– الدكتور أحمد كافي (أستاذ التعليم العالي للدراسات الإسلامية) بمنسوب عال من الثقة عنون فضيلته لمقاله بأن الكد والسعاية دعاية، وقرر وهو ممتد على أريكته قائلا:" لم يرد في كتاب ولا سنة ما يسمونه ب: حق الكد والسعاية"، ولم يأت به شرع من أي مصدر من مصادر التشريع الإسلامي المعروفة، ولم يقل به أحد من العلماء من أي مذهب من المذاهب أهل القبلة: سنيهم أو شيعيهم أو إباضيهم أو زيديهم أو ظاهريهم بأن للزوجة حق في الشريعة اسمه حق الكد والسعاية". هكذا بهذا الوثوقية والتعميمات والأحكام الغليظة، التي تتبخر عند أول نزال في التحقيق، ولن تتماسك أبدا. يا أهل الإسلام لا تغلو في دينكم: لو قيد فضيلته كلامه بنسبة الأمر إلى علمه، فقال مثلا: فيما أعلم، ما أنكرنا عليه، ولقلنا: رجل احتاط لنفسه، وأخبرنا أنه لا يعلم. لكن أن يرسل كلمات الثقة التامة، ويؤكد بوثوق على استقرائه التام لجميع مذاهب أهل القبلة الذين سماهم. هنا أمسكت رأسي وأنا أردد مع نفسي خائفا عليها: يا أهل الإسلام لا تغلو في دينكم. وقديما قال نجل حنبل: من ادعى الإجماع فقد كذب، وما يدريه والناس قد اختلفوا. هون عليك يا رجل، واربع على ظلعك، وارفق بنفسك، فالمسألة أوسع من تضييقك. لم يقل بهذا أحد من علماء أهل القبلة: هكذا قرر الدكتور الفاضل مع التفصيل الذي سبق الإتيان بكلامه. وإني على يقين أنه اجتهد وحاول الاجتهاد فلم يظفر إلا بأجر واحد. أما المذاهب التي ذكرها، فلا علم لي بوجود ذلك من عدمه. وأما مذهبي المالكي في بلادي المغرب فأنا بحمد الله تعالى من العارفين به في هذه المسألة، ولا أعرف إلا نقيض ما يقول فضيلته هاهنا. لقد قال بحق الكد والسعاية كثير من أهل المغرب أذكر لك منهم: * ابن أبي زمنين في منتخب الأحكام(ت399ه). * أبو عمران موسى بن علي الزناتي(ت702ه). * ابن عبد الرفيع التونسي(ت733ه) في أجوبته. * محمد بن قاسم اللخمي المشهور ب: القوري(ت872ه): مفتي فاس في زمنه. * داود بن محمد بن علي التملي التونلي(ت899ه)، له فتوى حول الكد والسعاية، تحت عنوان: مسألة شركة الأخت أو الزوجة في المستفاد". * الحسن بن عثمان الإسكاوري التملي(ت932ه)، تلميذ الونشريسي. * الإمام أبو القاسم بن خجو(ت956ه)، وهو جد الامام ابن عرضون. * ابن عرضون الكبير: أبو العباس أحمد(ت992ه) * ابن عرضون الصغير: أبو عبد الله محمد بن الحسن(ت1012ه)، وهو أخوه. * الفقيه عبد الكريم بن الحسن التملي: من علماء القرن الحادي عشر الهجري. * قاضي الجماعة سعيد بن علي بن مسعود السوسي الهوزالي(ت1001ه). قال رحمه الله تعالى:" فلا شك أن الزوجة ذات يد وسعاية تشارك زوجها فيما استفاداه مالا على الوجه المشار إليه…وجرى العرف بهذه البلاد السوسية كلأها الله تعالى…والمال المستفاد بسعي الزوجين على أنه يقسم بينهما نصفين كقصة حبيبة المذكورة في(منتخب الأحكام) لابن أبي زمنين"([1]). * داود بن محمد بن عبد الحق التملي التازولتي(ت1013ه). * بلقاسم بن أحمد الهوزالي(ت1048ه). * وعلي بن أحمد البرجي الرسْموكين وهو من علماء القرن الحادي عشر(ت1049ه) جامع (الأجوبة البرجية)، فقد قال:" الذي نص عليه علماؤنا أن النساء إذا كان لهن سعاية في شيء أنهن شريكات