هوية بريس – الخميس 31 دجنبر 2015 من جميل ما طالعته عن معاناة المدرس ، ما ذكره الشيخ الطنطاوي في كتابه الرائع "من حديث النفس" عن تجربته التعليمية حين سُئل عن الفرق بين القضاء والتعليم ، فقال رحمه الله: "يسألني كثير من الإخوان، كيف وجدت القضاء؟ إني وجدت القضاء راحة الجسم وتعب بال، وعلو منزلة وقلة مال، واكتساب علم وازدياد أعداء، وحملاً كبيراً نسأل الله السلامة من سوء عاقبته: أما أنه (راحة جسم) فذلك أني كنت في التعليم أتكلم ولا أسمع، فصرت الآن اسمع أكثر مما أتكلم. وكنت لا أقدر على السكوت لأني إن سكت تكلم العفاريت (أعني التلاميذ)، حتى أنه ربما أصابني أحياناً أذى في حلقي فجعلني أغص بالماء الزلال، وأشرق بالريق، وأجد للكلمة الواحدة انطق بها مثل حزة السكين ثم لا أستطيع الصمت دقيقة لئلا يفلت من يدي طرف السلكة فينفرط العقد ويبطل النظام. وكنت أدخلْ الصف (الفصل) وأخرج منه خمس مرات أو ستاً في اليوم ولا أقعد على كرسي لئلا يرى الشيطان مني غفلة فيعطس في مناخر التلاميذ فيحدثوا في الفصل حدثاً، وياما أكثر أحداثهم! وأيسرها ضجة كضجة حمام انقطع ماؤه كما يقول الشاميون في أمثالهم العلمية. ثم إذا خرجت من الصف لأستريح راحة ما بين الدرسين (الحصتين) لحقني طائفة من الطلاب يسألونني فأقف لهم حتى ينفخ إسرافيل المدرسة في صوره فيحشر الطلاب والمدرسون إلى نار العمل. فأصل آخر النهار بأوله وأنا قائم على أمشاط رجليّ ولساني لا يكف عن الدوران في فمي… فغدوت الآن ولا عمل لي إلا القعود على كرسي القضاء أقول الكلمة بعد الكلمة وأسمع سيلاً من الكلام مما له موضع أو ليس له مكان، وإلا كتابة القرارات (أي السجلات في عرف الفقهاء)، وقد كفاني الكتاب (أَحْمَدَ) الله فَعالَه كل ما سوى ذلك من الأعمال، وما ينغص على هذه الراحة إلا خشية ثقل اللسان من كثرة الصمت فلا ينطق بعد كما كان ينطلق، وإن كان ذلك نعمة ترجى، وإن كان لساني هو مصدر أذاي ومن الخير لي أن يثقل أو يكلّ". (ص:229).