رئيس الحكومة يستقبل رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي    مراكش: توقيف فرنسي يشكل موضوع أمر دولي بالاعتقال من أجل ترويج المخدرات والاختطاف ومحاولة القتل    منخفض جوي يقترب من المغرب مصحوب بامطار غزيرة وثلوج    سيارة مجهولة تدهس مسنة نواحي الحسيمة وسائقها يلوذ بالفرار    البطل المغربي والعالمي حسن صاط يواصل تألقه بفرنسا ويستعد لأكبر نزال في شهر أبريل    رصد بالأقمار الصناعية.. المغرب يفكك خلية ارهابية تابعة لتنظيم أسود الخلافة    بورصة الدار البيضاء تعزز أرباحها عند الإغلاق    رئيس الاتحاد الموريتاني لكرة القدم يستقبل فوزي لقجع    نايف أكرد يغيب عن مواجهة برشلونة بسبب تراكم الإنذارات    منظمة (الألكسو).. تتويج التلاميذ المغاربة الفائزين في الدورة الثانية للبطولة العربية لألعاب الرياضيات والمنطق    بعد تفكيك خلايا إرهابية.. الاستخبارات المغربية تلاحق آثار مصادر الأسلحة    الكاتب الأول إدريس لشكر يهنئ الميلودي موخاريق بمناسبة إعادة انتخابه أمينا عاما للاتحاد المغربي للشغل لولاية رابعة    الملك يهنئ رئيس جمهورية إستونيا    الصيادلة يهدّدون باستئناف "التصعيد"    أوروبا تعلق عقوبات على سوريا    وزير العدل يؤكد في "مجلس جنيف" التزام المغرب بتعزيز حقوق الإنسان    الاستخبارات المغربية تتعقب مصادر الأسلحة الإجرامية إثر تفكيك "خلايا داعشية"    حريق يداهم الحي الجامعي بوجدة    دراسة.. ارتفاع معدلات الإصابة بجرثومة المعدة لدى الأطفال بجهة الشرق    غزة ليست عقارا للبيع!    ميناء طنجة المتوسط يستقبل سربًا من مروحيات الأباتشي    "زمن الخوف".. الكتابة تحت ضغط واجب الذاكرة    الجبل ومأثور المغرب الشعبي ..    ترتيب المحترفين المغاربة الهدافين في دوري الأبطال    بوبكر سبيك: التشكيك في العمليات الأمنية يُعدّ جزءا من العقيدة الإرهابية    ترحيل حلاق من إسبانيا إلى المغرب بعد اتهامه بتجنيد مقاتلين لداعش    تسجيل هزة أرضية خفيفة بالعرائش    الدار البيضاء.. الأوركسترا السيمفونية الملكية تحتفي بالفنان الأمريكي فرانك سيناترا    سفير اسبانيا .. مدينة الصويرة تلعب دورا محوريا في تعزيز الروابط الثقافية بين المغرب واسبانيا    دنيا بطمة تعود إلى نشاطها الفني بعد عام من الغياب    لافروف: روسيا ستوقف القتال في أوكرانيا عندما تحصل على ما تريد من المفاوضات    نقابة الصحفيين التونسيين تدعو لإطلاق سراح الصحفيين المعتقلين مع التلويح بإضراب عام في القطاع    مراكش: توقيف زوجين يروجان مواد صيدلانية مهربة من شأنها الإضرار بالصحة العامة للمواطنين    رصاصة شرطي توقف ستيني بن سليمان    مع اقتراب رمضان.. توقعات بشأن تراجع أسعار السمك    المغرب يتصدر قائمة مستوردي التمور التونسية    دراسة تكشف عن ارتفاع إصابة الأطفال بجرثومة المعدة في جهة الشرق بالمغرب    فنلندا تغلق مكتب انفصاليي البوليساريو وتمنع أنشطتهم دون ترخيص مسبق    الذهب يحوم قرب أعلى مستوياته على الإطلاق وسط تراجع الدولار وترقب بيانات أمريكية    المهاجم المغربي مروان سنادي يسجل هدفه الأول مع أتليتيك بلباو    "كابتن أميركا" يواصل تصدّر شباك التذاكر في أمريكا الشمالية    انفجار يطال قنصلية روسيا بمارسيليا    المعرض الدولي للفلاحة بباريس 2025.. المغرب وفرنسا يعززان تعاونهما في مجال الفلاحة الرقمية    السعودية تطلق أول مدينة صناعية مخصصة لتصنيع وصيانة الطائرات