للأزواج بحسب سعايتهن"([2]). * الفقيه عبد الله بن يعقوب السملالي الأدوزي(ت1052ه). * عبد الرحمان بن محمد التمنارتي القاضي(ت1060ه). * القاضي عيسى بن عبد الرحمان السكتاني السوسي(ت1062ه). * سيدي عمر بن عبد العزيز الكرسيفي(ت1214ه)، وله رسالة في الموضوع تحت عنوان: رسالة في مسألة السعاة". * محمد بن أبي القاسم السجلماسي(ت1241ه). * الفقيه امحمد العثماني(ت1404ه). * الفقيه الدكتور الحسن العبادي(ت1437ه). كلهم نصوا على أن للزوجة حق الكد والسعي أولا، ونصيبها الإرثي ثانيا، أو نقلوا فتاوى القائلين بها من أهل العلم في هذا القطر المغربي، أو حكموا بذلك في مجالس قضائهم.. فهل هؤلاء الأعلام لا يعدون عند سيادتكم من أهل القبلة، وأنى على يقين أنك تعلم أنهم سنيون مالكية. بل قال بها من الأعلام كل من: * الإمام مالك * وابن القاسم * وسحنون * ويحيى الليثي ففي أجوبة عبد الرفيع السابق ذكره في أجوبته عن مسألة كد وسعاية، قال:" اتفق مالك وأصحابه أن كل امرأة ذات صنعة وسعاية …أنها كانت شريكة فيما بينها وبين زوجها وأخيها أو أحد ممن تفاوض معها. والأصل في ذلك أن عمرو بن الحارث تزوج حبيبة بنت رزق عمة عبد الله ابن الأقم" وذكر القصة بتمامها وقال:" فتخاصموا إلى عمر بن الخطاب، فقضى لها بنصف المال وبالإرث في الباقي. وإلى ذلك ذهب يحيى بن يحيى وأشهب وسحنون…"([3]). فهل الكد والسعاية دعاية؟ وهل هؤلاء ليسوا بأعلام هدى في الأمة؟ وإن سألتني عن نصوصهم، فدونكها إن شاء الله تعالى في مظانها المنشورة بين أيدي الناس. ولعلنا نوقفكم عليها، فهي بحمد الله تعالى عندنا ناطقة صريحة. الغلط في التصور: قديما قال بعض أهل العلم: وأكثر أغلاط الفقهاء من التصور. وإن أسهل شيء عند العلماء هو إطلاق الحكم الشرعي، والأصعب عندهم والأشقه هو: التصور. ولذلك تجدهم يقولون: الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وقال بعضهم: عن تصويره. أي لا يكفي التصور حتى يكون قادرا على تصويره وبيانه، فنفهم أن التصور عنده محكم. قال عالم المغرب الثعالبي: وأكثر أغلاط الفتاوى من التصور"([4]). فالحكم فرع، والتصور هو أصل هذا الحكم. لكن البعض يعتني ويهرول إلى الحكم من غير أن يبذل نظير ذلك في تحقيق التصور. التصور في مسألة الكد والسعاية: لقد نظر جماعة محترمة من الفقهاء والقضاة المغاربة إلى النسوة اللائي يشتغلن في أرض رجل وهن غير زوجات له. ما هو مقابل سعيهن وكدهن في أرضه؟ هذا هو الكد والسعي في القديم، حيث لم تكن المصانع والمتاجر..وإنما هي الأرض والفلاحة وما يرتبط بها من الأعمال في الغالب. فقال الأعلام من فقهائنا: لهؤلاء النسوة حق في كدهن وسعيهن. فهل تحتاج هؤلاء الكادات إلى أصل شرعي يعولن عليه في الحكم لهن بحقهن؟ وهل يحتجن إلى عمل الصحابة والتابعين والقرون المشهود لها بالخيرية ومباركة الأمة في هذا الحق؟ إن الحق أظهر عندي وعند سلفي من قضاة المغرب ومفتيه. وهذا الظهور لا يكلفني عناء البحث له عن قول صادر عن طوائف أهل القبلة؛ سنيهم أو شيعيهم أو إباضيهم أو زيديهم أو ظاهريهم. ولا أحتاج كلفة البحث عن قول صادر عن أهل الكلام والناس أجمعين. لأن هذا الحق فطرة مركوزة، وليس بخرافة ولا دعاية كما توهم المتوهمون. لا أعتقد عاقلا من أهل العلم والنظر سيحكم أو يفتي أو يقول بأن العَمَلة عند هذا الرجل في أرضه الفلاحية جهدهم وكدهم وسعيهم هدر وطل. حق الكد والسعاية للزوجات: ولعلك تتعجلني، ما علاقة ما تذكره بما نحن فيه يا رجل؟ إننا نتكلم عن الزوجة التي تريدون الاعتراف لها بحق الكد والسعي. فأقول: بل له العلاقة الوطيدة، وبيانها أن هذا الذي قلتم إن قلتموه معي ووافقتمونا فيه إن وافقتم عليه بعدم وجود حق لصاحب الأرض في إضاعة العملة عنده في أرضه، وأن حق هؤلاء العمال مصون شرعا بقوة الشرع والقانون والعقل والفطرة. ساعتها أقول لكم: لقد نظر الفقهاء المغاربة إلى هذا الذي أنكرتموه الآن فأنكروه هم بدورهم، والذي قلتموه قد سبقوكم إلى القول به. وزادوا عليكم في البيان فقالوا: إن هذه المرأة التي تشتغل بكد وسعي عند هذا الرجل في أرضه، فاعترفتم لها بسعايتها وأن عليه أن يوفيها مقابلا لكدها، أرأيتم لو أعجبته فتزوجها، وبقيت على ما ألفته من العمل في أرض هذا الرجل الذي أصبح زوجها الآن، هذا الكد منها أتعترفون لها به بعد أن أصبحت زوجة له؟ أم أن ميثاق الزوجية أتى على حقها وأبطله؟ فهل باسم الزواج تضيع الظغينة في كدِّها؟ هذا هو نظر الفقهاء المغاربة في نظرية الكد والسعاية وأسئلتهم. ونظرهم أن العاملة في أرض الغير لها حق الكد سواء أكانت زوجته أو أجنبية عنه. فإن كانت زوجته فلها حق كدها في حياته، أو عند طلاقه لها، أو عند الوفاة…أو عند أي حال من أحوال الحياة، يؤدى لها هذا الحق كحق لا تبرعا منه. أنتم تتكلمون عن هذه المرأة التي ربما هي زوجتك التي في بيتك، هل تأخذ نصيبها في الثروة، ونصيبها في الإرث؟ والفقيه والقاضي المغربي يتكلم عن الزوجة الكادة خارج بيتها في الغابة والبساتين وأعمال الفلاحة الشاقة و…و… التي وجب علينا أن نحرز حق كدِّها أولا، ونمكنها من نصيبها في الإرث. أنتم تتكلمون عن شيء لا يتكلم عن الفقيه والقاضي المغربي، تتكلمون عن زوجات هن أحلاس بيوتكم، والفقيه والقاضي المغربي يتكلم عن خادمة إلى جنب الرجل، هل هذه الخدمة الظاهرة لها اعتبار وثمن أم لا؟ إذا كنتم تنكرون وتقولون: هل تعطى للزوجة نصيب في المال تسمونه كدا، وتعطونها نصيبا في الإرث؟ فالفقيه والقاضي المغربي يقول: هل الانسان العامل: ذكرا كان أو أنثى له حق في نتاج عمله أم لا؟ ولذلك قالوا: حق الكد والسعاية. إنهم يتحدثون: 1 عن الحق لا عن الباطل. 2 ويتكلمون عن هذا الحق حين يكون كدا وسعيا لا عن البطالة. 3 ويتحدثون عن عائد الكد والسعي، أيصب في جيب الزوج؟ أو يعطى لصاحبه الكاد الساعي فيه؟ فهذا هو الفرق بيننا وبينكم في التصور. حق الكد والسعي: قال الفقهاء والمفتون المغاربة: إن حق الكد والسعي حق لا تبرع من أحد على أحد، ولا حق لأحد في السطو على مال أحد وسعيه من أجل تحصيله. فإذا كدَّ الانسان وسعى، وحصل على مال نتاج سعيه وكدِّه، فحقه أن يأخذ مقابلا على سعيه وعمله. حتى لا يضيع العمل، ولا يضيع العامل. وفي الإضاعة من المفاسد على العمران البشري ما يقر به العقلاء. إن علماء المغرب الأفاضل قد بنوا نظريتهم على مبدإ الحق الذي تشهد له ما لا يحصى من الأدلة. ومن زعم أن حق الكدِّ والسعي لا أصل له في الشرع، ولا عمل الصحابة، ولا الأمة، ولا الفقهاء من جميع المذاهب…فمن جهله أتي. ولو لم يكن من الأدلة التي رفعها شعارا هؤلاء الأخيار، وهي قوله تعالى:﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى﴾[النجم:39]. لكانت كافية فلإذعان. فعندما تعرض مثلا عبد القادر الفاسي في شرح العمل الفاسي إلى مسألة السعاية، قال:" أما معنى السعاية: ما استفادوه بعملهم. وفي الذكر:﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى﴾: أي إلا ما عمل.."([5]). ولو تأن المستعجل في الأمر وسأل عنه أهله، لربما كان له رأي يوافق فيه القائلين به. ولكن العجلة في الرد، وشهوة الكتابة من غير إحكام هذه بعض مواردها. الكد والإرث: ويستنكر البعض جمع الزوجة بين الكد والإرث، أهذا معقول؟ ونقرر أننا لا نتكلم عن أي زوجة، بل نتكلم عن الزوجات الكادات، لهن حق شرعا في أن تأخذ نصيب كدِّهن وعرق جبينهن. وتأخذ سهمها فريضة من الله عند توزيع التركة. ولأنه إن لم نعط للكادِّ حقه في هذه الثروة التي ساهم في تكوينها وتنميتها، وذنبه أنها غير مسجلة في اسمه، ولا هي في حرزه الخاص به، فقسم الورثة هذا المال، فمعناه عندنا أهل المغرب: أنهم يقتسمون جزء من المال الذي هو مال الهالك، ويقتسمون جزء من المال هو مال الساعي العامل من أجله الذي لا يزال على قيد الحياة. ونحن، في قواعد الشريعة الإسلامية نقسم مال الهالك لا مال الذي يتمتع بالصحة والعافية. وقواعد الإرث تقرر أن الإرث لا يوزع إلا بعد تصفية التركة من الحقوق المتعلقة بها. والكد والسعاية منها، فلذلك نلجأ إلى جميع وسائل الإثبات الشرعية إن احتجنا لذلك. كيف أفتوا وقضوا بالكد والسعاية: لا يمكن فهم حق الكد والسعي إلا إذا استحضر الانسان الأسرة الممتدة التي كانت في تلكم الأيام الخالية. هذه الأسرة الممتدة المكونة من الزوجين والآباء والأبناء والإخوة والأخوات والأعمام والأخوال…تزيد على ذلك قليلا أو تنقص قليلا. وكانوا بهذا الامتداد الأسري يستعينون على نوائب الزمان، ويشتغلون جميعا في الأرض التي تكون لأحدهم أو لبعضهم أو لهم جميعا. فيشتغلون في هذه الأرض: فلاحة، وسقيا، ورعاية لهذه الغلة بما هو معروف من التعاهد، والحصاد، والدراس، والتذرية، واستصلاح الماشية، والحلب والصر..الخ. وكان هذا المدخول في الغالب يكون في صندوق رب الأسرة الكبير، ومنه ينفق عليهم في لوازم الحياة أكلا وشربا، ومن احتاج منهم إلى التطبيب، أو اختار أن يتزوج فمن وعاء هذا الناتج عن كدهم في الأرض يتم الوفاء. صحيح أن بعضهم سيستفيد في مثل هذه الحياة أكثر من البعض، لكنهم تسامحوا في ذلك واغتفروه بينهم، كما تسامحوا في أجرة الحمام مع اختلاف مقدار استهلاك الماء المختلف بين شخص وآخر. وتسامحوا فيه ثانية تقديما لحق العائلة في عدم طلب الاستيفاء، لأنه ما استوفى كريم حقه قط مع أسرته وأهله. (يتبع إن شاء الله تعالى) [1] الأجوبة: الهوزالي: ص311 312. [2] الأجوبة البرجية: ص280. [3] فقه النوازل في سوس: العبادي: ص111 112. [4] الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي: الحجوي الثعالبي: 2/ 571 [5] شرح السجلماسي على العمل الفاسي: ص255.