هوية بريس – إلياس العمراني عملة تنهار يوما بعد يوم في دولة حققت أعلى معدل نمو في أوروبا بأكملها!! أيعقل هذا؟ كلنا يتذكر كيف سددت تركيا كل الديون التي كانت بذمتها تجاه صندوق النقد الدولي نهاية عام 2013 وكانت بمثابة سابقة وإنجاز كبير قلما نراه في الدول الناشئة ذات الإقتصاد المتصاعد، لكن كيف ظلت عملتها تتهاوى سنة بعد سنة رغم هذا الإنجاز الكبير ورغم تحقيق أرقام ماكرو اقتصادية جيدة للغاية؟ الجواب عن هذا يتجلى في مسألتين: أولاها جهلنا الكبير بالمعادلات والخوارزميات المنظمة للشأن المالي والاقتصادي لدول العالم وثانيها ارتباط الشركات التركية الكبرى ماليا ومصرفيا بالخارج أو بالأحرى بالصناديق الدولية لدرجة أنها أصبحت مدينة لها حتى النخاع وبشكل رهيب ورهيب جدا.. وعلى كل حال سأبسط لكم المسألة: عملة أي بلد مرتبطة عموما بقوة الاقتصاد أو بضعفه، فهي تزداد وتتقوى إذا كان نمو الاقتصاد قويا ومتواصلا، وإيرادات الدولة من العملة الصعبة أكبر من نفقاتها، ومخزون الذهب والعملات يكفي لعام أو أكثر من الواردات، والصادرات تفوق الواردات في القيمة مما يوفر فائضا في الميزان التجاري، وعجز الميزانية لا يتجاوز 2% أو بالأحرى يتحول إلى فائض مالي، والديون السيادية للدولة ضعيفة نسبة إلى الناتج المحلي .. وهي بالمقابل تنقص وتتقهقر في قيمتها إذا كان نمو الإقتصاد ضعيفا ومتعثرا، وإيرادات الدولة من العملات الصعبة لا تغطي الاحتياجات، والاحتياطي الأجنبي لا يغطي سوى بضعة أشهر من الواردات، والميزان التجاري يسجل عجزا دائما يصعب تحويله إلى فائض، وميزانية الدولة دائما متوقفة على الاستدانة من الخارج وبشكل متضاعف وتضخم الأسعار لا ينفك يتزايد بنسبة تجعل من مداخيل الأسر قصورا من رمال.. وعلى ضوء هذا التعريف المبسط تعالوا معي لنر كيف هي تركيا في هذا الإتجاه: صحيح أن الحكومة التركية سددت كامل ديونها تجاه صندوق النقد الدولي قبل أربع خمس سنوات لكن الذي كنا نجهله أنها سددت فقط ديونها المباشرة تجاه ذلك الصندوق اللئيم وإلا بالمقابل فهي مدينة بأرقام خيالية تجاه بنوك ومؤسسات مصرفية دولية إن حكوميا (لتغطية موازنة الدولة) وإن عبر الشركات العمومية التي لها كامل الحرية للاقتراض من الخارج بضمانات سيادية وإن عبر الشركات الخاصة التي تسدد ديونها للخارج بالعملة الصعبة التي تستخرجها من احتياطي البلاد.. هذه الديون الخارجية مجتمعة بلغت نهاية 2017 حوالي 460 مليار دولار (للمقارنة فديون المغرب الخارجية لا تتعدى 29 مليار دولار) ، وهو رقم ضخم وضخم جدا (فوائده السنوية متعاظمة سنة بعد سنة) ويعادل 50% من الناتج الإجماليلتركيا مما يتسبب في قضم سريع لادخارات الدولة من الدولار واليورو رغم تنوع المداخيل الأجنبية كالسياحة وتحويلات المهاجرين، ويتسبب أيضا وبشكل مباشر في ضرب قيمة صرف الليرة التركية أمام العملات الأجنبية، ثم إذا أضفنا العجز التجاري المتأزم للبلاد حيث صدرت تركيا العام الماضي ما قيمته 160 مليار دولار بينما استوردت أكثر من 235 مما تسبب لها في عجز تجاري تجاوز 75 مليار دولار لا سبيل لتغطيته إلا من خلال احتياطي البلاد من العملة الصعبة أيضا، هذه الضغوطات على الإحتياطي الأجنبي هو السبب الرئيسي لانهيار الليرة التركية وبالتالي تضخم الأسعار بشكل متسارع للغاية، وفي ظل كل هذه الأوضاع المتردية أتى الدور الأمريكي ليسدد الضربة الأليمة للاقتصاد التركي من خلال التضييق على المؤسسات المالية الدولية لمنعها من إقراض الحكومة التركية وشركاتها العملاقة التي قد تتهاوى كأوراق الخريف إن منع عنها الإقراض أو فرض عليها بنسب فائدة عالية جدا، ومن خلال المضاربة على الليرة التركية عبر دفع الشركات والمؤسسات المالية لسحب موجوداتها واستثماراتها من البلاد مما يصعب أكثر وأكثر من قدرة الإقتصاد التركي على تنفيذ مشاريعه وبرامجه الاستثمارية الضرورية لرفع الصادرات الجالبة للعملات الصعبة. إذن فمعضلة البلاد الحقيقية هي الديون ولا شيئ غير الديون المتعاظمة والتي يصعب كثيرا مواجهتها أو وضع خطة صارمة لدفعها للهبوط وهذا هو السبب الذي دفع أردوغان للتصريح ما مرة إلى أن مصيبة البلاد الكبرى هي الربا وهي السبب في الشر الذي يحوم حولها وأنه آن الأوان لتغيير المنظومة المالية لجعلها تتوافق مع الشريعة الإسلامية كسبيل سريع ومعبد لحل هذه المعضلة المتفاقمة وهو ما يعني أن الرجل عازم كل العزم لربط قيمة الليرة بالذهب عوض التحرير التام وهو ما سيكون بمثابة سابقة عالمية قد تغير المفاهيم وقوانين اللعب.. وأردوغان قد يفعلها حتما.