في جدة    غوتيريش: وقف إطلاق النار في غزة "هش" وعلينا تجنب تجدد الأعمال القتالية بأي ثمن    الصين: "بي إم دبليو" تبدأ الإنتاج الضخم لبطاريات الجيل السادس للمركبات الكهربائية في 2026    الوزير يدعم المغرب في الحفاظ على مكسب رئاسة الكونفدرالية الإفريقية للمصارعة وانطلاقة مشروع دراسة ورياضة وفق أفق ومنظور مستقبلي جديدة    مناقشة أول أطروحة تتناول موضوع عقلنة التعددية الحزبية في المغرب بجامعة شعيب الدكالي    صدمة كبرى.. زيدان يعود إلى التدريب ولكن بعيدًا عن ريال مدريد … !    المغربي أحمد زينون.. "صانع الأمل العربي" في نسختها الخامسة بفضل رسالته الإنسانية المُلهمة    فقدان الشهية.. اضطراب خطير وتأثيره على الإدراك العاطفي    الشاذر سعد سرحان يكتب "دفتر الأسماء" لمشاهير الشعراء بمداد الإباء    التخلص من الذباب بالكافيين يجذب اهتمام باحثين يابانيين    رمضان 2025.. كم ساعة سيصوم المغاربة هذا العام؟    اللجنة الملكية للحج تتخذ هذا القرار بخصوص الموسم الجديد    أزيد من 6 ملاين سنتيم.. وزارة الأوقاف تكشف التكلفة الرسمية للحج    الأمير رحيم الحسيني يتولى الإمامة الإسماعيلية الخمسين بعد وفاة والده: ماذا تعرف عن "طائفة الحشاشين" وجذورها؟    التصوف المغربي.. دلالة الرمز والفعل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ".. من وجوه ترجيح القول بأنهم الملائكة
نشر في هوية بريس يوم 05 - 10 - 2021


بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الله تعالى: "إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ"-الواقعة-.
اختلف أهل العلم بالتأويل في هذه الآية، فذهب قوم إلى أن المراد اللوح المحفوظ لا يمسه إلا الملائكة وذهبت طائفة إلى أن المراد المصحف لا يمسه إلا الطاهرون من بني آدم، وقيل غير ذلك.
يقول الإمام الطبري رحمه الله تعالى في جامعه:" قوله: (لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ)، يقول تعالى ذكره: لا يمسّ ذلك الكتاب المكنون إلا الذين قد طهَّرهم الله من الذنوب. واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله: (إِلا الْمُطَهَّرُونَ)، فقال بعضهم: هم الملائكة.
عن ابن عباس، قال: إذا أراد الله أن ينزل كتابا نسخته السفرة، فلا يمسه إلا المطهرون، قال: يعني الملائكة."([1]).
وهذا القول مروي عن سعيد بن جبير وعن عكرِمة وعن مجاهد رحمهم الله تعالى.
و"عن أبي العالية الرياحي، في قوله: (لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ)، قال: ليس أنتم، أنتم أصحاب الذنوب.
وقال آخرون: عني بذلك: أنه لا يمسه عند الله إلا المطهرون. عن قتادة، قوله: (لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ)، ذاكم عند ربّ العالمين، فأما عندكم فيمسه المشرك النجس، والمنافق الرَّجِس…"([2]).
ومن وجوه ترجيح أن المقصود الملائكة([3])ما يلي:
1- "المطهّرون" اسم مفعول –من التطهير- أي أن غيرهم طهرهم، فالله جعل وعلا هو الذي طهرهم ظاهرا وباطنا، ومن وجوه تطهيرهم:
– مسارعتهم في طاعة ربهم كما قال جل في علاه: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}-التحريم:6-.
– خشيتهم من ربهم كما قال تعالى: "وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)"-النحل-.
– عدم استنكافهم عن تحقيق العبودية له جل شأنه كما قال تعالى: "لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ"-النساء:172-.
