه بابا في إدامة النظر في المصحف، ضمنه مجموعة من الآثار عن الصحابة والتابعين. 3 عبادة الحراسة في سبيل الله: وهي من أجل وأعظم العبادات التي يحتاج فيها إلى النظر الثاقب الأمين، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) رواه الإمام الترمذي في كتاب فضائل الجهاد باب مَا جَاءَ فِي فَضْلِ الحَرَسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وابن أبي عاصم في الجهاد فَضْلُ حَرَسِ الْمُسْلِمِينَ، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1229). 4 النظر إلى الكعبة: وردت في ذلك أحاديث كثيرة، أشهرها حديث عائشة رضي الله عنه: (النظر إلى الكعبة عبادة) ولكنها ضعيفة الأسانيد. ومعنى الحديث منقول عن كثير من علماء السلف والخلف. ومن الثابت بالتجربة أن النظر إلى الكعبة يورث الخشوع عند المؤمن، وكفى بهذا الأمر مزية وفضيلة. 5 غض البصر عن محارم الله: قال جل جلاله: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) (النور 3031). وهذا باب واسع جدا، من ألجم نفسه بالصبر عليه كان من جملة العابدين، وقد كفي شره من فقد بصره ابتداء، غير أن أجر البصير الممتحن بشهوات النظر، أعظم عند الله ممن لم يمتحن لعلة العمى. هذا غيض من فيض مما تميزت به العين من العبادات الجليلة عن سائر الحواس الأخرى، أسأل الله جلت قدرته أن يديم علينا نعمة البصر، ويمتعنا بنور البصيرة، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وقبل أن أرفع القلم أتقدم بجزيل الشكر والامتنان لجمعية اليسر على هذه الحملة الطيبة المباركة التي هي من بذل الخير للعباد والبلاد، سائلا الله لهم المزيد من التوفيق والنجاح، فمثل هذه الأعمال من ذوائب الخير والنواصي، وحقيق أن يطول به التواصي (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر). وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.