الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين أما بعد، فإن من النوازل التي ظهرت هذه الأيام ما ابتلي به المسلمون من انتشار وباء كورونا الذي عم العالم كله، فكان منالغجراءات الصحية التي أوصى بها الاطباء والمختصون أن يتباعد الناس عن بعضهم مسافة متر. ولما فتحت المساجد فيأغلب البلدان تساءل كثير من الناس عن حكم هذا التباعد، وفي يلي بسط لهذا الموضوع إن شاء الله: المسألة الأولى: مشروعية رص الصفوف وسد الفرج: جاء الأمر في السنة بإقام الصلاة ورص الصفوف وسد الفرج، وإتمام الصف الأول فالأول. روى أحمد (12352) وأبو داود (671) والنسائي (818) عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَتِمُّوا الصَّفَّ الْأَوَّلَثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، وَإِنْ كَانَ نَقْصٌ فَلْيَكُنْ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّرِ. ولفظ أبي داود: أَتِمُّوا الصَّفَّ الْمُقَدَّمَ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، فَمَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ فَلْيَكُنْ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّرِ . وصححه الألباني في صحيح أبي داود. وروى أحمد (5724) وأبو داود (666) عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أَقِيمُوا الصُّفُوفَ وَحَاذُوابَيْنَ الْمَنَاكِبِ وَسُدُّوا الْخَلَلَ وَلِينُوا بِأَيْدِي إِخْوَانِكُمْ، وَلَا تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُاللَّهُ والحديث صححه الألباني في صحيح أبي داود. وروى أبو داود (667) والنسائي (815) عن أنس رضي الله عنه أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: رُصُّوا صُفُوفَكُمْ،وَقَارِبُوا بَيْنَهَا، وَحَاذُوا بِالْأَعْنَاقِ صححه الألباني في "صحيح أبي داود". ومعنى التراص المأمور به في تسوية الصفوف: قال السندي رحمه الله: "قَوْله (رَاصُّوا صُفُوفكُمْ) بِانْضِمَامِ بَعْضكُمْ إِلَى بَعْض عَلَى السَّوَاء (وَقَارِبُوا بَيْنَهَا) أَيْ: اِجْعَلُوا مَا بَيْنصَفَّيْنِ مِنْ الْفَصْل قَلِيلًا، بِحَيْثُ يَقْرَب بَعْض الصُّفُوف إِلَى بَعْض" انتهى. وقال ابن المنذر رحمه الله:"حَكَى عَلِيٌّ عن أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ: قَالَ الْكِسَائِيُّ: التَّرَاصُّ أَنْ يَلْتَصِقَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، حَتَّى لَا يَكُونَبَيْنَهُمْ خَلَلٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ [الصف: 4] الْآَيَةَ" انتهى من الأوسط لابن المنذر (4/2019) : وقال النووي رحمه الله: "والمراد بتسوية الصفوف اتمام الأول فالأول وسد الفرج يحاذى القائمين فيها بحيث لا يتقدم صدرأحد ولا شئ منه على من هو بجنبه ولا يشرع في الصف الثاني حتى يتم الاول ولا يقف في صف حتى يتم ما قبله" انتهى منالمجموع للنووي (4/123). فهذا الإمام ابن عبدالبر يقول: في تسوية الصفوف: "هو أمر مُجتمَع عليه، والآثار عن النبي عليه السلام كثيرة فيه" الاستذكار(2 / 28)، كما قال – أيضًا -: "وأما تَسوية الصفوف في الصلاة فالآثار فيها مُتواتِرة مِن طرُق شتَّى، صِحاح كلُّها ثابتة فيأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسوية الصفوف، وعمل الخلفاء الراشدين بذلك بعده، وهذا ما لا خلاف فيما بينالعلماء فيه" الاستذكار (2 / 288)، وقال العراقي: "والأحاديث في هذا المعنى كثيرة". طرح التثريب (3 / 68). المسألة الثانية: حكم تسوية الصفوف وسد الفرج: اختلف العلماءُ في حُكْمِ تَسْوِيَةِ الصُّفوفِ على قولينِ: القول الأول: تُسنُّ تسويةُ الصُّفوفِ في الصَّلاة: وهذا باتِّفاقِ المذاهبِ الفقهيَّة الأربعة: الحَنَفيَّة (((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/136), ((حاشية الطحطاوي)) (ص: 206،207)) ، والمالِكيَّة (((التنبيه على مبادئ التوجيه)) لابن بشير (1/507)، ((الفواكه الدواني)) للنفراوي (1/527)) ،والشافعيَّة (((المجموع)) للنووي (4/301)، وينظر: ((المنهاج القويم)) لابن حجر الهيتمي (ص: 164)) ، والحَنابِلَة (((الإنصاف)) للمرداوي (2/30)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/328)). والدليل مِنَ السُّنَّة عن أنس بن مالك رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أقِيموا صفوفَكم وتراصُّوا؛ فإنِّيأَراكُم من وراءِ ظَهري))، أخرجه البخاري (719)، وأخرجه مسلم (434) بنحوه. وعنه أيضًا قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((سوُّوا صفوفَكم؛ فإنَّ تسوية الصفوف مِن إقامةِ الصَّلاة))، أخرجهالبخاري (723). وَجْهُ الدَّلالَةِ أنَّ إقامة الصفوف سنةٌ مندوب إليها، فإقامة الصلاة قد تقع على السُّنَّة، كما تقع على الفريضةِ . القول الثاني: تجبُ تسويةُ الصُّفوف: وهو قولُ ابنِ حزمٍ (قال ابن حزم: (تسويةُ الصفِّ إذا كان من إقامةِ الصَّلاة فهو فرضٌ؛ لأنَّ إقامة الصلاة فرضٌ؛ وما كان منالفَرْضِ فهو فرض) ((المحلى)) (2/375).) ، وابن تيميةَ (وينظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (5/331)، ((المستدرك علىمجموع الفتاوى)) لابن تيمية (3/80)) ، وابنِ حجرٍ (((فتح الباري)) (2/207).) ، وغيرهم. وهو اختيار القاضي أبي بكر بنالعربي من أصحابنا. والدليل على ذلك ما رواه النُّعمان بن بشير رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يسوِّي صفوفَنا كأنمايُسوِّي به القِداح، حتى رأى أنَّا قد عقلنا عنه، ثم خرَج يومًا فقام حتى كاد أن يكبِّر، فرأى رجلًا باديًا صدرُه مِن الصفِّ، فقال: عبادَ اللهِ، لَتُسَوُنَّ صفوفَكم أو ليخالفنَّ اللهُ بينَ وجوهِكم))، أخرجه البخاري (717) مختصرًا، ومسلم (436). وقد ضرب عمرقدم عثمان النهدي لإقامة الصف رواه الخطابي بسنده وصححه وورد عن سويد قال كان بلال يضرب أقدامنا في الصلاةويسوي مناكبنا ذكره الخطابي وبوب البخاري باب إثم من لم يتم الصفوف وكان عمر يوكل رجالا بإقامة الصفوف فلا يكبرحتى يخبر أن الصفوف قد استوت) رواه الترمذي وورد عن علي وعثمان نحوه. ووجه الدلالة أنَّ الأمرَ في هذه الأحاديثِ والوعيدَ الوارِدَ فيها؛ يدلُّ على الوجوبِ . المسألة الثالثة: هل تبطل الصلاة بالتباعد عند من أوجبه؟ هذا محل خلاف بين العلماء: القول الأول: صحة الصلاة، وحكي اتفاق الفقهاء على ذلك. القول الثاني: بطلانها، وهو احتمال عند الحنابلة حكاه ابن مفلح وهو مذهب ابن حزم. الراجح: الأول؛ فقد اتفقت كلمة المذاهب الأربعة كما تقدم على أنّ من سنن الصّلاة إتمام الصّفوف ووصلها وعدم وجود تباعدبين المصلين . ولكن لم يقل مذهب من المذاهب الأربعة المعتبرة بأنّ التّراص أو إتمام الصّف من شروط صحة الصّلاة أوأركانها . وبناءً عليه لو كان تباعد بين المصلين في الصّف فالصلاة صحيحة اتفاقاً ولكنّ ذلك مكروه .( انظر : فتح القدير ، للكمال بنالهمام الحنفي ، ج 1 / ص 360 -361 ، حاشية الخرشي، ج2 / ص 33 ، نهاية المحتاج، للرملي الشافعي 2 / 195 ؛ كشافالقناع، البهوتي الحنبلي ؛ 1/328 ). ولأن الأصل الصحة، ولأن الوجوب هنا شيء منفك عن ذات الصلاة. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "ومع القول بأن التَّسويةواجبة، فصلاة من خالف ولم يسوّ صحيحة ثم استدلَّ على ذلك بحديث أنسٍ رضي الله عنه حين قدِمَ المدينة، فقيل له: ما أنكرتَمنا منذ يوم عهدتَ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم –؟ قال: "ما أنكرت شيئا إلا أنكم لا تقيمون الصُّفوف)، ومع هذا الإنكار؛فإنَّ أنسًا رضي الله عنه لَم يأمرهم بالإعادة.. المسألة الرابعة: حكم تفريق الصفوف مخافة العدوى: قال الله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾، (البقرة: 239). وهذا يقتضي أنهم يصلون متباعدين ومن غير رص صفوفهم للضرورة. ومن المقرر في القواعد الفقهية أنالضرورات تبيحالمحظورات وأن الأمر إذا ضاق اتسع، وإذا دار الأمر بين ترك الجماعة وصلاتها مع شيئ من النقص فلا شك أن صلاتها معالنقص أولى، والأصل في ذلك صلاة الخوف والحالات كما بسط ذلك في كتب الفقه. وقد ذكر الإمام ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله في "النوادر والزيادات" (1/295):" ولا بأس على أهل الخيل أَنْ يُصلُّوا بإماممتباعدين، لحِصَانَةِ خيلهم. قال عنه (أي عن الإمام مالك) عليٌّ في "المَجْمُوعَة": وهو أَحَبُّ إليَّ من صلاتهم أفذاذًا. قال عنه ابن القاسم: وَلا بَأْسَ أَنْ يصلي في السقائف بمكة وبينه وبين الناس فُرَجٌ، والفضل لمن قوي أَنْ يتقدَّم، وقد سجد عمرُعلى ثوبه لشدَّة الحرِّ، وكذلك في صلاة الناس بالمدينة في الشقِّ الأيمن من الشمس. قال ابن حبيب: وأرْخص مالك للعالِم مجلسُه في مؤَخَّر المسجد أو وسَطه أَنْ يُصلي بموضعه مع أصحابه، وإن بَعُدَت الصفوفعنهم، ما لم يكن فيه خروج أو تفرُّق، فلينضزُّوا إليها يسُدُّونها."ويقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: "قَضِيَّةَ الْمَرْأَةِ تَدُلُّ عَلَىشَيْئَيْنِ. تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِدْ خَلْفَ الصَّفِّ مَنْ يَقُومُ مَعَهُ وَتَعَذَّرَ الدُّخُولُ فِي الصَّفِّ صَلَّى وَحْدَهُ لِلْحَاجَةِ وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ؛فَإِنَّ الْوَاجِبَاتِ تَسْقُطُ لِلْحَاجَةِ وَأَمَرَهُ بِأَنْ يُصَافَّ غَيْرَهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ فَإِذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ سَقَطَ لِلْحَاجَةِ؛ كَمَا سَقَطَ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ فَرَائِضِالصَّلَاةِ لِلْحَاجَةِ فِي مِثْلِ صَلَاةِ الْخَوْفِ مُحَافَظَةً عَلَى الْجَمَاعَةِ. وَطُرِدَ ذَلِكَ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ الْجَمَاعَةِ إلَّا قُدَّامَ الْإِمَامِفَإِنَّهُ يُصَلِّي هُنَا لِأَجْلِ الْحَاجَةِ أَمَامَهُ وَهُوَ قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَإِنْ كَانُوا لَا يُجَوِّزُونَالتَّقَدُّمَ عَلَى الْإِمَامِ إذَا أَمْكَنَ تَرْكُ التَّقَدُّمِ عَلَيْهِ. وَفِي الْجُمْلَةِ: فَلَيْسَتْ الْمُصَافَّةُ أَوْجَبَ مِنْ غَيْرِهَا فَإِذَا سَقَطَ غَيْرُهَا لِلْعُذْرِ فِيالْجَمَاعَةِ فَهِيَ أَوْلَى بِالسُّقُوطِ. وَمِنْ الْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ أَنْ الْمَعْجُوزَ عَنْهُ فِي الشَّرْعِ سَاقِطُ الْوُجُوبِ وَأَنَّ الْمُضْطَرَّ إلَيْهِ بِلَا مَعْصِيَةٍ غَيْرُمَحْظُورٍ فَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ الْعَبْدُ وَلَمْ يُحَرِّمْ مَا يُضْطَرُّ إلَيْهِ الْعَبْدُ". انتهى من "مجموع الفتاوى" (20/559). وقال رحمه الله : "وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَنْ لَا يَجِدَ الرَّجُلُ مَوْقِفًا إلَّا خَلْفَ الصَّفِّ فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْمُبْطِلِينَ لِصَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ والأظَهَرَ صِحَّةُصَلَاتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّ جَمِيعَ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ تَسْقُطُ بِالْعَجْزِ. وَطَرْدُ هَذَا صِحَّةُ صَلَاةِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْإِمَامِ لِلْحَاجَةِ كَقَوْلِطَائِفَةٍ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد." انتهى من "مجموع الفتاوى" (23/ 396). أما هل لهذا التباعد أثر من فعل السلف؟ فقد ورد في باب التباعد من المجذوم، روى معمر عن الزهري أن عمر قال لمعيقيب: اجلس مني قيد رمح، وكان به الداء، وكانبدريا. وروى أبو الزناد عن خارجة بن زيد: كان عمر إذا أتي بالطعام وعنده معيقيب قال له: كل مما يليك، وايم الله لو غيرك بهما بك ما جلس مني على أدنى من قيد رمح. رواه ابن سعد في «الطبقات» (4/88). وهذا أوردته للاستئناس وإلا فالأثرانضعيفان لانقطاعهما. والحمد لله رب العالمين.