– مدوامتهم على الذكر دون ملل ولا كلل ولا فتور، كما قال تعالى: "يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)"-الأنبياء-، "وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)"-الصافات-.
– ومن وجوه طهارة ظاهرهم جمالهم الباهر كما هو مستقر في الفطر وإن لم يكن من قسم المحسوس، قال تعالى حكاية عن صاحبات امرأة العزيز: "مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)"-يوسف-…
2- دلالة القرآن الكريم في موضعين على أن المراد بالمطهّر من طهّره الله تعالى،
وذلك في وصف الحور العين ووصف صحف الملائكة:
أ- في وصف الحور العين: "وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)"-النساء-، وقال تعالى: "وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)"-البقرة-، فالله تعالى هو الذي طهرهن من كل قبيح ظاهر أو باطن، "ليشمل جميع أنواع التطهير، فهن مطهرات الأخلاق، مطهرات الخلق، مطهرات اللسان، مطهرات الأبصار، فأخلاقهن، أنهن عرب متحببات إلى أزواجهن بالخلق الحسن، وحسن التبعل، والأدب القولي والفعلي، ومطهر خلقهن من الحيض والنفاس والمني، والبول والغائط، والمخاط والبصاق، والرائحة الكريهة، ومطهرات الخلق أيضا، بكمال الجمال، فليس فيهن عيب، ولا دمامة خلق، بل هن خيرات حسان، مطهرات اللسان والطرف، قاصرات طرفهن على أزواجهن، وقاصرات ألسنتهن عن كل كلام قبيح."([4]).
ب- في وصف صحف الملائكة: قال تعالى:" فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15)كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)"-عبس-
ومن وجه تطهير هذه الصحف أن الله تعالى جعلها في منأى عن عبث الشياطين وتلاعبهم وأنها لا يمكن أن يمسها غبار بله نجاسة أو شيء قذر..
3- ومن الوجوه التي تبين أن المراد بالمطهّرين الملائكة لا الآدميين، أن الشارع حينما يصف هؤلاء بالطهارة يعبر بألفاظ تدل على أن الطهارة من فعلهم فيأتي التعبير بالمتطهرين أو بالمطّهّرين:
قال تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)"-البقرة-.
وقال تعالى: "فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ"-التوبة:108-.
ولا يخفى الفرق بين "مطهّرون" -وهو من التطهير- و"متطهّرين" و"مطّهّرين" -وهما من التطهر و الإطهار-:
ف"مطهّرون" حصلت لهم الطهارة من غيرهم فالله جل في علاه هو الذي طهّرهم-كما سلف-، أما "متطهّرون" و"مطّهّرون" فهم يطهرون أنفسهم بأنفسهم فيطهرونها ظاهرا وحسيا من النجاسات والأدران والأوساخ ومن ذلك طهارتهم من الجنابة والخبائث وغيرها، ويطهرونها باطنا ومعنويا من سوء الأخلاق وسيئ الأفعال وقبيح الصفات وذميم الخصال…
يقول العلامة السعدي رحمه الله تعالى:"{وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} أي: المتنزهين عن الآثام وهذا يشمل التطهر الحسي من الأنجاس والأحداث."([5])."{وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} الطهارة المعنوية، كالتنزه من الشرك والأخلاق الرذيلة، والطهارة الحسية كإزالة الأنجاس ورفع الأحداث"([6]).
يقول الإمام الرازي رحمه الله تعالى:" قوله: {إِلا الْمُطَهَّرُونَ} هم الملائكة طهرهم الله في أول أمرهم وأبقاهم كذلك طول عمرهم ولو كان المراد نفي الحدث لقال: لا يمسه إلا المطهرون([7]) أو المطهرون ، بتشديد الطاء والهاء ، والقراءة المشهورة الصحيحة {الْمُطَهَّرُونَ} من التطهير لا من الإطهار"([8]).
ويقول شيخ الإسلام عليه رحمة المنان: "{لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} وهم الملائكة، ولو أراد المتوضئين لقال: (المتطهرين) فالملائكة مطهرون، والمؤمنون متطهرون…"([9]).
4- من حجج القائلين بأن المراد بالمطهّرين الآدميون أن الآية خرجت مخرج النهي في صورة الخبر أي أنها نهي للمؤمنين بعدم مس المصحف من غير طهارة، فهي إنشائية في صورة خبر.
