المسألة الرابعة: السر في بناء أحكام من الشرع على ظاهر فعل المكلف دون قصده، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما الأعمال بالنيات". في بعض الفروع أو المسائل الفقهية الجزئية، قد تنازع "المصلحة"، وهي دليل كلي، دليلا كليا آخر؛ فتجذب الفرع الفقهي إليها؛ لأنها أحق به في موافقة مراد الشارع؛ فيتوهم من فاته تدقيق النظر في المسألة أن التخصيص وقع بالدليل الجزئي المندرج تحت المصلحة، على ظنيته، والحال أن المخصص بمعنى الجاذب والمنازع حقيقة هو الدليل الكلي الذي هو المصلحة الراجحة، وعلى هذا الوزان يجري الحكم في كثير من المسائل الشرعية، ومنها جزئية تضمين الصناع ما ادعوا هلاكه من المصنوعات المدفوعة إليهم وإن لم يقع منهم تفريط، وسندها الإجماع -حيث نقل إجماع الفقهاء على تضمينهم-؛ فإن هذه المسألة في الظاهر تتعارض مع الكلية الشرعية: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا﴾ البقرة 286؛ إذ كيف يضمن الحرفي أو الصانع الآلة أو الجهاز الذي وضعه شخص عنده لإصلاحه، فتعرض للتلف من غير تفريط أو تقصير من ذلك الحرفي أو الصانع، إما بسبب احتراق المحل مثلا أو انهدامه أو تعرضه للنهب والسرقة أو ما شابه؟ إن السبب الذي يقضي بتضمينهم هو رعاية المصلحة العامة، متمثلة في حاجات الناس الملحة إلى ترك أشيائهم وممتلكاتهم بين أيديهم، فلولا الضمان لتهاون الصناع في حفظها، وأدى ذلك إلى تلفها وضياعها. فتبين عند التحقيق أن جزئية تضمين الصناع داخلة من باب أولى وأحرى تحت كلية الحاجيات التي تنزل منزلة الضروريات؛ فخرجت بذلك من حكم الكلية الشرعية القرآنية: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}، والتي تنص على رعاية المصلحة الخاصة في رفع التكليف عند انتفاء الوسع في الأمور كلها، إلى كلية شرعية أقوى منها في الحكم على الجزئية المذكورة وهي مراعاة الضرورة والحاجة العامة، التي ترجح في الموازنة على المصلحة الفردية الخاصة. وضمان المتلفات بصفة عامة من هذا الجنس؛ فإنه لا اعتبار فيه بقصد المكلف ونيته؛ وذلك لعارض أقوى وهو وجوب المحافظة على المصالح العامة التي لا تتم إلا بالضمان. واعلم أنه لولا إيجاب الشارع لضمان المتلفات بغض النظر عن القصد لهدمت كليات الدين وخربت تحت ذريعة الخطأ أو النسيان أو الصغر، وما إلى ذلك؛ قال ابن القيم -رحمه الله-: " وأما قوله : (إن الشريعة جمعت بين المختلفات، كما جمعت بين الخطأ والعمد في ضمان الأموال ) فغير منكر في العقول والفطر والشرائع والعادات اشتراك المختلفات في حكم واحد باعتبار اشتراكها في سبب ذلك الحكم، فإنه لا مانع من اشتراكها في أمر يكون علة لحكم من الأحكام، بل هذا هو الواقع، وعلى هذا فالخطأ والعمد اشتركا في الإتلاف الذي هو علة للضمان، وإن افترقا في علة الاسم، وربط الضمان بالإتلاف من باب ربط الأحكام بأسبابها، وهو مقتضى العدل الذي لا تتم المصلحة إلا به، كما أوجب على القاتل خطأ دية القتيل، ولذلك لا يعتمد التكليف. فيضمن الصبي والمجنون والنائم ما أتلفوه من الأموال، فلو لم يضمنوا جنايات أيديهم لأتلف بعضهم أموال بعض، وادعى الخطأ وعدم القصد. وهذا بخلاف أحكام الإثم والعقوبات، فإنها تابعة للمخالفة وكسب العبد ومعصيته، ففرقت الشريعة فيها بين العامد والمخطئ" (إعلام الموقعين، ابن قيم الجوزية، 2/152). ومن الكليات الشرعية الحديثية التي يجري عليها هذا المساق، قوله عليه الصلاة والسلام: "لن، أو لا نستعمل على عملنا من أراده" (صحيح البخاري)، وهي كلية ثابتة قطعية محكمة، لا يمكن تخصيصها إلا بدليل كلي في مرتبتها، كالمصلحة العامة مثلا، ولذلك متى اقتضت المصلحة العامة تولية من طلب الولاية، جازت توليته، وقد تجب، على قدر تعين المصلحة وتحققها في تعيينه، وعلى هذا تحمل استجابة الرسول صلى الله عليه وسلم لطلب زعيم وفد ممن أسلموا من بعض قبائل اليمن بأن يؤمره على قومه، لما رآه كفأ، ورأى أن مصلحة قومه في توليته عليهم. وهكذا في بعض المسائل والفروع الفقهية لا يؤخذ بقصد المكلف متى تعارض مع المصلحة الكلية.. وبذلك يرشد الفهم ويزول الوهم، والحمد لله رب العالمين.