قبيل العيد الكبير بشهر أو شهرين كانت أسواق القرى و المدن تغص بالأكباش المعدة للعيد الكبير ،عيد الأضحى، ولم تكن المسألة مسألة وفرة أو رغبة في الربح المبكر بل كان الامر يتعلق بتقليد دأب عليه الأجداد يقتضي الاستعداد المبكر للعيد الكبير بكل فرح و تقدير لسنة إبراهيم الخليل عليه السلام، فكان الكبش أو " الحولي" يظل يملأ أحاديث الناس ويشكل محورها عند الكبار و الصغار فرحا منهم بقدوم العيد و إكبارا للسنة وتقديرا لتراث الاجداد في الاحتفال بأكبر الأعياد. و ذلك حتى في أكثر فترات تاريخ المغرب تشبعا بالوعي السياسي و النضج الاجتماعي. و إلى عهد ليس بالبعيد لازلت أذكر كيف كانت الفرحة و استشعار أجواء العيد تحل قبل يوم الاضحية بشهر و أكثر، فكان الجميع يتسابقون في فرح و حبور إلى اقتناء الاضحية مدة كافية قبل العاشر من ذي الحجة، فيتسنى للأطفال إكمال الفرحة و إنشاء صداقة مع الخروف بكل براءة و حب فكنت كلما مررت من درب او زقاق إلا و أسمع مأمأة. "الحولي" فأحس بأجواء العيد الحقيقية إضافة إلى من ألتقيه وقد اقتنى الاضحية و الاطفال يجرونها معه متحلقين حول الكبش و الناس و الجيران يحيون و يباركون: "شحال المبروك" متمنين لجارهم عواشر مبروكة و أضحية مقبولة. أما في صباح العيد فإن الأطفال يلبسون الجديد متباهين بين بعضهم البعض دون أن يظل أحدهم دون لباس العيد، فلقد كانت شيم التضامن و التآزر ما تزال حية تنبض، أما الكبار فيلبسون الثياب التقليدية القشيبة قاصدين المصلى ليبدأوا شعائر العيد بذكر الله وأداء الصلاة ثم يبادر الجميع إلى تهنئة بعضهم البعض قبل أن يخرج كلا أضحيته حسب قدرته من دون حرج أو ضيق فالكل في نهاية الامر يضحي و البعض يدعو الآخر للولائم و "الشهيوات" وهذا ما يفسر التعاون الذي كان يسود في ذلك اليوم فمن لا يحسن الذبح و السلخ لا يجد حرجا في طلب المعونة من جاره، وذلك دون الاستعانة بخدمات جزار صلف لا يراعي شروط و طقوس ذبح الاضحية وفق تفاصيل الشريعة الاسلامية التي تحض على الرفق بالحيوان في ذبحه بل حتى في سلخه، وتكتمل فرحة العيد بدعوة الأقارب و الجيران "لبراريد" الشاي و الحلوى و الشواء خاصة بطل المناسبة "بولفاف". بعد ذلك تنبري النساء إلى تنظيف المكان و التنافس في إعداد أشهى الأطباق التي قد لا يحض بها المرء إلا في هذه المناسبة العزيزة و التي تظل مناسبة يشتاق إليها الجميع، لتحقق مقصدها المتمثل أولا في ذكر الله كثيرا و استحضار سنة النبي إبراهيم بكل ما فيها من معاني الامتثال لأوامر الله تعالى و كذا معاني التضحية و تقديم أغلى القرابين إرضاءا للخالق سبحانه، إضافة إلى ما فيها من توسعة على العيال و تمتيع النفوس بالحلال الطيب. و تبقى مظاهر العيد آنذاك لا تحتوي وصفها الأسفار. أما اليوم فبأي حال عدت يا عيد؟؟؟ فإلى آخر يوم قبيل العيد فإن المرء لا يكاد يلمس أو يحس "للعيد الكبير" معنى فلقد زادت أعباء الحياة و كثرت المشاغل و الفتن التي تحير الانسان و تجعله ضائعا إلى ذلك فإن تبدل نمط الحياة عموما بدءا بسيادة السكن الاقتصادي الربوي إلى اندثار بالتالي لقيم "الجورة" التي يحض عليها الدين الحنيف و العرف الشريف، مرورا إلى إقحام الديون الربوية المقيتة في صلب فلسفة الأضحية المتمثلة في تقديم الطيب الذي لا يقبل الله غيره وذلك بإشاعة القروض الربوية المغرية إلى درجة إجبار الناس عليها استغلالا لظروفهم وضحالة تدينهم، وصولا إلى بعض الممارسات و الفهوم الخاطئة للدين عند الكثيرين، ليصير العيد الكبير مجلبة للعنث و المشقة أكثر منه جالبا للفرح و التوسعة؟؟ ويضاف إلى كل ذلك شرذمة قليلون من دعاة الباطل ممن يدعون إلى ترك هذه السنة الحميدة و التي تتعدى في مقاصدها العميقة مجرد الاكل و الشرب. فيشيعون بدعوى المحافظة على البيئة من الاوساخ و توفير الاموال للفقراء إلى القطع مع سنة ابراهيم الخليل و استهجانها بل و التقزز من الممارسات التي تسودها- جهلا أو تجاهلا لعمق مقاصدها- و حتى أكون منصفا فإن العديد من الممارسات الجاهلة التي تسود هذه المناسبة تظل غير مقبولة مطلقا و تسيء لديننا الحنيف دين النظام و النظافة والسلام، كتراكم الأزبال في كل مكان بعدما أن يتسابق الناس بكل جهل في اقتناء أضاحي العيد ولو بالقرض الربوي مضيقين على أنفسهم حيث وسع عليهم الدين إضافة إلى شيوع عدد من الجرائم الغريبة التي تصاحب هذه المناسبة في بعد هائل عن روح الدين. لكن معالجة هذه الاختلالات لا يكون بأي حال من الاحوال بإلغاء السنة و نسف إحدى مقومات تراثنا الإسلامي الجميل بل بتوعية الناس ما أمكن بعمق دينهم و ببعد أي طقس من طقوسه أو عبادة من عباداته و بحظهم التأكيد عليهم في ضرورة مراعاة كل شروط النظافة العامة - و نؤكد هنا على مسئولية الدولة في ضمان النظافة العامة و تنظيم الناس بشأنها- و إذكاء الممارسات القويمة قبل و أثناء و بعد مناسبة العيد الكبير. و عموما فإن التخلف ليس مرتبطا بمظهر من المظاهر أو مناسبة من المناسبات بقدر ما هو مرتبط بالعقليات و السلوكات و كيفية فهم الامور و تقديرها. أما العيد الكبير فيظل كبيرا بقيمته الدينية و بعده التعبدي الكبير و بمنفعته الاقتصادية و الاجتماعية الجليلة، و لن ينال من أهميته و قداسته بعض الألسنة المطواعة للغرب و أذنابه، غير أننا كمسلمين حقيقيين يفترض بنا أن نفهم حقيقة هذا الدين و عمقه، كما يجدر بنا أن ننزل كل أبعاد الدين الحق بكل معانيه و قيمه مع العمل على تنقية مظاهره من الممارسات المشينة و المساهمة في المحافظة على البيئة و النظام العام في مثل هذه المناسبات العظيمة و بدل أن تكون مدعاة للضرب في مقومات الدين فلنجعلها فرصة لإظهار عظمة الدين الخاتم. باحث في التراث و التنمية