لكن هذا القول تأباه الصناعة النحوية، يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في معرض الرد على هذا الزعم:" هذا إخبار، ولو كان نهيا لقال: لا يمسسه بالجزم. والأصل في الخبر أن يكون خبرا صورة ومعنى."([10]).
5- ومن الوجوه التي تدل على أن المراد الملائكة وليس المتطهرون من بني آدم أن هذه الآية تشبه الآية التي في سورة عبس فهي نظيرتها، وفي هذا المعنى يقول إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله تعالى:" أحسن ما سمعت في هذه الآية {لا يمسه إلا المطهّرون} إنما هي بمنزلة هذه الآية التي في عبس وتولى قول الله تبارك وتعالى: "كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهّرة بأيدي سفرة كرام بررة"([11])اه.
يقول العلامة التونسي ابن عاشور رحمه الله تعالى معلقا على قول الإمام مالك:" يريد أن المطهّرون (هم السفرة الكرام البررة وليسوا الناس الذين يتطهرون."([12])، وقال في موضع آخر: المطهّرون ( : الملائكة ، والمراد الطهارة النفسانية وهي الزكاء . وهذا قول جمهور المفسرين."([13]).
6- ومن ذلك ما ورد في نزولها فقد ذكر بعض أهل العلم أن الآية نزلت ردا على ما زعمه المشركون من أن القرآن ينزل به الشياطين.
قال الإمام أبو جعفر الطبري رحمه الله تعالى:" حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ) زعموا أن الشياطين تنزلت به على محمد، فأخبرهم الله أنها لا تقدر على ذلك، ولا تستطيعه، ما ينبغي لهم أن ينزلوا بهذا ، وهو محجوب عنهم، وقرأ قول الله (وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ)."([14]).
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى([15]): "يقول تعالى مخبرًا عن كتابه العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد: أنه نزل به الروح الأمين المؤيد من الله، {وَمَا تَنزلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ}. ثم ذكر أنه يمتنع عليهم من ثلاثة أوجه، أحدها: أنه ما ينبغي لهم، أي: ليس هو من بُغْيتهم ولا من طلبتهم؛ لأن من سجاياهم الفساد وإضلال العباد، وهذا فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونور وهدى وبرهان عظيم، فبينه وبين الشياطين منافاة عظيمة؛ ولهذا قال تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ}.
وقوله: {وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} أي: ولو انبغى لهم لما استطاعوا ذلك، قال الله تعالى: {لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21].
ثم بين أنه لو انبغى لهم واستطاعوا حمله وتأديته، لما وصلوا إلى ذلك؛ لأنهم بمعزل عن استماع القرآن حال نزوله؛ لأن السماء ملئت حرسًا شديدًا وشهبا في مُدّة إنزال القرآن على رسوله، فلم يخلص أحد من الشياطين إلى استماع حرف واحد منه، لئلا يشتبه الأمر. وهذا من رحمة الله بعباده، وحفظه لشرعه، وتأييده لكتابه ولرسوله؛ ولهذا قال: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ}، كما قال تعالى مخبرًا عن الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا * وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:8-10]"([16]).
يقول الإمام الفخر الرازي رحمه الله تعالى: "وعلى هذا يتأيد ما ذكرنا من وجه آخر، وذلك من حيث إن بعضهم كان يقول: هو من السماء ينزل به الجن ويلقيه عليه كما كانوا يقولون في حق الكهنة فإنهم كانوا يقولون: النبي صلى الله عليه وسلّم كاهن ، فقال: لا يمسه الجن وإنما يمسه المطهرون الذين طهروا عن الخبث([17])، ولا يكونون محلاً للإفساد والسفك ، فلا يفسدون ولا يسفكون ، وغيرهم ليس بمطهر على هذا الوجه ، فيكون هذا رداً على القائلين : بكونه مفترياً ، وبكونه شاعراً ، وبكونه مجنوناً بمس الجن ، وبكونه كاهناً ، وكل ذلك قولهم والكل رد عليهم بما ذكر الله تعالى ههنا من أوصاف كتاب الله العزيز."([18]).
يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "هذا رد على من قال: إن الشيطان جاء بهذا القرآن، فأخبر تعالى أنه: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [78/56] لا تناله الشياطين ولا وصول لها إليه، كما قال تعالى في آية الشعراء {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [210،211/26] وإنما تناله الأرواح المطهرة، وهم الملائكة."([19]).
7- ومن الوجوه: سياق الآية ونظمها: يقول الله تعالى: "إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)"، فالسياق معتبر في التفسير كما هو معلوم، فالله تعالى أخبر أن القرآن الكريم مسطر في الكتاب المكنون الذي هو اللوح المحفوظ، هذا اللوح لا يمسه إلا الملائكة الذين طهرهم الله تعالى ظاهرا وباطنا، وأن الله تعالى نزل قرآنه الكريم من هذا اللوح بواسطة ملائكته.
يقول الإمام الطبري رحمه الله تعالى: "وقوله: ( تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ )، يقول: هذا القرآن تنزيل من رب العالمين، نزله من الكتاب المكنون."([20]).
8- القول بأن المراد بالمطهرين الملائكة مبني على أن الضمير في "يمسه" عائد على الكتاب المكنون، وأن المراد بهذا الكتاب اللوح المحفوظ، وهذا هو الراجح.
فقد اختلف العلماء في تأويل الكتاب المكنون على أقوال: فمنهم من قال أن المراد اللوح المحفوظ –أي أن القرآن الكريم موجود في اللوح المحفوظ- ومنهم من قال أن المراد به المصحف وقيل غير ذلك.
ومن قواعد الترجيح بين أقوال المفسرين: (أنه إذا اختلف في آية على قولين أو أكثر وكان لأحد القولين ما يؤيده من آيات قرآنية قدم هذا القول على ما عدم ذلك)
وقد دلت آيات من كتاب الله تعالى على أن القرآن مسطر في اللوح المحفوظ، قال تعالى: "وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)"-الزخرف-.
"{وإنه} أي: القرآن {فِي أُمِّ الْكِتَابِ} أي: اللوح المحفوظ، قاله ابن عباس، ومجاهد…"([21]).
وقال تعالى: "بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)"-البروج-.
9- ومن الوجوه ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة المنان:
أن الآية مكية من سورة مكية تتضمن تقرير التوحيد والنبوة والمعاد وإثبات الصانع والرد على الكفار، وهذا المعنى أليق بالمقصود من فرع عملي، وهو حكم مس المحدث المصحف.
10- ومنها: أنه لو أريد به الكتاب الذي بأيدي الناس لم يكن في الإقسام على ذلك بهذا القسم العظيم كثير فائدة؛ إذ من المعلوم أن كل كلام فهو قابل لأن يكون في كتاب حقا أو باطلا؛ بخلاف ما إذا وقع القسم على أنه في كتاب مصون مستور عن العيون عند الله، لا يصل إليه الشيطان، ولا ينال منه، ولا يمسه إلا الأرواح الطاهرة الزكية. فهذا المعنى أليق وأجل وأخلق بالآية وأولى بلا شك.)([22]).
هذا، والله أعلم وأحكم ونسبة العلم إليه سبحانه أسلم.
([1]) جامع البيان في تأويل آي القرآن: 23/150.
([2]) نفسه.
([3]) تمس الكتاب المكنون أي اللوح المحفوظ. –كما سيأتي بيانه-.
([4]) تيسير الرحمن: 46.
([5]) تيسير الرحمن: 100.
([6]) نفسه: 351.
([7]) لعله أراد "المتطهرون" فسقطت التاء.
([8]) مفاتيح الغيب: 29/170.
([9]) المستدرك على مجموع الفتاوى: 1/169.
([10]) نفسه.
([11]) الموطأ: 2/279.
([12] ) التحرير:27/334.
([13] ) التحرير:27/334.
([14] ) جامع البيان: 23/149.
([15] ) في تفسير قوله تعالى:" وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210)وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211)إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)"-الشعراء-.
([16] ) تفسير ابن كثير:6/165.
([17]) يقصد الملائكة عليهم السلام.
([18]) مفاتيح الغيب:29/170.
([19] ) المستدرك على مجموع الفتاوى: 1/170.
([20] ) جامع البيان:23/152.
([21] ) ابن كثير:7/218.
([22]) المستدرك على مجموع الفتاوى: 1/170.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.