الإثنين 02 أكتوبر 2015 يروي المعلق الصهيوني البارز بن كاسبيت أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أبلغه في صيف عام 1999، أنه لا مستقبل لإسرائيل في المنطقة، في حال تحولت تركيا إلى دولة عدو لها. عندما أدلى نتنياهو بهذا الحديث كانت العلاقات بين تركيا و"إسرائيل" طبيعية، ولم تكن تواجه أياً من التحديات التي تواجهها حالياً؛ ومع ذلك، فأن كاسبيت يرى الآن إن سيناريو الرعب الذي فزع منه نتنياهو قبل 14 عاماً بدأ يتحقق رويداً رويداً. لقد انشغلت النخبة الصهيونية السياسية والأكاديمية والإعلامية مؤخراً كثيراً بالمخاطر الإستراتيجية التي باتت تواجه "إسرائيل" إثر مظاهر التدهور المتواصل في العلاقات مع تركيا. ولا خلاف بين الساسة والباحثين والمعلقين الصهاينة على أن السياسات التي ينتهجها رئيس الوزراء التركي طيب رجب أردوغان تمثل تحدياً كبيراً ومتزايداً للأمن "القومي" الإسرائيلي، على اعتبار أن هذه السياسات تؤثر سلباً على البيئة الإستراتيجية للكيان الصهيوني، وتضاعف من حجم المخاطر التي يتعرض لها. تحديات إستراتيجية على الرغم من أن تركيا وإسرائيل ليستا في حالة حرب، إلا إن هناك سلسلة من التطورات باتت تدفع دوائر صنع القرار في تل أبيب للاعتقاد أن مسار العلاقة ينجرف بشكل درامتيكي إلى تصعيد غير منضبط، على حد تعبير داني دانون، نائب وزير الحرب الصهيوني. وسنعرض هنا لعدد من التحديات الإستراتيجية التي باتت يواجهها الكيان الصهيوني جراء السياسات المتبعة من قبل أردوغان. المس بقوة الردع الإسرائيلية إن إعلان الجيش الصهيوني مؤخراً بشكل رسمي بأن كلاً من سلاحي البحرية والجو التركي تحرشا بشكل خطير بسلاحي الجو والبحرية الصهيوني خلال 2012 و2013 بشكل كاد أن يؤدي إلى كارثة كبيرة، أشعل الكثير من الأضواء الحمراء في دوائر صنع القرار في تل أبيب. وعلى الرغم من أن الجيش الصهيوني لم يقدم تفاصيل كثيرة حول طبيعة ما جرى، إلا أن وسائل الإعلام الصهيونية أشارت إلى أن طائرات تركيا اعترضت مسار الطائرات الحربية الإسرائيلية التي تتدرب فوق البحر الأبيض المتوسط، وأجبرتها على الفرار. ويشيرون في "إسرائيل" أيضاً إلى أنه في إحدى المرات كادت مروحية عسكرية صهيونية تقل جنوداً تهوي في عرض البحر، بعد اعتراضها من قبل الطيران التركي. ويؤكد إعلاميون صهاينة أن سفن البحرية التركية أطلقت النار على سفن سلاح البحرية الصهيوني، التي تحركت بالقرب من السواحل التركية، بشكل أدى إلى ابتعاد السفن الحربية الصهيونية لفترة طويلة عن المنطقة. ومما يزيد من الحرج لدى دوائر صنع القرار الصهيوني حقيقة أن حوض البحر الأبيض المتوسط، سيما تلك المنطقة التي تفصل بين تركيا واليونان وقبرص تمثل منطقة تدريب حيوية لكل من سلاحي الجو والبحرية الصهيوني. ولا خلاف بين الخبراء الإستراتيجيين والمعلقين في "إسرائيل" على أن سلوك الطيران والبحرية التركية جاء تنفيذاً لتوجيهات مباشرة من أردوغان، حيث عزا هؤلاء السياسات التركية الجديدة بشكل أساسي إلى رغبة أردوغان في المس بقوة الردع الإسرائيلي. وحسب الجنرال رون تيرا، الباحث البارز في " مركز أبحاث الأمن القومي " الإسرائيلي، فأن خطورة سلوك أردوغان تتمثل في أنه يهدف للإثبات لدول المنطقة أنه بالإمكان التحرش بإسرائيل وإذلالها والتعدي عليها، دون أن يرتبط الأمر بدفع ثمن كبير. ضرب المنظومة الاستخبارية إن أحد الأسباب التي تدعو الصهاينة للحنق الشديد على أردوغان هو ما كشفته صحيفة "واشنطن بوست" مؤخراً من أن المخابرات التركية قامت بتسريب قائمة بأسماء لإيرانيين يعملون كمخبرين لدى جهاز "الموساد" للسلطات الأمنية الإيرانية؛ وهو ما أدى إلى اكتشاف أمرهم وإصدار أوامر إعدام بحقهم. وقد عد هذا الأمر في إسرائيل بأنه ضربة قوية للمنظومة الاستخبارية الإسرائيلية، وقلص من قدرة الصهاينة