حين مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه صفية بنفر من الصحابة أسرعوا فناداهم قائلا على رسلكم إنها صفية. لقد نظر الإسلام إلى علاقة الرجل والمرأة بناء على غرائزهما وليس استنادا إلى أخلاقهما، فالقوة الأخلاقية تقوى وتضعف لكن الثابت هو الدافع الغرائزي الذي يجعل من كل امرأة فرصة ممكنة، متى ارتفعت الموانع. إنها الفطرة التي ركب الله عليها القوى في هذه الحياة، فالقوة التي في النار والبنزين هي نفس القوة التي في الثور تجاه البقرة وإن اختلفت طبائعها الفيزيائية، إنها دافع يحرك الكهرباء السالبة نحو الكهرباء الموجبة، إنها حركية هذه الحياة، بل إنها الحياة في نزعتها إلى التكاثر. حين يلتقي الرجل والمرأة فإن الغريزة تتسيد الموقف، لذلك كانت النصوص الشرعية كلها تؤسس لقاعدة في التواصل بين المرأة والرجل، كأنهما خطران محدقان يجب التحوط لئلا يقع منهما ما تدعو إليه الفطرة والطبيعة، وهو ما يجعل أصل العلاقة التحوط وسوء الظنة أي الريبة، فيمكن أن نقول إن الأصل في العلاقة بينهما الريبة حتى يثبت العكس. ودليل هذه القاعدة استقراء النصوص الشرعية، حيث تجعل وجود الرجل مع امرأة غريبة عنه، خطرا وتهمة، فلو وجدنا رجلا وامرأة مختليين في مكان لوحدهما فإن الشبهة قائمة حتى يثبت العكس، وهذا ما نقصده بأن الأصل هو الريبة أي سوء الظنة. ومن أدلة هذه القاعدة: 1- قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ألا لا يخلوَنَّ رجلٌ بامرأةٍ إلاَّ كانَ ثالِثَهما الشّيطانُ (السيوطي في الصغير 2780 بسند صحيح)، ففي هذا الحديث إشارة إلى وجود السبب الباعث على الفاحشة وهو الشيطان، وهو تحذير من وقوع هذه الخلوة، وهذا التحذير لا يكون إلا لسبب ما يظن وقوعه من الشر. 2- قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء" (متفق عليه) فالإخبار بأنها فتنة دليل على وجود الخطر، ووجود الخطر دليل على رجحان هذا الاحتمال عند وجود العلاقة بين الرجل والمرأة، فكان الأصل في العلاقة وجود الظنة. قوله صلى الله وآله وسلم : "الحمو الموت" (صحيح البخاري) ففيه مظنة وقوع المحذور حتى ممن يظن فيهم انعدام الشبهة لوجود علاقة رحم بين الحمو والزوج تمنعه من المحذور، لكن هذا لم يرفع عنه التهمة ليصفه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالموت، مع ندرة ما يقع منه، فإذا كان هذا في الحمو فكيف بمن هو أبعد منه . قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "عن صفية بنت حُيي رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفًا، فأتيته أزوره ليلًا، فحدثته، ثم قمت لأنقلب، فقام معي ليقلبني – وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد – فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "على رسلكما. إنها صفية بنت حيي" فقالا: سبحان الله يا رسول الله، فقال: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرًا، أو قال شيئًا". جاء في شرح الدرر السنية: وفيه قَطْعُ ما يُؤدِّي إلى الظِّنِّ السَّيِّئِ؛ بإظهارِ الحقيقةِ للنَّاسِ في الوقتِ المُناسِبِ. انتهى. فالذي حصل أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أوضح ما يمكن أن يلج منه إبليس، وهذا دليل على أن ذلك الموقف يدعو إلى الريبة، وعليه فإن وجود امرأة ورجل في مكان خال يدعو إلى سوء الظنة. وعلى هذا الأصل بنيت الكثير من الأحكام كحكم تشميت الرجل للمرأة، جاء في مطالب أولي النهى: فلا يشمت الرجل شابة ولا تشمته كما في رد السلام، وتشمت المرأة المرأة، ويشمت الرجل الرجل، ويشمت الرجل المرأة العجوز والبرزة لأمن الفتنة. انتهى وذكر صاحب الذخيرة من الأحناف: أنه إذا عطس الرجل فشمتته المرأة، فإن عجوزاً رد عليها، وإلا رد في نفسه، قال ابن عابدين وكذا لو عطست هي. كما في الخلاصة. انتهى وفي الفواكه الدواني من كتب المالكية قال: بعد أن ذكر أن تشميت العاطس واجب كفائي قال: إنما هو في حق العاطس الرجل المسلم والمرأة المحرم أو الأجنبية المتجالة أو ما في معناها مما لا تميل إليها النفوس غالباً. انتهى ومن ذلك منع الاختلاط في كل موطن يجتمع فيه الرجال والنساء، حتى في الطواف ما أمكن ذلك، ففي صحيح البخاري أن ابن جريج قال لعطاء: كيف يخالطن الرجال؟ قال: لم يكن يخالطن، كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حجرة -أي معتزلة- من الرجال لا تخالطهم، فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين، قالت: انطلقي عنك، وأبت. ومعنى "انطلقي عنك" انطلقي عن جهة نفسك. انتهى وعن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي، فقال: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة، فطفت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ يصلي إلى جنب البيت، وهو يقرأ: والطور وكتاب مسطور . قال ابن حجر: أمرها أن تطوف من وراء الناس ليكون أستر لها. انتهى وقال الباجي في شرحه على الموطأ: وأما المرأة فمن سنتها أن تطوف وراء الرجال، لأنها عبادة لها تعلق بالبيت، فكان من سنة النساء أن يكنَّ وراء الرجال كالصلاة. انتهى وهنا لا بد أن نفرق بين التحوط وبين الاتهام، فالاتهام لا يجوز وهو محرم بنص القرآن {ولولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا} وقال {لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} فالتحوط معناه أن كل خلوة أو اختلاط أو تواصل مع النساء هو مظنة وجود الفتنة ودخول الشيطان، وهو تهمة تستلزم من الواقع فيها تبيين سبب ما وقع منه والدافع له، تماما كما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين قال: "على رسلكم إنها صفية". ولذلك كان السلف يخشون على أنفسهم من وقوع هذه المظنة فعن ابي المليح سمعت ميمونا يقول: لأن أوتمن على بيت مال أحب إلي من أن أوتمن على امرأة. وعن فرات ابن السائب عن ميمون بن مهرات قال: ثلاث لا تبلون نفسك بهن: لا تدخل على السلطان وإن قلت: آمره بطاعة الله، ولا تصغين سمعك إلى هوى فإنك لا تدري ما يعلق بقلبك منه، ولا تدخل على امرأة ولو قلت: أعلمها كتاب الله. وعن عطاء قال: لو ائتمنت على بيت مال لكنت أمينا ولا آمن نفسي على أمة شوهاء. قلت – القائل الإمام الذهبي -: صدق رحمه الله. وعن سفيان بن عيينة،عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، قال: ما أيس الشيطان من شيء إلا أتاه من قبل النساء. ثم قال لنا سعيد وهو ابن أربع وثمانين سنة وقد ذهبت إحدى عينيه وهو يعشو بالأخرى: ما شيء أخوف عندي من النساء. انتهى من سير أعلام النبلاء. اليوم أصبح المجتمع يعاني حالة من السذاجة في غيرته، واشتغل الإعلام ليحول كثيرا من المظاهر إلى "عادي" فيمكن أن ترى حافلة مليئة بالشباب والشابات متجهة إلى رحلة أو مخيم، ولا أحد يشعر بخطر أو يقع في باله أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، بل لو تكلم أحد واستنكر لاتهموه هو بسوء الظن، وهذا ما حصل لكثير من الفضلاء حين استنكر الاختلاط داخل أسرته، فتجد الجميع يقف ضده متهمين له هو بسوء الظن في الناس، وأن الأصل في الناس السلامة، وهذا هو الذي أوصل المجتمع إلى ما وصلنا إليه من ظاهرة الزميل الذي لا ينبغي أن تستنكر حديثه الطويل مع زميلته، فإن فعلت فأنت المتهم هنا، وهو الذي أوصلنا إلى مبدأ "بحال اختي" أي مثل أختي، وهو مبدأ خطير تسلل تحته الكثير من الذين في قلوبهم مرض، فسوء الظنة الذي هو الريبة الداعية إلى الاحتياط هو الواجب على كل أب تجاه بناته. إن الآباء لو فهموا هذه الحقائق لقاموا بدورهم في حماية بناتهم من هذه الأخطار التي تتزايد في مجتمعنا يوما بعد يوم، والله نسأل أن يحفظ بنات المسلمين ونساءهم من كل سوء.