عندما تكون دولة ما قادرة على تصنيع كل شيء تقريبا، ولديها أموال سائلة كافية لإنجاز مشاريع التصنيع، فالأفضل لها ألا تفتح ابوابها للاستثمارات الخارجية إلا في حدود ضيقة، والسبب في ذلك أن هذه الاستثمارات ضررها كبير للدولة المضيفة على المدى البعيد حيث تكون سببا في وأد الصناعة الداخلية المحلية أو اضعافها من خلال المنافسة غير المتكافئة، وبالأخص عندما تقوم الدولة المضيفة بمنح امتيازات ضريبية وعقارية للشركات الأجنبية المستثمرة، ويزداد ضررها عندما تكون سببا مباشرا في إخراج كميات كبيرة من العملة الصعبة نحو الخارج عندما تأخذ تلك الشركات المستثمرة أرباحها (توطين الأرباح في الدولة الأصل). ذكرت هذه المقدمة حتى نفهم جيدا الوضع الحالي في تركيا، فالبلاد ومنذ 40 سنة كانت تستقبل آلاف الشركات الأوروبية والأمريكية والآسيوية الكبرى المستثمرة في شتى المجالات، وبامتيازات وإعفاءات ضريبية غير مسبوقة، وكانت تركيا تستفيد من تلك الاستثمارات ماليا واقتصاديا بحيث تحصد من ورائها عشرات المليارات من الدولارات سنويا على شكل ضرائب وتوظيفات ورواج اقتصادي موازي، لكن هذه الشركات العملاقة كانت توجه معظم إنتاجها للسوق الداخلية التركية الكبيرة (أكثر من 80 مليون نسمة) ولا تصدر إلا القليل، ثم بعد إحصاء الأرباح تقوم بترحيلها نحو بلدانها الأصل بالعملة الصعبة، وهذا الواقع كان يمثل عبئا كبيرا للبنك المركزي التركي لولا أن البلاد كانت لها مصادر عملات أجنبية مهمة كالسياحة والجالية التركية بالخارج، لكن ما زاد الطين بلة هو فتح الباب أمام الشركات المحلية (التي كانت تواقة للتوسع في مشاريعها) للاقتراض من الصناديق والبنوك الدولية دون أي قيد يذكر، وهنا وقعت الكارثة إذ حدثت موجة رهيبة من الاقتراض الخارجي بدأت قبل ثلاثين سنة وانتهت بقروض متراكمة تجاوزت قيمتها بفوائدها الربوية 300 مليار دولار، وهو مبلغ ضخم للغاية تسبب في إفلاس كثير وكثير من تلك الشركات الصاعدة التي عجزت عن السداد، لكنه تسبب أيضا في ضمور وانصهار احتياطي البلاد من العملة الصعبة (الذي لدى البنك المركزي وكذا البنوك التركية) لأن أقساط تلك الديون كانت ولا زالت تسدد بالدولار والأورو، وهذا الواقع الجديد المتمثل في الطلب المفرط على العملة الصعبة هو الذي تسبب في انهيار قيمة الليرة التركية بشكل متواصل دون وجود حل فعال لوقف النزيف. ورغم معدلات النمو السريعة التي تحققت في السنوات الأخيرة من حكم اردوغان إلا أن فداحة الوضع كانت تنذر بانفجار مالي غير محسوب العواقب، وخصوصا ان الشركات التركية لم تتوقف بتاتا عن الاقتراض من الخارج، بل كانت مؤخرا تقترض من أجل سداد الأقساط الآنية المترتبة عليها، وهو ما زاد الأمر خطورة واستفحالا، لكن ما سيعجل بالانفجار هي مواقف اردوغان السياسية والعسكرية التي كانت في الآونة الأخيرة تتقاطع مع توجهات الغرب ولا تتوافق معها إطلاقا، ومن هنا بدأ الغرب يعمل في الكواليس فبدأ أولا بالتخطيط لعملية انقلابية خاطفة تنهي وجود أردوغان وحزبه إلى الأبد، لكن العملية الانقلابية فشلت وجاءت بنتائج عكسية إذ وفرت للرئيس التركي فرصة ذهبية للانتقام من جميع خصومه المؤثرين وأصحاب النفوذ ممن كانت لهم عمالة واضحة للغرب وكان أردوغان يعجز عن إيقافهم وإيقاف تغولهم في الدولة، ثم أمام هذا الفشل الذريع قرر الغرب الانتقال إلى الخطة الثانية والتي تقضي بشن حرب مالية عنيفة على الاقتصاد التركي، وبالأخص على العملة المحلية (الليرة) بغية تخفيض القدرة الشرائية للمواطنين ومن ثم إسقاط شعبية أردوغان في أي انتخابات مقبلة، وكانت الطريقة تمر عبر ثلاث طرق كلها تصب في إفراغ البلاد من العملة الصعبة.. ✓ الأولى تتمثل في سحب الأموال والودائع الأجنبية من البلاد أكانت أموالا سائلة أو غير سائلة حيث تشمل بيع الأسهم والعقارات ونقل الاستثمارات لدول اخرى. ✓ الثانية تتمثل في زعزعة الاستقرار التركي من خلال توريطه في النزاعات المحلية والإقليمية بغية ضرب القطاع السياحي الذي كان يدر على البلاد أكثر من 30 مليار دولار سنويا. ✓ الثالثة تتمثل في المضاربة على العملة المحلية وكذا على الديون التركية المتعاظمة وتضخيمها أكثر وأكثر حتى يتسبب الوضع في موجة شراء ضخمة للعملات الصعبة التي باتت نادرة أكثر وأكثر. لكن.. أردوغان ومعه فريقه المالي تفطن لهذه الخطة الخبيثة فأعد لها ما لم يكن في حسبانهم أبدا، فرغم هبوط قيمة الليرة أمام الدولار بشكل واضح (أكثر من 30٪ خلال السنة الحالية) إلا أن النتائج التي كان ينتظرها الغرب لم تأت أبدا، بل خلافها هو الذي حدث، فالاقتصاد التركي نما وما زال ينمو بوتيرة جد مرتفعة، والصادرات حطمت أرقاما قياسية غير مسبوقة في تاريخها بعدما تجاوزت 200 مليار دولار خلال العشرة أشهر الأولى من السنة الجارية، واحتياطي البلاد من العملة الصعبة بدأ يتصاعد بشكل تدريجي ومتواصل، واحتياطي الذهب اقترب من أن يتضاعف بعد أن قررت الحكومة التركيز على شراء الذهب بدل الدولار، وموازنة الحكومة تعرف فائضا كبيرا يتجاوز 3٪ من الناتج المحلي الخام، والمشاريع الهيكلية الكبرى (طرق مطارات موانىء جسور مستشفيات معاهد مصانع..) لم تتوقف بل زادت في وتيرتها بشكل لافت خلال الثلاث سنوات الأخيرة.. وحتى النزاعات الإقليمية التي حاول الغرب توريط تركيا فيها خرجت منها هذه الأخيرة بانتصارات كبيرة ساحقة وسعت على إثرها نفوذها وهيمنتها، وكانت سببا في بروز أسلحتها محلية الصنع التي أبهرت العالم وأسقطت هيبة السلاح الروسي الذي لا يقهر بعدما جعلت منه خردة لا تصلح لشيء. وكما كان يقول أردوغان في معظم خطاباته: لا غالب إلا الله.