على متابعة تطورات البرنامج النووي الإيراني. وقد تمكنت المخابرات التركية من الكشف عن هوية العملاء الإيرانيين، لأن اتفاق تم التوصل إليه بين الموساد والمخابرات التركية في ستينيات القرن الماضي سمح بأن ينظم الموساد لقاءات مع عملائه على الأراضي التركية. يعي المسؤولون الصهاينة إن شراكة امتدت حوالي 50 عاماً بين الموساد والمخابرات التركية أتاحت للأتراك معرفة الكثير من الأسرار المهمة والحساسة عن الأجهزة الاستخبارية الصهيونية، والتي سيؤدي تسريبها إلى المس بالمصالح الإسرائيلية بشكل كبير وجدي. فعلى سبيل المثال، لم يعد يستبعد الصهاينة أن تكون تركيا تحديداً هي التي ساعدت لبنان في الكشف عن عدد كبير من عملاء الموساد خلال الفترة الواقعة بين عامي 2009 و20012، وأن دور حزب الله في الكشف عن هؤلاء العملاء كان ثانوياً جداً. أن سيناريو الرعب الذي تخشاه "إسرائيل" هو أن يكشف الأتراك عن هوية عملاء الموساد من العرب الذين كانوا يلتقون بضباط الموساد على الأراضي التركية. تقليص قدرة "إسرائيل" على ضرب المقاومة الفلسطينية لقد بات في حكم المؤكد أن "إسرائيل" تأخذ بعين الاعتبار الموقف التركي قبل التفكير في خوض مواجهة ضد المقاومة الفلسطينية. ويدركون في تل أبيب أن أردوغان لا يكتفي بدفع ضريبة كلامية فقط في انتقاده السلوك الصهيوني تجاه المقاومة الفلسطينيين وما يتعرض له المدنيون الفلسطينيون في قطاع غزة تحديداً، بل لديه الاستعداد لقطع شوطاً طويلاً في معاقبته "إسرائيل" بسبب اعتداءاتها على الشعب الفلسطيني. ويرى عاموس يادلين، الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية الصهيونية أن السقف العالي للاعتراض التركي على الإجراءات الإسرائيلية العسكرية ضد قطاع غزة يمس بالبيئة الإستراتيجية للكيان الصهيوني على اعتبار أن الموقف التركي يحرج دول محور الاعتدال العربي ويدفعها لاتخاذ مواقف سياسية سلبية لإسرائيل، بعكس ما ترغب، ويقلص من استعدادها للتعاون مع تل أبيب في مواجهة تحديات مشتركة. ويرون في "إسرائيل" إن السلوك التركي يعزز معنويات المقاومة الفلسطينية ويدفع قيادتها للاعتقاد بأن هناك من يمكن الرهان عليه، وهو ما يمثل معضلة كبيرة للأمن الصهيوني، كما يرى الجنرال والباحث الصهيوني جابي سيبوني. إضعاف المكانة الدولية "لإسرائيل" ويعدد الساسة والباحثون الصهاينة عشرات الدلائل على دور أردوغان في بالمس بمكانة "إسرائيل" الدولية من خلال انتقاده المتواصل للسياسة الصهيونية. وكما يقول الوزير الصهيوني السابق يوسي بيلين، فإن أردوغان يوظف قوة تركيا الناعمة وحاجة الكثير من الدول للتعاون معها والاستفادة من إمكانياتها في التحريض على "إسرائيل"، ودفعها نحو انتقاد السياسة الإسرائيلية. وفي الوقت ذاته، لا يستهين الصهاينة بالدور الدعائي المباشر الذي يقوم به أردوغان شخصياً في المس بمكانة "إسرائيل" الدولية من خلال خطاباته وظهوره الإعلامي، كما حدث بعيد الحرب الصهيونية على قطاع غزة مطلع عام 2009، عندما ترك غاضباً ملتقى دافوس الاقتصادي احتجاجاً على دفاع الرئيس الصهيوني شمعون بيريس عن الحرب، في حين ظل أمين عام الجامعة العربية في ذلك الوقت عمرو موسى، الذي تواجد في الملتقى صامتاً. المس بالمصالح الأمريكية على الرغم من أن التحالف بين "إسرائيل" والولاياتالمتحدة وثيق إلى حد كبير، وتتضافر العديد من العوامل التي تعززه، إلا إن تدهور العلاقة التركية الصهيونية قد أضر بشكل واضح بالمصالح الأمريكية في المنطقة. فقد تبنى الرئيس الأمريكي باراك أوباما في ولايته الرئاسية الثانية إستراتيجية "القيادة من الخلف"، التي تقوم على توظيف حلفاء الولاياتالمتحدة في المنطقة في تحقيق الأهداف والمصالح الأمريكية نيابة عن الولاياتالمتحدة. ولما كانت تركيا و"إسرائيل" الحليفتين الأبرز للولايات المتحدة