هوية بريس – الأحد 30 غشت 2015 من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه إن غياب المعيارية الشرعية في واقع الناس بفعل غياب نظام الحكم الإسلامي بل بفعل إقصائه وعدم تفعيله سياسيا في واقع حياة المسلمين، وليس بفعل سوء تنزيله كما زعم بعض إخواننا، لأن الحديث عن سوء التنزيل هو حديث عن نظام حكم قائم، فسوء التنزيل هو فرع قيام ووجود، ولا وجود لنظام حكم إسلامي في واقع حياة مجتمعنا وبلدنا. وانعدام وجود حكم نظام إسلامي هو الذي دفع أغلب الناس إلى أن يتخيروا بين أنظمة وضعية بحسب أقلها محنة، بل هذا ما دفع الكثيرين إلى اختيار النظام الديمقراطي بدلا عن النظام الاستبدادي الديكتاتوري. وذلك بعد دفعهم واستدراجهم إلى اعتقاد انعدام البديل عن الديمقراطية، عن طريق الإغراء بلعبة الحل الديمقراطي والتضييق على نشاط الدعاة وعرقلة مسارهم الدعوي، طمعا في إقناعهم على أن الديمقراطية هي المتنفس الوحيد الذي يستطيعون من خلال وسائله الاستفادة من مزاياه. وقد نجحوا في إقناع بعضهم حتى منهم من ظن ألا مناص من التسليم بالديمقراطية والإذعان لها على أنها واقع محتوم وقدر مقدور وقضاء نافذ ليس له دافع. مع العلم لو أنهم أمعنوا النظر لو جدوا أن إنكارهم واستبعادهم وجود بديل، لمجرد عدم علمهم بوجوده هو أمر يحتاج إلى يقين، حيث لا يكون عدم علمهم بوجود البديل دليلا على عدم وجوده، بل هو دليل على عجزهم على إدراك وجوده، وفي هذا قيل " عدم العلم بالشيء ليس دليلا على عدم وجوده ". وأن عدم إدراك المجهول لا ينفي الوجود. ففيم إذن هذا الجزم بنفي وجود البديل وانعدامه؟ من تأمل جيدا وجد أن قول هؤلاء بانعدام البديل، في ظل انتفاش شر الديمقراطية واتساع رقعتها مع ضعف المُعِين؛ شبهة وقرت في نفوس القائلين بها واستحكمت منهم، لا لعدم علمهم بوجود البديل، وإنما مصدرها عدم الثقة بنجاعة البديل مع تشككهم في جدواه ويأسهم من قدرته على التغيير. إنهم صاروا يتصورون أن الواقع الديمقراطي لا فكاك منه، وما على المسلم إلا أن يخضع له ويطأطئ ! وهذا استسلام منهم بالغ الضرر والخطورة. لا يقع إلا ممن يعلق النتائج بالأسباب، نعم سنة الله تجري بترتيب النتائج على الأسباب. لكن الأسباب في عقيدة المسلم ليست هي التي تنشئ النتائج. النتائج في عقيدة المسلم متعلقة بمشيئة الله وقدره. هو وحده الذي يأذن لها بالوجود حين يشاء. وما على الموحد إلا أن يؤدي واجبه، وأن يبذل جهده، وبقدر ما يوفي ويسدد يرتب الله النتائج ويحققها كما يشاء. من هنا صار لزاما أن نتساءل عن ما هي وظيفة المسلم في حال عدم القدرة على تطبيق الإسلام؟ وما هو المطلوب منه فعله في هذا الحال؟ وإذا كانت العلمانية الديمقراطية أمرا واقعا وهي ليست النظام الإسلامي، فما هي وظيفة المسلم عندما يكون غير الإسلام أمرا واقعا؟ هل وظيفته هي أن يدعو الناس إلى الإسلام؟ أم وظيفته هي أن يتعايش مع غير الإسلام في إطار أخف الضررين وأقل المفسدتين؟ ألم يكن أنبياء الله في زمانهم مصلحون؟؟؟ ألم تكن وظيفة الأنبياء عليهم السلام هي الإصلاح، وقد كانت لأقوامهم أنظمتهم الوضعية تقوم على مبدأ رفض الاهتداء بشريعة الله؟ فهل هؤلاء الأنبياء عليهم السلام انخرطوا وانغمسوا وشاركوا أهل جاهليتهم في جاهليتهم، بدعوى أخف الضررين وأقل المفسدتين وانعدام البديل ؟؟؟ أم أنهم رفضوا الباطل وصدعوا بالحق وواجهوا أقوامهم بأن لا تكون دينونتهم لغير الله، وأن لا يكون تشريعهم قائم على غير مبدأ إن الحكم إلا لله؟ وإلا ففيم وقفوا عليهم السلام في وجه أبطش أهل الأرض في زمانهم؟ وقف هود عليه السلام في وجه عاد. ووقف صالح عليه السلام في وجه ثمود. ووقف موسى عليه السلام والسحرة في وجه فرعون. ووقف إبراهيم عليه السلام في وجه النمرود وقومه. ووقف محمد عليه السلام في وجه قريش وفارس والروم واليهود والنصارى والمشركين والمجوس والناس أجمعين. أو ليس الصحيح هو أن وظيفة المسلم في هذا الوضع، وفي كل وضع نظامه غير إسلامي، هي وظيفة لا تتجاوز حدود وظيفة الأنبياء والمصلحين؟ وهذه الوظيفة تتمثل في العمل من أجل إنشاء حياة إسلامية توافق الإسلام وتمثله. وظيفة المسلم هي نقل الناس من كل نظام فيه السيادة لغير الله، إلى الإسلام الذي ليس فيه إلا سيادة الواحد القهار. وهذا أمر يستوجب منه الدعوة إلى الإسلام بكل وضوح وبيان، مع التحرك بتسفيه النظام القائم في زمانه بالحجة البالغة مع إعلان البراءة والمفاصلة، على مثال من هم أسوة له من رسل الله (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)1. هذا ما استوجبته الدعوة إلى التوحيد في زمن الأنبياء من التحرك في وجه جاهلية أقوامهم؛ كتلك الجاهلية التي تمثلت في إرادة حكامهم دون اعتبار شرع وهي التي يصطلح عليها في زماننا باسم الديكتاتورية، وذلك كديكتاتورية النمرود وديكتاتورية فرعون، أو كتلك الجاهلية التي تمثلت في إرادة شعوبهم دون اعتبار دين، وهي التي يسميها أصحابها اليوم ديمقراطية، وذلك كجاهلية قوم نوح وجاهلية قوم لوط وجاهلية قوم هود وجاهلية قوم صالح وجاهلية أهل مدين. وهذا هو نفسه الذي تستوجبه الدعوة إلى التوحيد في كل عصر من التحرك في وجه كل جاهلية تقوم على مبدأ رفض الاهتداء بشريعة الله،… إنها سنة ماضية نحن مأمورون باتباع أنبياء الله فيها، واتباعنا لهم يتمثل في أن يقف العلماء وقفتهم ويبرأون براءتهم ويقولون قولهم؛ إنا برآء منكم ومما تتخذونه تشريعا من دون الإسلام كفرنا بِديمقراطيتكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بِالإسلام كله. بهذا يحقق العلماء اتباعهم للأنبياء عليهم السلام، وبهذا يكونون قد عملوا بسنتهم. هذه هي وظيفة المسلم في مثل هذا الوضع وفي مثل كل وضع السيادة فيه لغير الله، وليست وظيفته الانخراط والانغماس ومشاركة أهل كل جاهلية في جاهليتهم، بدعوى أخف الضررين وأقل المفسدتين. إنها قضية إما إقرار بسيادة الله على البشر، وإما إقرار بسيادة غيره. سواء كانت في صورة أنظمة ديكتاتورية حيث السيادة فيها للحاكم، أو كانت أنظمة ديمقراطية حيث السيادة فيها للشعب، أو كانت أنظمة ثيوقراطية حيث السيادة فيها للأحبار والرهبان ورجال الدين، فكلها سيادة لغير الله. هما أمران لا ثالث لهما إما سيادة الله وإما سيادة البشر، إما شريعة الله وإما شريعة البشر، إما الإسلام وإما الجاهلية. وواجبنا في مثل هذا الوضع هو واجبنا في كل وضع السيادة تكون فيه لغير الله؛ وهو العمل في إطار أحكام الإسلام عن طريق الدعوة إلى الإسلام لإقامة نظام الإسلام، وليس لنا غاية إلا هذه الغاية! ونحن ندرك أنه لن يرضي الديمقراطيين في زماننا إلا أن نتبع ديمقراطيتهم ونعود في ملتهم. كما لم يرض أسلافهم إلا بالعمل على إلزام أنبياء زمانهم بقبول الاندماج في نظامهم العام، بقولهم في ما حكاه الله عنهم: (لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا)2. فهؤلاء في زماننا هم كذلك يقولونها لنا صراحة: (لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ديمقراطيتنا)؛ فانقلاب الجيش الجزائري على الجبهة بعد فوزها بالأغلبية الساحقة في الانتخابات الجزائرية، وانقلاب الفتحاويين على حماس عند فوزها هي كذلك في فلسطين، وكذا انقلاب السيسي على الإخوان في مصر كلها وقائع تؤكد هذه الحقيقة. بل هناك حقيقة إضافية، وهي أن أسرع طريق للزج بالإسلاميين وإقحامهم في مواجهة مسلحة هي حصولهم على أغلبية ساحقة تمنع خصومهم العلمانيين ولا تخول لهم المشاركة في تشكيل الحكومة. وما عساي إلا أن أقول كما قال العبد الصالح (فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله)3. بالله عليكم إذا كان الأمر بهذا الشكل وعلى هذا النحو كما تقولون أنه مرتبط عند انعدام البديل باختيار الأهون مما يفرضه الواقع كبديل سياسي!!! ففيم واجه الأنبياء أممهم إذن ؟ ولماذا اعتزل إبراهيم عليه السلام قومه؟ وفيم ترك أصحاب الكهف أرضهم وديارهم؟ ولماذا حوصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم؟ وفيم عذبوا وأوذوا وقُتِّلوا وهُجِّروا؟؟ إن نقطة الخلاف بيننا ليست حول العمل السياسي بذاته، وإنما هي حول نوع العمل السياسي في مجتمع نظامه السياسي لا يقوم على قاعدة حكم الشرع، وإنما على قاعدة حكم الشعب. فإنه عندما تكون المرجعية في المجتمع لغير الإسلام والسيادة فيه لغير الشرع، لا ينبغي أن ينفق جهد المصلحين الموحدين في قضايا جزئية أو أمور فرعية قبل تقرير ألوهية الله وحده سبحانه في الخلق والأمر؛ لأن الأمر، والحالة هاته، يتعلق بالمبادئ الكلية والقواعد العامة، يتعلق الأمر هنا بالمرجعية التي تنتج عنها الجزئيات، وتسن عنها القوانين. ولهذا، فإنه إذا كان النظام يقوم على أساس عدم الاستمداد من شريعة الله، كان لزاما على العلماء المصلحين الموحدين العمل أولاً على تكريس مبدأ الألوهية، وليس على إصلاح قضايا وتفريعات جزئية، فإن هذا يأتي تبعا. ولقد قيل: إصلاح الفرع مع فساد الأصل حماقة وجنون. والديمقراطيون إن كنا نحب لهم الخير، فهم في أمس الحاجة أن نكون صرحاء معهم، وأن نبين لهم أن الإسلام ليس هو الديمقراطية، وأنه خير منها، وأنه غير قابل للامتزاج بها. إنهم في أمس الحاجة أن يعرفوا رأينا بصراحة في ديمقراطيتهم؛ فإن الإسلام من عند الله، أما ديمقراطيتهم فهي من صنع البشر. فهم في حاجة أن نردهم إلى الإسلام. ونحن لسنا في حاجة أن نرد إلى ديمقراطيتهم، كما أنه ليس في الحقيقة ما يطلق عليه «الإسلام الديمقراطي»، لأنه ليس تمت وسط بين الإسلام والديمقراطية، فالقضية إما حكم الله وشريعته وهذا هو الإسلام، وإما حكم الشعب وأهواؤه وهذه هي الديمقراطية. هذه هي الحقيقة. أما التهرب من مواجهة الديمقراطيين ومصارحتهم بالكلمة الحاسمة مع الانخراط معهم في شراك ديمقراطيتهم فهذا ليس من المدافعة في شيء ولكنه العجز الذي دفع بعض الغيورين باستبدال الذي هو أدنى من مسيرات ومظاهرات ووقفات واعتصامات وصياحات الرعاع وهتافات العامة بالذي هو خير؛ والذي هو صدع أهل العلم والفضل بالحق. نعم هذا هو البديل الذي تفتقده الأمة في زمننا الحالي وبفقدانه تجرأ العوام والرعاع والغوغاء من بعض البرلمانيين وبعض الصحفيين والمفكرين على التدخل في المصالح العامة، نعم إنها الشعيرة المفروضة والحلقة المفقودة التي هي فريضة الصدع بالحق. وإن الأمة في زماننا لهي أحوج ما تكون إلى عالم لا يخشى أحدا من الناس، ولا يسكت عن حق وجب نشره، ولا يبالي بسطوة دولة ولا بهوى عامة، يدعو إلى إقامة شريعة الله وإلى تحكيم شرع الله. كما كانت سيرة أنبيائنا مع أممهم، وسيرة من ورث عنهم من علمائنا مع أقوامهم، حكاما كانوا أو محكومين؛ أمثال الإمام مالك، والإمام أبي حنيفة، والإمام الشافعي، والإمام أحمد، والإمام العز بن عبد السلام، والإمام البخاري،… وغيرهم كثير من الذين أكدوا أن لسان العالم الصادق ليعمل ما لا يعمله صراخ آلاف الحناجر وعويلها. وإلا فهل يعقل أن تكون الوسيلة والطريق الموصل إلى إقامة شرع الله هي العمل بغير شرع الله، ما لكم كيف تحكمون ؟ ولكنكم قوم تستعجلون. سورة الممتحنة الآية 4. سورة إبراهيم الآية 3. سورة غافر الآية 44. [email protected]