لم يتهم أصحاب القلوب الإنتقائية المُرهفة من بني جلدتنا المكتوب في أوراقهم الثبوتية؛الديانة :مُسلم، لم يتهموا الأمةَ الإسبانية بأنها متخلفة وظالمة ومنزوعٌ منها إنسانيتها، إزاء مصارعة الثيران التي اشتهرت بها، حيث يموت الآلاف من هذه الحيوانات تعذيبا، من أجل أن يتلذذ الجماهير وتربح الدولة والقائمون على هذه المباريات، لا ضير، فهي رياضة. وعندما تتحول مياه جزر فارو الدنماركية إلى اللون الأحمر، بعد أن يذبح السكان المحليون فيها عشرات الحيتان سنويا بعد اصطيادها وكسر عنقها ثم إعادتها إلى الشاطئ، فلا بأس، فهذا (فلكلور) متبع منذ القرن السادس عشر.هذه المظاهر وأشباهها نادرا ما يتناولها علمانيو بلادنا العربية والإسلامية، طالما كانت بعيدة عن الشكل التعبدي، وعلى وجه الدقة الشكل التعبدي في الملة الإسلامية، وإلا فإن اليهود كذلك يقيمون (مذبحة) للديوك البيضاء في عيد الغفران، بعد إجراء طقوس معينة يعتقدون أنها تنقل خطايا اليهودي إلى الديك، ثم يتم ذبحه، ومع ذلك لا يتعرض قومنا لتلك (المذبحة) باعتبارها شأنا تعبديا خاصا باليهود، والحديث عنه يدخل في نطاق ازدراء الأديان. أحدهم يتهكم على ذبح الأضحية ويعتبره سلوكًا رجعيًا، ويقول إنه استيطان إسلامي رجعي يشوه مدن بلاده ذات الطراز الفرنسي، ويطالب بإيقاف هذا البدو الذي يهدد المدن، يعني الأضحية. وآخر بعد سخريته من شعائر ومناسك الحج يصف الأضحية بأنها إهدار بلا ثمن لثروة حيوانية هائلة، وعملية وحشية بلا معنى.. وإحداهن تسميها مذبحة تاريخية ترتكب منذ أكثر من ألف عام، بسبب ما أسمته «كابوس لأحد الصالحين»، وتعني رؤية خليل الله إبراهيم، ثم تقول إن الكابوس مرّ بسلام، إلا أن دماء الكائنات الحية تراق سنويا بدون ذنب، وإن ما يدفع الإنسان لذلك هو شهوة الذبح التي تجعله يُلبس قدسية النص القرآني ما لم يقل، على حد زعمها.وأخرى كتبت؛ وبئس ما كتبت، وهي عضو اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية في الأردن،كتبت تقول:( العيد يستحق الاحتفال عندما نصنع شكل من أشكال الحياة أو ننقذها من العبث وفوضى البقاء وليس بالضرورة عندما نخطف حياة أو نبيدها ونضحي فيها بسبب طقوس تفتقر للرحمة والرأفة،ذبح الأغنام وتقديم الاضحية غير مبرر والاسلام بريء من هذا الطقس في عصر تطور وتغيرت فيه السياقات المعيشية ومفاهيم التوازن البيئي والطقوس الحقوقية والعقد البيئي.)وهكذا صوّر بعض من زعموا بأنهم من أصحاب الفكر (المستنير)، أضحية العيد على أنها رجعية وتخلف وجريمة بحق الحيوان، حالهم كحال المنافقين، الذين وصفهم الله في كتابه: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ». ولكن الهدف الأول لدعاة العلمانية وأرباب الغزو الثقافي في بلادنا إصابة العلوم الدينية في مقاتلها بعد إسقاطها من مكانتها التقليدية، كما قال الغزالي في كتابه «الغزو الثقافي يمتد في فراغنا»، ومع هذا فالإسلام لم يدع لهؤلاء الطاعنين مجالًا منطقيا للطعن في رعايته للحيوان، وحسن التعامل معه، باعتباره روحًا مخلوقة، فقد جعل في كل ذات كبد رطبة أجر، ونهى عن اتخاذ الحيوان غرضا للرمي، وعاتب النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا لأنه يجيع جمَلَه ويضنيه بالأعمال الشاقة، وامتدت تلك الرعاية إلى الالتزام بما يُجنِّب الحيوان التعذيب حتى لدى ذبحه، فقد جاء في الحديث «وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ». فإن اعتبر هؤلاء أن الذبح منافٍ للرحمة بالحيوان فلينادوا بمنع ذبح البقر والماشية والأغنام التي يأكلها البشر جميعًا، بل يأكلونها هُم، فما الفارق بين أن تُذبح هذه الحيوانات تعبّدًا وأن تذبح من أجل الأكل؟ ثم إن هذه الأضحية تتعلق ببعدٍ إنساني، إذ أنها تكون طعمةً للفقراء والمساكين، فتتم التوسعة عليهم في ذلك اليوم، فلا أبالغ إن قلت، إن من الناس من لا يأكل اللحم إلا من طريق إحسان المحسنين، وينتظر هذا اليوم بفارغ صبره. ومما يعجب منه المرء، أن بعض هؤلاء الناقمين على شعيرة الأضحية، والمزايدين على الإسلام في حقوق الحيوان، لم يتورعوا عن التعاون والتبرير لأنظمة مستبدة أراقت دماء الأبرياء، بل رقصوا على الأشلاء فرحًا، ولم يتحدثوا ساعتها عن الرفق بالإنسان كما يتحدثون عن الرفق بالحيوان. إنها انتقائية المشاعر الإنسانية وتطويعها للتوجّهات. كالنتوء على وجه القمر، حُفرت ذكريات الطفولة في عقولنا، لا نستعيد فقط صورتها، بل يعاودنا مذاقها، ملمسها، روائحها، فلا نملك إلا أن نبتسم.من هذه المشاهد التي تعاودنا ذكراها، مشهد ذلك الكائن الذي كنا نلاعبه ونطعمه ونهابه ونتحرش به في حذر، تربطنا به علاقة غريبة، نعم.. كنا نحب ذلك الخروف المُعدّ للذبح في عيد الأضحى، لكن هذا التعلّق لم يحجب عنا الفرحة لدى ذبحه، فقد كنا نسأل الكبار، فيروُون لنا قصة الذبح والفداء، وأنها سنة اتبعها النبي (صلى الله عليه وسلم) وماضية في أمته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وأننا سوف ننال الأجر والمثوبة من الله على فعلها، وأن هذه البهائم التي لا تعقل شيئًا خلقها الله لنا، وأننا نتعبد إلى الله بالنحر في ذلك اليوم، وبعد ذلك تطمئن قلوبنا إلى أن الموضوع بعيد كل البعد عن تعذيب الحيوانات بسفك دمائها.تعلّمنا أن من عناصر الاعتقاد في الإسلام، هو التسليم المُطلق بشعائره التعبّديّة؛ ومنها الأضحية لقوله تعالى: «قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أُمْرِتُ وأنا أول المسلمين» (الأنعام:162-163) ، وتعظيم هذه الشعيرة واجب قال تعالى: «ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّه» (الحج:30)، وقوله: «ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ» (الحج:32)، هكذا تعامل المسلمون مع هذا الإرث الديني والتاريخي، ولم يجدوا في ذلك أي غضاضة، إلى أن تجرأ أصحاب أقلام بعض بني جلدتنا، ونالوا من هذه الشعيرة. لا أدري ماذا يريد العلمانيون في أمتنا من الإسلام؟ ففي الوقت الذي يُروّجون فيه أنه ليست لديهم مشكلة مع الإسلام كشعائر تعبدية وعلاقة بين العبد وخالقه، ومنظومة أخلاقية يتعامل بها الناس، وأن ما يدعون إليه هو فصل الدين عن نظام الدولة، تجدهم يناقضون كلامهم وينالون من الشعائر التي لا تتعلق بنظام الدولة بالتهكم والسخرية والتطاول والاتهام بالرجعية والتخلف، صدق الشيخ محمد الغزالي رحمه الله بوصفه إفساد هؤلاء بقوله في كتابه «الحق المرّ»: «أكفر بالله تكن مُبدعا، حارب التعاليم والحدود الشرعية تكن مُبدعا، إجمع القمامات الفكرية من مواطن الزبالة في العالم أَجْمع واِرْمِ بها المجتمع الإسلامي تكن مُبدعا، هل عرفتم الإبداع في منطق مفسدي الأوضاع». إلا أنها حقيقة ما يدور في صدورهم كما قال يحيى بن معاذ، رحمه الله: «الْقُلُوبُ كَالْقُدُورِ فِي الصُّدُورِ تَغْلِي بِمَا فِيهَا وَمَغَارِفُهَا أَلْسِنَتُهَا، فَانْتَظِرِ الرَّجُلَ حَتَّى يَتَكَلَّمَ، فَإِنَّ لِسَانَهُ يَغْتَرِفُ لَكَ مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ بَيْنِ حُلْوٍ وَحَامِضٍ وَعَذْبٍ وَأُجَاجٍ يخْبِرُكَ عَنْ طَعْمِ قَلْبِهِ اغْتِرَافُ لِسَانِهِ»، إننا نناشد هؤلاء باحترام دينهم الذي ينتسبون إليه، كما هو مُثبت في الأوراق (الثبوتية) لدى أغلبهم، وألّا يجعلوا معاركهم في النّيْل من تشريعاته، وهذا لا شك يفتح الباب للعنف والتطرف الفكري، إذ أن أي تطرف يقابله تطرف مضاد، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.