في المنطقة، فإن تطبيق إستراتيجية "القيادة من الخلف" غير ممكن، في الوقت الذي يسود فيه التوتر بين تركيا و"إسرائيل". من هنا، فإن الولاياتالمتحدة ترى في تدهور العلاقات التركية الإسرائيلية مساً بمصالحها في المنطقة، وهذا ما دفع أوباما ووزير خارجيته كيري إلى بذل جهود كبيرة من أجل إصلاح العلاقة مع تركيا، سيما خلال زيارته الأخيرة لإسرائيل وإجباره رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو على الاتصال بأردوغان وتقديم اعتذار له، والاتفاق على آلية لتقديم التعويضات لعوائل الشهداء من الأتراك الذين قضوا خلال مداهمة الجيش الإسرائيلي لأسطول الحرية في 31-5-2010. حرمان "إسرائيل" من الاستفادة من خدمات الناتو دأبت "إسرائيل" منذ عقدين على الاستفادة من الخدمات الأمنية والاستخبارية واللوجستية العسكرية التي يوفرها حلف الناتو، حيث كان يتم دمج الجيش الإسرائيلي في التدريبات والمناورات الحربية التي تجريها جيوش الدول الأعضاء في الحلف. ولا تستطيع "إسرائيل" الاستفادة من هذه المزايا الآن؛ لأن الأتراك يرفضون ببساطة المشاركة في أية مناورة عسكرية يجريها الحلف ويشارك فيها الجيش الإسرائيلي. ونظراً لأن تركيا حلف في "الناتو"، فأنه يتم بشكل تلقائي عدم دعوة إسرائيل للمشاركة في التدريبات والمناورات في حال رفضت تركيا. بؤس الرهان على دول البلقان لقد اعتقد نتنياهو في البداية، أن الخطوة التي يتوجب عليه القيام بها بعد تدهور العلاقة مع تركيا هي التوجه لتوثيق العلاقات مع خصومها من دول البلقان، سيما اليونان. وبالفعل، فقد توثقت العلاقات بين تل أبيب وهذه الدول، حيث عقدت "إسرائيل" سلسلة من الاتفاقات الأمنية والعسكرية والاقتصادية. وتمكن الجيش الإسرائيلي من عقد اتفاقات تسمح لسلاح جوه من التدرب في أجواء، هذه الدول. لكن بعد ثلاث سنين من هذا التعاون، تبين للإسرائيليين أن العلاقة مع دول البلقان لا تعوض بالمطلق الخسائر التي تكبدتها "إسرائيل" جراء فقدانها مزايا التحالف مع تركيا. ونظراً للأزمة الاقتصادية التي تسود في هذه الدول، فأنها أصبحت تحاول الاستفادة اقتصادياً من العلاقة مع تل أبيب بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي يعاني فيه الكيان الصهيوني من أزمة اقتصادية. اليأس من أردوغان وعلى الرغم من كل ما تقدم، فأن هناك حالة من اليأس تسود دوائر صنع القرار في تل أبيب من إمكانية إصلاح العلاقة مع تركيا في عهد أردوغان. وهذا ما عبر عنه أفيغدور ليبرمان رئيس لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست الإسرائيلي الذي وصف أردوغان، ب"الإسلامي المتطرف، الذي كل همه إذلال إسرائيل". واعتبر ليبرمان أن إقدام إسرائيل على الاعتذار لتركيا على مقتل النشطاء الأتراك خلال أحداث أسطول الحرية "خطأ" أضر بمصالح إسرائيل الإستراتيجية. ومن الأهمية بمكان التعرف على سبب اعتراض ليبرمان على الاعتذار لتركيا، حيث يقول إن الاعتذار: "مثل انتصاراً للمتطرفين في تركيا وأضر بالنخب العلمانية التي أرست معنا دعائم تحالف إستراتيجي لعقود ". ليس هذا فحسب، بل أن ليبرمان يرى أن الاعتذار الإسرائيلي عزز من دافعية من أسماها ب"القوى المتطرفة" في العالم العربي لمواصلة التحرش "بإسرائيل" واستفزازها. ويحذر ليبرمان من أن ما يدفع أردوغان للتحرش "بإسرائيل" ومحاولة إذلاها هو عقيدته الدينية المتزمتة، مستذكراً اتهام أردوغان "لإسرائيل" بالوقوف خلف الانقلاب في مصر. قصارى القول إن محاولات "إسرائيل" شيطنة أردوغان لا ترجع بالضرورة لمجرد توجيهه انتقادات ضد سلوك "إسرائيل" تجاه الفلسطينيين، بل لأنه تجرأ على جعل الموقف من سلوك "إسرائيل" كدولة احتلال ضمن مجموعة المحددات التي تحكم موقفه من "إسرائيل"، وهو ما دفعه لعدم التورع عن المس بالبيئة الإستراتيجية للكيان الصهيوني بشكل غير مسبوق.