– د. رشيد الحمداوي (أستاذ باحث بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين) الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد، فإن الكثير يعجبون حين يتسامعون بأخبار بعض الجرائم البشعة التي يرتكبها بعض الناس، وكثيرا ما يعبرون عنها بأنها جرائم "وحشية"، نسبة إلى الوحش، ويصفون أولئك المجرمين بأنهم: وحوش آدمية، أو ذئاب بشرية… ولا شك أن هؤلاء المجرمين من البشر، بل هم في هذا العصر – الذي بلغت فيه الحضارة المادية أوْجَها – من أرقى البشر في الظاهر، وإذا كانت صفة "الوحشية" تلصق بأولئك البدائيين الذين لم يتلبسوا بأي مظهر من مظاهر الحضارة، فإن هذه الصفة قد تجدها في بعض مجرمي هذا العصر في أسوأ صورها، وقد تجد الواحد من هؤلاء متأنقا في ملبسه، عطِر الريح، حسن الهيئة، وسيم الشكل، لبِقًا في الحديث، وربما تبدو عليه ملامح الطيبة، ولكنك تفاجأ حين ينكشف جرمه الشنيع، أنه فعل فعلا أسوأ مما تفعله السباع والذئاب. ولا ينحصر ذلك في الأفراد، بل إن بعض الدول ممن بلغت قمة التقدم الحضاري، وتتبجح باحترام حقوق الإنسان، وتتغنى بشعارات الحرية والعدالة، ترتكب في حق غيرها من الشعوب جرائم أقل ما يمكن أن يقال فيها: إنها وحشية. والحق أن العبرة ليست بالمظاهر ولا بالأقوال، ولا يلزم أن يكون الذي يرتكب تلك الجرائم الفظيعة رثّ الهيئة، قاسي الملامح، يتطاير الشرر من عينيه، ويتناثر الريق من شفتيه، يتأبّط السكين، أويتقلّد السيف. بل قد يكون في الظاهر على أحسن ما يكون المرء، حُسْنًا في المظهر، وحلاوةً في الكلام، ولكن التوحش كامن في باطنه. ذلك أن من خصائص الإنسان أن فيه قابلية للارتقاء إلى أعلى درجات الإنسانية، كما أنه يمكن أن ينحطّ إلى أدنى دركات الحيوانية، فالإنسان فيه غرائز أودعها الله فيه ليستبقي حياته على هذه الأرض، وأنزل دينا يبين له حدودها،ومنحه سبحانه عقلا وإرادةً ليتحكم فيها، فكلما ضبط الإنسانغرائزه ارتقى في درجات الإنسانية. أما إن تفلتت غرائزه حتى استولت عليه وصارت هي المتحكمة فيه، ولم يحكِّم العقل في تصرفاته، فحينها ينحط إلى مرتبة البهائم، فيشابهها في صفاتها وأفعالها، بل يكون أسوأ منها؛ لأن الحيوانات الأخرى تستجيبلغرائزها حسب ما فطرها الله عليه، ولا تستحضر دينا ولا قانونا لأنها بهائم غير مكلفة، أما (الحيوان الناطق) فهو يتناسى القانون ويخالف الدين ويخرق الأعراف والعادات حين يلبي غريزته كيفما اتفق. والبهائم أفضل حالا لأنها تقتلحين تقتل سدّا لجوْعتها واستبقاءً لحياتها، وتتزاوجحين تتزواج طلبا للتكاثرواستدامةًلنسلها…الخ. أما الإنسان فهو يقتل لغير منفعة، ويجامع لمجرد اللذة…الخ ولذلك شبه الله تعالى الكفار بالأنعام لمشابهتهم إياهم في عدم الانتفاع بالحواس التي أعطاهم الله إياها، وفي صرفهم جهدَهم في نيل الملذات وإشباع الشهوات دون قيد أو حد، وأخبر تعالى أنهم أضل من الأنعام، فقال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]، وقال: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]، وقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ } [محمد: 12]. ولا يوجد أحسن ولا أقوى في ضبط الغرائز من الإيمان، فالله خالق البشر، وهو أعلم بخلقتهم وطبيعتهم، وقد أنزل ما يصلح به شؤونهم في الدنيا والآخرة،وجعل لهم في الدين الدواءَ الذي يتداوونبه من سيطرة الغرائز وجموح الشهوات. وحين يغيب الإيمانبالغيب فإن الإنسان في أحسن أحواله يوجه غرائزه بما يحقق مصالحه الدنيوية، ويكبحها عندما تؤدي به إلى العقوبات الدنيوية والعواقب المؤلمة. ولذلك قد نجد في عصرنا هذا شخصا متحليا برونق الحضارة المعاصرة، ولكنه حين