حضرت مرة قصة وقعت بأحد المساجد بالبادية، حيث كان لديهم (فقيه) يعمل إماما وخطيبا في نفس الوقت، وبعد مدة دامت سنوات فتح الله له باب الذهاب إلى أوروبا؛ فاحتاجوا إلى فقيه آخر يخلفه، وكان ذلك المسجد يقع في (دوار) فيه نزاع كبير بين فريقين يتزعم كل منهما مرشح للانتخابات، فكان إذا أحضر أحد الفريقين فقيها لأجل الشرط في المسجد، يقوم الفريق الثاني بطرده، حتى جاوز عدد الأئمة الذين طردوا ستة في ظرف شهرين، ولما بلغ الأمر لمندوبية الأوقاف بتلك المنطقة طلبوا من القائد أن يتدخل لحل النزاع بين الطرفين، فأرسل لي يطلب مني أن أصلي بهم الجمعة ملتمسا أن يكون موضوع الخطبة في الصلح، وحضر معي هو وموظف من المندوبية، وافتتحت الخطبة الأولى بقول الله تعالى من سورة البقرة {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه} الآية، وبينت أهمية المسجد وجزاء من كان قلبه معلقا به بالصلاة والقيام على شؤونه والإنفاق عليه، وحذرت من جرم السعي في خراب المسجد، ومن ذلك طرد إمامه وترهيبه بدون حق، ثم خصصت الخطبة الثانية لكلمة مختصرة عن الصلح بين المتخاصمين وعدم إقحام المسجد في صراع داخل القبيلة. ولما أنهينا الصلاة جاءني أحد أعيان ذلك الدوار، واستدعاني لبيته وقال لي: هل يغفر الله لي! قلت له: وماذا فعلت؟ قال لي: أنا كنت أهدد كل فقيه يأتي به خصمي في الانتخابات، فكنت أرسل في منتصف الليل من يخيفه ويهدده -وكان يبيت في المسجد- فلا يبزغ الفجر إلا والفقيه قد غادر القبيلة، قال: وكذلك كان يفعل خصمي إذا جئت أنا به. هذا حال الفقيه في بلادنا، يترك أهله وأبناءه ويبيت في بيت صغير ملتصق بالمسجد ليؤدي وظيفته، فيتعرض لأنواع من الظلم والتحكم من طرف بعض الجاهلين بتلك الجماعة -ولا تخلو جماعة من جهلة ومتطاولين-، حتى أنني أعرف بعض الأئمة قد يضطر للتنقل في السنة الواحدة بين مسجدين أو ثلاثة بسبب ظلم الملأ في تلك القرى التي يرتادها. فمتى نعيد للإمام مكانته التي يستحقها في المجتمع، ومتى نضمن له راتبا محترما يقيه تحكم الملأ الغاشم، ومتى نفقه أن الإمام يجب أن يكرم لمكانة كلام الله الذي يحمله في صدره بالسند المتصل إلى مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم!