بغض النظر عما شاب انتخابات 08 شتنبر الجاري، في المغرب، والهزيمة الساحقة التي مني بها حزب العدالة والتنمية، الذي انحدر من 124 برلمانيا إلى نحو 13 برلمانيا، وفقد جل المدن والجهات التي كانت تحت سيطرته، أقول بغض النظر عما شاب تلك الانتخابات، التي ما من شك أن من زعم أن التزوير أو شراء الذمم شابها لأجل إسقاط (الحزب الإسلامي)، فإن نفس الكلام يقال بطريقة أخرى حول انتخابات 2011 التي نتج عنها الصعود المفاجئ (للحزب الإسلامي).. ما من شك أن حزب العدالة والتنمية طوال فترتيه الحكوميتين، واللتين اتسمتا بزيادة في نفوذ وسلطة الحزب، نتيجة زيادة عدد البرلمانيين والمجالس والجهات التي فاز فيها الحزب بنتيجة ساحقة، فإنه بالرغم من ذلك كانت تشكو قيادته من ضغوطات وإكراهات كثيرة، جعلتها تبوح بأنها لا سلطة لها ولا تأثير، لا على مستوى المجالس البلدية ولا على مستوى الحكومة، مما جعلها تمرر قوانين خطيرة جدا، وتتعارض تماما مع هوية الحزب، ولا أقل من قوانين فرنسة التعليم، والتطبيع مع الكيان الصهيوني… بغض النظر عن صدق ذلك من عدمه؛ فإنه مما لا شك فيه أن الدولة العميقة احتاجت بقوة لحزب العدالة والتنمية عام 2011، وكنت حينها ممارسا للسياسة، وأحد صناع التحالف المتعارف عنه باسم: G8، الذي سرعان ما انقسم بعد تلك الانتخابات، بعد أن كان مسلما أنه سيشكل الحكومة المقبلة، ولكن فجأة تغيرت الأمور، وصعد حزب العدالة والتنمية – بالرغم من أنه كان يتفاوض من أجل الدخول في التحالف المذكور. لقد كانت ظروف المغرب حساسة جدا، فقد كان في قلب الربيع العربي، وقوي حراك 20 فبراير، الذي أصبح يجوب أكثر من سبعين مدينة في وقت واحد، ورفعت فيه شعارات وصلت أحيانا في الدارالبيضاء للدعوة لسقوط النظام، مما ولد في البلاد حالة شديدة من القلق، والشعور بالخطر. قام الملك حينها بالدعوة لدستور جديد، وابتدأ المجتمع حراكا كبيرا من أجل صياغة الدستور الجديد، الذي صيغ في وقت شديد الحلكة، وهو أقرب لكونه كتابا، من كونه دستورا، نظرا لكثرة فصوله، وتشعبها، وتداخلها، وتناقضها أحيانا، غير أن محرره كان واعيا أشد الوعي، فبالرغم من إعطاء المؤسسات المنتخبة سلطات كبيرة؛ فإنه أتقن صنع مؤسسات موازية، تجعل سلطات المؤسسات المنتخبة صورية، وكذلك أدخل الإديولوجيا والتفرقة اللغوية والإثنية في الدستور بحيث مهد لنقاشات سوفسطائية طويلة، ظاهرها إرضاء جميع الأطراف، وباطنها تشتيت النقاش السياسي والمجتمعي، والتمهيد للوبيات تستطيع الحكم من وراء مؤسسات دستورية. قامت الدولة بمحاولة تفتيت حراك 20 فبراير، عن طريق زرع الفتنة بين الأطراف الممثلة، والمفاوضة مع بعضها الآخر، ونشر فضائح أخلاقية خطيرة بين قيادات إحدى الأنسجة المكونة للحراك، مما أضعف الحراك إلى حد كبير، وجعل الدولة تستعيد المبادرة مرة أخرى.. علم النظام المغربي أن تلك السيطرة لا تعدو أن تكون آنية، ولذلك فإنه يحتاج إلى استعمال مؤسسة يثق فيها الشعب، ويشعرون أنها بديل عن الفساد، وذات وجوه جديدة يمكن للناس الاعتماد عليها، والإيمان بكفاءتها وأهليتها لإصلاح الأوضاع، ولم تكن تلك المؤسسة إلا "الحزب الإسلامي" حزب العدالة والتنمية، فتم التسهيل لنجاحه ليفوز فوزا ساحقا في تلك الانتخابات ويتهيأ لتشكيل حكومة يترأسها زعيم الحزب السيد عبد الإله بنكيران… تفاجأ الجميع بالنتائج، بمن فيهم قيادات العدالة والتنمية أنفسهم، وأصبح المغرب يشاهد واقعًا جديدا، يتمثل في دستور يتضمن جميع مطالب الجميع (…)، وحكومة مشكلة من نظيفي الأيدي، وتشكلت الحكومة بعجرها وبجرها – مما قد أتحدث عنه في مقال لاحق إن شاء الله – واستطاع المغرب تهدئة الأوضاع، لنخرج من حالة الحراك، الذي تحجم في عدة جيوب؛ كجرادة والحسيمة فيما بعد، غير أن النظام