يغيض الإيمان في قلبه وتغيب مراقبة الله عن نفسه يختفي وراء إهابه وحشٌ حَذِر، يتربصوينتظر الفرصة السانحة لينقضَّ على فريسته ويلبيَ داعي غريزته، وربما يكون هذا الوحش القابع في حنايا نفسه نائما أحيانًا، ولكنه يستيقظ عند وجود صيد ثمين يُسيل لُعابه ويجتذبه اجتذابا، وفي غياب مراقبة الله تعالى وزوال وازع الدين من قلبه، يتوجه إلى اقتناص ذلك الصيد السهل متى سنحت له الفرصةُ وغابت أعينُ الرقباء. وفي الحقيقة: ما من واحد منا إلا وفيه وحش صغير، وهو وحش الغرائز والشهوات، هذا الوحش يكون مع الإنسان منذ طفولته، فإذا وجد ما يغذيه وينميه فإنه يقوى ويتضخم حتى يصير ماردًا قويا، يتحكم بصاحبه، يقذف به لنيل الملذات، ويسول له قضاء الشهوات بأي وسيلة ومن أي طريق، سواء كان شرعيا أم غير شرعي، مقبولا أم غير مقبول، ولكن ما يحيط بالإنسان من قوانين وأعراف وشرائع يحول دون انطلاقه التام في ذلك، ويصطدم بحواجز وعوائق تحول دون ما يريد. فيبدأ الوحش في خبث ودهاء ليوصل صاحبه إلى ما يريد من طرق ملتوية ومسالك متعرجة، تحتال على القانون أحيانا، وتستغل غفلة القائمين على تطبيقه أحيانا، وتحاول تسويغ ذلك وجعله مشروعا في أحيان أخرى. وربما يصاب وحش الغرائز بالهوَس في لحظة من اللحظات، ويجمح جموحا شديدا، فيحاول إطفاء نار الغريزة الملتهبة بشكل عاجل، فيمزق الأثواب التي كان يتخفى فيها، ويفعل ما يحلو له، وحينما يفيق من السكرة، يتذكر عوائق القوانين والأعراف والأحكام الشرعية، فيحاول إخفاء ما وقع فيه بجريمة أخرى، وبذلك تتعدد الجرائم وتسوء… أما لو أن الإنسان روض هذا الوحش الذي يقبع في داخله، وعوده منذ الصغر على الوقوف عند الحدود، وبدأ في ردعه كلما أراد الجموح وكسر القيود، فحينها يكون الإنسان هو المتحكمَ في غرائزه، الضابطَ لشهواته…وقد يحصل أحيانا أن وحش الغرائز قد يتفلت من القيود ليدفع بصاحبه إلى خطأ أو زلة، ولكن سرعان ما يعيده صاحبه إلى وضعه الأول ما دام ذا عقل رشيد ونفسٍ لوّامة. ومن هنا تتبين لنا أهمية التربية، لا سيما التربية الإيمانية، ذلك أن التحكم في الغرائز لا يكون إلا بها…فالطفل لو خليت بينه وبين نفسه لبدأت الغرائز تستبد به، إلى أن تستولي عليه وتقوده حيث تجد إشباعها… ولكن المربين – وعلى رأسهم الوالدان – يساعدان الطفل على البقاء على فطرته، وضبط شهواته والتحكم في غرائزه،وإشباعها بالشكل السليم المأمون الذي شرعه الله تعالى لخلقه. وللأسف أنه كثرتفي عصرنا الوسائل والأدوات التي يتم بها تهييج الغرائز وتقويتها، حتى إن هذه الوسائل توقظ الغرائز والإنسان في قعر بيته، فمشاهد العنف وأفلام الإثارةوالحركة (الأكشن) وصور العري ومظاهر الرفاه والبذخ…كلها تتخذ من إثارة الغرائز تجارة رابحة تستدر بها الأموال، وصار الإنسان أينما كان يتعرض لقصفٍ متواصل من تهييج الغرائز بشكليدفع بصاحبها إلى التعجيلبإشباعها، وإذا لم يكن الإنسان له مناعة تربوية قوية تجعله يصمد في وجه تلك الإثارة المستمرة، فسينساق إلى ألوان من المحرمات والمخالفات. والذي أريد التأكيد عليه في الختام: إننا إذا لم نزرع في النفوس مخافةَ الله ومراقبتَه فستقوى وحوش الغرائز في داخل الكثير من الناس، وسيستحيل المجتمع غابةً لا يأمن فيها الواحد منا على نفسهوماله وعرضهوممتلكاته، يتجول فيها وحوش يأكلون الطعام ويمشون في الأسواقويفعلون ما يفعله سائر الناس، ولكن قد ينقضون عليك متى واتتهم الظروف وتهيأت لهم الأسباب، ولن توقفهم القوانين أو ترهبهم العقوبات. وإذا أردنا ان نتوقّى هذا المصير المفزع فلا لا محيص لنا عن تزكية الأنفس والاهتمام بالتربية عموما، والتربية الإيمانية خصوصا، وبالله التوفيق.