الناظر في حياة المسلمين اليوم، يجدها قد ملئت بالجوانب المادية وانتشرت فيها عقلية الاستهلاك بشكل مخيف، فالكل يجري وراء سراب الدنيا ومتعها وشهواتها، الكل مفتون بتنمية رصيده المادي وتأمين مستقبله القريب والبعيد، رغم التعب والإرهاق هناك لهث ولهث بدعوى أن الواقع لا يرحم، المعاملات بين الناس فقدت الكثير من جوانب التراحم والتعاون لأنها أيضا أصبحت تقاس بما تجنيه من نفع وربح، قد يُتفهم هذا من بعض الناس الذين لم يسبق لهم أن تذوقوا حلاوة الإيمان ومذاقه العذب، لكن أن يطال هذا كثير من الصالحين والمصلحين فهذا الذي لا يقبله عقل ولا يرتاح له بال، فما هي أسباب ذلك يا ترى؟ هل نجحت هجمة الغرب الشرسة في تطويع عقول المسلمين لتصبح منمطة تهتم بالاستهلاك المادي؟ ما بال حياة المسلمين فقدت رونقها وغزتها البغضاء والشحناء بدل التراحم والتساكن؟ أين هي حلاوة التوازن بين الجانب المادي والروحي التي جاء الإسلام لتحقيقها في حياة الناس؟ حرب شرسة هناك حرب معلنة تشنها الحضارة الغربية بغية نشر العقلية المادية الاستهلاكية في صفوف المسلمين؛ لأن هذه الحضارة بنيت على قاعدة إقصاء الدين عن مظاهر الحياة الاجتماعية، و تبعا لذلك صارت مظاهرها مادية بحثة تهدم ما جاءت به الأديان السماوية، وتناقض كل المناقضة تلك الأصول التي قررها الإسلام الحنيف، وجعلها أساساً لحضارته التي جمعت بين الروحانية والمادية جميعها، ومن أهم الظواهر التي لازمت المدنية الأوروبية: 1ـ لاإله والحياة مادة: حيث تنتشر عقلية الإلحاد والشك في الله وإنكار الروح ونسيان الجزاء الأخروي والوقوف عند حدود الكون المادي المحسوس: (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (الروم7:). 2ـ الدنيا دار بقاء يعتقدون أن حياتهم خالدة وأهم ما فيها التمتع بمتعها، لذلك انتشرت الرذيلة و الإباحية، وأصبح هناك تنافس على اللذة والتفنن في الاستمتاع وإطلاق الغرائز الدنيا من عقالها، والإغراق في الموبقات إغراقا يحطم الأجسام والعقول ويقضي على نظام الأسر ويهدم سعادة البيوت: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) (محمد12:). 3 ـ الأنانية في الأفراد، فكل إنسان لا يريد إلا خير نفسه، ولا يعير اهتماما بالآخر فأصبحت عقلية نفسي نفسي هي العقلية السائدة والمسيطرة، وهذه الأنانية ظهرت في الطبقات أيضا، فكل طبقة تتعالى على من سواها وتود أن تحظى بالمغانم دونها، وفي الشعوب، فكل أمة تتعصب لجنسها وتنتقص غيرها وتحاول أن تلتهم من هي أضعف منها. 4 ـ الإقبال على الحرام، حيث انتشرت الدعارة بشكل خطير وتم تنظيمها وتسهيل الإقبال عليها، كما انتشرت الخمور وتم الاعتراف بالربا واعتباره قاعدة التعامل، والتفنن في صوره وضروبه وتعميمه بين الدول والأفراد. 5ـ حرية بلا قيود، حيث أطلق العنان لبني الإنسان ليفعل ما يشاء وكيف شاء دون رقيب أو حسيب، فتحولت الحرية إلى فوضى وتسيب، ونتج عنها ظواهر شاذة خرجت عن طوق الإرادة الجماعية للمجتمع. المال هو الروح لقد تضخمت معدة الحرص في الإنسان حتى صارت لا يشبعها مقدار من المال، وتولد في الناس غليل لا يُرْوى وأُوارٌ لا يُشفى، وأصبح كل واحد يحمل في قلبه جهنم لا تزال تبتلع وتستزيد، ولا تزال تنادي هل من مزيد ؟ هل من مزيد ؟ تسلط على الناس خ أفراداً وأمماً خ شيطان الجشع والحرص فكأن بهم مساً من الجنون، وأصبح الإنسان نهما يلتهم الدنيا التهاماً ، ويستنزف موارده حلالاً وحراماً، ولكن دون أن يشبع نفسه أو يحقق اكتفائه؛ لأنه كما قال رسولنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ لو كان لابن آدم واديان من تراب لتمنى له ثالثا ولا يملئ جوف ابن آدم إلا التراب كيف لا؟ وقد انتشرت العقلية المادية انتشارا سرطانيا فظن الإنسان أن حياته هي ملاذه الأخير، وخليق بمن لا يعتد إلا بحياته الدنيا ولا يرى وراءها عالما آخر وحياة ثانية أن تكون هذه الحياة بضاعته ورأس ماله وأكبر همه وغاية رغبته ومبلغ علمه ، وأن لا يؤخر من حظوظها وطيباتها ولذائذها شيئاً وأن لا يضيع فرصة من فرصها ، ولأي عالم يدخر وهو لا يؤمن بعالم وراء هذا العالم ، ولا بحياة بعد هذه الحياة؟ وقد عبر عن هذه النفسية الجاهلية الشاعر الجاهلي الشاب طرفة بن العبد في صراحة وبساطة فقال : فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي فدعني أبادرْها بما ملكت يدي كريم يروِّي نفسه في حياته ستعلم إن متنا غداً أينا الصَّدِي وكل إنسان متمدن اليوم ـ إلا من عصمه الله بالإيمان ـ يرى هذا الرأي ويذهب هذا المذهب في الحياة ، إلا أنه قد يجرؤ على أن يصرح به ، وقد لا يملك ذلك اللسان البليغ الذي يعبر عن ضميره ؛ فتراه يضمر ذلك ويظهر غيره، يقول بحب الإيثار وهو أكبر الأنانيين، يدعو إلى الخير والإحسان وهو البخيل الشحيح الذي يهتم بحاله ومآله؛ إنه يعيش حياة الوهم والخداع المدفوع بوهم الحضارة المعاصرة. توازن في توازن بديع وتناسق منسجم استطاع الإسلام أن يجمع بين طرفين متناقضين دون طغيان طرف على آخر، جمع بين المادة والروح في إطار متوازن بما يحقق للإنسان الإشباع المادي والروحي سوياً ، فالمادة هي أساس بناء الجسد ليقوى على عبادة الله عز وجل ، كما أن الروح هي أساس الجانب المعنوي داخل الإنسان ليستشعر حلاوة الإيمان بالله رباً وبالإسلام ديناً وبسيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ نبياً ورسولا. ولقد أكد القرآن الكريم هذه الحقيقة بقول الله عز وجل : ( وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين ) القصص 77 ، والمسلم الصادق القوي الإيمان يبتغي بكل شئ وجه الله ، وأساس ذلك قول الله تبارك وتعالى : ( قل إن صلاتي ونسكى ومحياى ومماتي لله رب العالمين لا شريك له . وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) الأنعام : 162 - 163 . فالحياة معبر للآخرة، وبالتالي ينبغي أن تكون كل حركاتنا وسكناتنا مؤطرة بهذا الإطار، لا ينبغي أن نعطي الدنيا أكبر من قيمتها فلا نعيش فيها كأننا لن نفارقها أبدا، كما أنه لا ينبغي أن ننسى حظنا منها، فذلكم المنهج الحكيم الذي جاء به الإسلام هو المنهج الأقدر على تحقيق رغبات الإنسان من هذه الدنيا دون نسيان التزود والاستعداد ليوم الرحيل. الحاجة إلى تقوية الجانب الروحي في غمرة انشغال الإنسان بالدنيا ينسى تقوية جانب الروح فيه مما يجعله ينغمس في الملذات والشهوات وينشغل بالماديات، وبالتالي يبقى هذا الإنسان خالداً إلى الطين محكوماً بقوانين الشهوة، الحس، وعالم الشهادة، غير متطلع إلى السماء، وبهذا ينسلخ عن جوهر آدميته وإنسانيته فيصير حقارة معنوية لعالم الحيوان(إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل) أما الإنسان المسلم فهو الذي يمثل التجاوز الحقيقي للوضع الحيواني بحدودهما الضيقة وآفاقهما المحدودة، ورغم كل الصعاب والعقبات والإنشغالات التي تحاول الضغط عليه لترغمه على هذا الأمر إلا أنه يقاوم مقاومة الأبطال، ويكد ويجاهد نفسه من أجل ذلك(يا أيها الإنسان انك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه) (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا). إذن، فالتربية الروحية جهاد متواصل ومعاناة كبيرة، وقد جعل ديننا الحنيف عدة وسائل تعين على هذا الأمر ومن ذلك : قيام الليل، والذكر، وتلاوة القرآن الكريم و المحاسبة والاعتكاف، وكل ما يقوي الصلة بالله تعالى ويحقق الأجواء الإيمانية وينميها ويحافظ على دوامها، فإذا أخذنا على سبيل المثال قيام الليل، قال تعالى:(إن المتقين في جنات وعيون. آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين. كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون. وبالأسحار هم يستغفرون)، وقال صلى الله عليه وسلم:عليكم بصلاة الليل فإنها سنة نبيكم ودأب الصالحين قبلكم، ومطردة الداء عن أجسادكم، وهذا التأكيد على فضل قيام الليل له دوره الكبير في الحرص على ذلك لأنه من الوسائل المهمة لمجاهدة للنفس، حيث يكون الناس نيام وأنت قائم تناجي ربك وترجو رحمته رغم تعب النهار ، وسلطان النوم، والشعور بالوحدة في جوف الليل. وباعتبار ذلك يكون قيام الليل أشد وطئاً، وأكبر أثراً على بناء الإرادة، والصبر، وبناء الجهاز الحاكم في الشخصية الإسلامية.. وما أحوج الإنسان المؤمن في الدرب الطويل ، والمسيرة الصعبة وعناء الدعوة إلى بناء الإرادة، وتكوين ملكة الصبر.. الصبر الذي يكون لله، وعلى عبادة الله.. وما أحوج الإنسان القائد الذي ينتظر منه تحرير الأمة من أسر الشهوة، والانحراف، والخضوع للدنيا والركون للطواغيت أن يتحرر من داخله، وأن يخرج عن أسر الكسل إلى دائرة النشاط، وقيود الشهوة إلى دائرة القدرة، والإرادة، والتجاوز.. وبالتالي ما أحوجه إلى هذه اللحظات القصيرة - من عمر الزمن - في جوف الليل.. ويؤكد فيها استعلاءه على كل شيء.. على كل شيء غير الله الكبير المتعال.