استطاع القضاء عليه فيما بعد… أبلى حزب العدالة والتنمية بلاء كبيرا في إسكات الحراك، وتغرير الناس بمرجعيته الإسلامية، ونزاهته، وحسن حكامته، غير أن ذلك "التدويخ" مكن جهات نافذة من تمرير قوانين كان يستحيل تمريرها من قبل، عن طريق هذا الحزب وقيادته القوية، والبارعة في الإقناع الجماهيري، وهكذا مررت الحكومة قوانين ضريبية موجعة، وكادت تقضي على صندوق المقاصة، ومهدت لفرنسة التعليم وإرجاعنا ثلاثين عاما إلى الوراء، وقمع المظاهرات بالعنف في جميع أطراف البلاد بما اصطلح عليه (الزرواطة الشرعية)، وإيقاف التوظيف إلى حد كبير بحجة إفلاس صندوق التقاعد، والتضييق على أساتذة المدارس، وإلغاء التوظيف المباشر واستبدال التعاقد به، ورفع الذعائر، والضرائب، وإيقاف الاستثمار الخارجي، وغير ذلك من الأعمال التي لم تجرؤ أي حكومة سابقة على تمريرها، انتهاء بإغلاق المساجد وجميع المعاهد الشرعية والكتاتيب القرآنية، والزوايا الصوفية، وإلغاء صلوات التراويح والعيدين بحجة وباء كورونا، واعتمادا على توصيات لجنة علمية الله أعلم من أعضاؤها، وما هي توجهاتهم؟، والتي لا تعدو أن تكون استشارية فقط، ثم بالتطبيع مع الكيان الصهيوني، وتوقيع وثيقة تفاهم مع الدولة الغاصبة في فلسطين. كل تلك المواقف استطاعت الدولة، أو اللوبيات النافذة أن تمررها باسم الحكومة التي تقودها (العدالة والتنمية)، مع عمل قيادات هذا الحزب على إقناع الناس بضرورة ما قاموا به، وأنه هو الصواب، وأنه لا بد منه، وأنه من مصلحة البلاد المقدمة على كل المصالح، ونظرا لكون هذا الحزب حزبا حقيقيا من حيث التنظيم والانتشار، فقد استطاع تخدير المجتمع، ليصبر من صبر، وينتحر من انتحر، ويهرب في البحر للخارج من هرب، من دون أي رد فعل حقيقي.. نتيجة انتخابات 8 شتنبر كانت بغض النظر عما قيل فيها، كانت متوقعة، ومبررة، ولولا انسحاب (العدالة والتنمية) لربما انفجرت الأوضاع؛ لأنها وصلت إلى حد لا يطاق… ولكن السؤال هنا بالنسبة للدولة؛ مما لا شك فيه ان ما مرره حزب (العدالة والتنمية) إنما مرره لثلاثة أسباب: الأول: البراغماتية، فقد كان للحزب خطاب مصلحي يوجهه للنظام، من أجل حماية مصالحه والحفاظ عليها. وخطاب آخر للشعب: يوهمه أنه تحت ضغط المؤسسة الملكية، وأن ما مرره من القوانين إنما كان بسبب (التماسيح والعفاريت)، فالحزب هنا رابح على الوجهين. الثاني: عدم قدرة هياكل الحزب على اقتراح البدائل، فإنه كان يفضل تمرير ما يعرض عليه، وإلقاء المسؤولية على المؤسسة الملكية، على أن يقترح بدائل، ويعرضها هو ويتحمل مسؤوليته فيها، ولهذا الضعف أسباب كثيرة؛ من أهمها: عدم إشراك قيادة الحزب كفاءات الحزب وتقديم الأصلح لما يناسبه من الوظائف والمسؤوليات، ثانيا: ضعف تواصل الحزب مع المجتمع، بل جل قيادات الحزب تنكرت للهيئات والأشخاص الذين كانت على تواصل بهم قبل صعودها للحكومة، وأعلنت القطيعة مع جل تلك الكفاءات بدلا من الاستفادة منها، ثالثا: الخليط غير المتجانس بين مكونات الحكومة نفسها، وهذا يحتاج لموضوع مستقل. الثالث: عدم جرأة الحزب على الاعتراض عما لا يراه مناسبا، وضعف الإرادة في إثبات الوجود على الساحة السياسية، ومن أوضح مظاهر هذا الضعف: عدم استطاعة حزب (العدالة والتنمية)، وهو الحزب المنتخب بقوة الشعب، السيطرة على وسائل الإعلام السمعي البصري، والتغيير في هياكلها، وما قضية الصراع البئيس بين وزارة الاتصال وبين مؤسسة تلفزيون دوزيم إلا تجل واضح لذلك، بل أكثر من ذلك؛ قامت الحكومة على دورتين بدفع ديون تلك المؤسسة، تلك الديون التي كانت بأرقام مكوكية يعرفها الجميع… أقول: أهم وسيلة استطاع بها حزب (العدالة والتنمية) الحفاظ على شعبيته في استحقاقات 2016 على الخصوص؛ كان الثقة التي وضعها الناس فيه، وشعورهم بأنه الحزب المخلص، الذي وعدهم بوعود، ومناهم أماني، وثقتهم بأفراد ذلك الحزب وقياداته الذين لم تتلطخ أياديهم سابقا بأي مسؤولية، أو سرقات على مستوى المال العام… لقد كان حزب (العدالة والتنمية) صمام أمان للمجتمع، وكانت لديه المقدرة، خاصة في ولاية الأستاذ ابن كيران، على ضبط الساحة، وكسر المعارضة، والقضاء عليها قضاء مبرما، فقد استطاع ابن كيران القضاء على قيادة حزب الأصالة والمعارضة، والقضاء على قيادة حزب الاستقلال، والقضاء على قيادة حزب الاتحاد الاشتراكي، والقضاء على قيادة حزب الأحرار، ليصبح حزبه منفردا في الساحة، هذا الانفراد الذي أشار إليه الأستاذ ابن كيران في خطابه المفتوح أخيرا للدولة، بعد أن بلغه من قنواته الخاصة، أن السيد عزيز أخنوش قد مُهِّد له من أجل قيادة المرحلة المقبلة، فخطاب السيد ابن كيران كان موجها للدولة العميقة بالخصوص، منبهًا ومحذرًا بلغة واضحة، أن تقديم رجل مثل عزيز أخنوش، سيتسبب مستقبلا في فوضى… إذا؛ ماذا أعدت الدولة لتلك الفوضى المحتملة؟ هل أعدت مقاربة أمنية؟ أم مقاربة تنموية؟.. إن سقوط حزب (العدالة والتنمية) كان لأسباب واضحة؛ أهمها: – الفشل في توفير الأمن الاقتصادي للمجتمع. – الفشل في توفير الأمن الروحي للمجتمع. – الفشل في توفير الأمن الصحي للمجتمع. – التطبيع مع الكيان الصهيوني، وبذلك خسارة المغرب لمكانته واحترامه بين الشعوب الإسلامية والشعوب الحرة. فهل ستستطيع الحكومة المقبلة حل هذه الإشكالات؟ هل ستستطيع توفير انفتاح اقتصادي عن طريق خفض الضرائب وتسهيل الاستثمار الداخلي والخارجي؟ هل ستستطيع إصلاح التعليم، وإيقاف المد الفرونكوفوني، والتلاعب بالملف الأمازيغي المراد به ضرب اللغة العربية، هل سترفع من أجرة أساتذة التعليم المدرسي والتعليم الجامعي؟ هل ستسهل في فتح جامعات جديدة، خاصة في المناطق التي تحتاج لذلك، وتنمية البحث العلمي؟ هل تستطيع توفير الأمن الديني عن طريق إيقاف الحملات المغرضة ضد الإسلام، وفتح المساجد والتعليم العتيق ودور القرآن، ورفع اليد عن خطباء المساجد وعن تأميم الخطاب الديني؟ هل ستستطيع الحكومة الجديدة إصلاح الحقل الصحي وإنعاشه، وفتح مستشفيات جهوية كافية، والرفع من أجور الأطباء وكفاءاتهم؟ هل ستستطيع إتقان إدارة العلاقة مع الكيان الصهيوني، علما أن المعاهدة الحديثة تتضمن ثغرات مهمة يمكن المرور من طريقها؛ أهمها: أنها تضمنت إعادة الارتباط مع الكيان، وليس الاعتراف وتبادل السفارات، فهل ستسطيع الحكومة الجديدة ضبط تلك العلاقة، وحسن إدارتها، قبل أن يغرق المغرب في اللوبيات الاقتصادية والأمنية الصهيونية، بما قد يفقده سيادته فيما بعد؟ إذا لم تستطع حكومة السيد أخنوش التعامل مع هذه القضايا بحنكة وكفاءة، فمما لا شك فيه أنها ستواجه غضبا شعبيا جديدا، ولا أظن أن قيادة حزب الأحرار حتى ولو امتلكت 360 برلمانيا ستسطيع السيطرة على الشعب، وإقناعه بالعودة إلى منازله… إن النتيجة التي مني بها حزب (العدالة والتنمية) في الانتخابات الأخيرة، والمتمثلة في 13 برلمانيا فقط، وهي نتيجة لا تعكس واقع شعبية الحزب قطعا، هي في رأيي نتيجة تشكل خطرا على استقرار الدولة في حد ذاتها، لأن حزبا يفقد حتى فريقه البرلماني، لا يمكن أن يُعول عليه في ضبط حراك مجتمعي، ومعارضة ضعيفة، لن توفر حكومة قوية أبدا، لأن نظام الحكم دائما يسير نتيجة التوازن بين الأغلبية والمعارضة…كما أن الأحزاب المغربية لا يوجد بينها حزب يمتلك شعبية حزب (العدالة والتنمية) ويستطيع التأثير على المجتمع ولو من موقعه في المعارضة. فحزب (العدالة والتنمية) هو حزب أساسي في توازن القوى في المغرب، وفي ضبط المجتمع، ولا يمكن الاستغناء عنه ولا التقليل من شأنه، فقد تحتاج إليه الدولة في وقت ليس ببعيد…