المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد المصطفى الأمين،وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد: في إطار معالجة بعض المشاكل الاجتماعية التي تعيشها الأمة الإسلامية في المجال الأسري، تأتي هذه الورقة لتناقش موضوع تعدد الزوجات من حيث إشكالية تزايد الإقبال على التعدد باسم إحياء السنة رغم ضعف الإحساس بالمسؤولية في التركيز على مراعاة إمكانية تحقق إقامة العدل، وذلك بسبب قلة الوعي بأهمية المنهج الإسلامي في فهم النص الشرعي، ودوره في تنزيله على الواقع الاجتماعي العالمي في ظل مراعاة المقصد الشرعي العام من التعدد، ولهذا اخترت أن أتناول الموضوع على الشكل التالي: * الزوجية في بعدها الكوني والإنساني * بعض معالم التوجيه الإسلامي لحماية العلاقة الزوجية * سنة تعدد الزوجات وإشكالية المفهوم * تعدد الزوجات في إطار فهم النص الشرعي * تعدد الزوجات في إطار تنزيل النص الشرعي * تعدد الزوجات في ظل تحديات الواقع المطلب الاول: الزوجية في بعدها الكوني والإنساني الزوجية عبارة عن نظام كوني عام اقتضته حكمة الله تعالى في تدبير الكون، وسماها الله سبحانه ( السنن) قال الله جل جلاله في سورة فاطر : (فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا). والسنن هي الطرائق الثابتة التي تجري عليها شؤون الكون. قال الله جل شأنه في سورة الذاريات: (ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون). قال الأستاذ سيد قطب – رحمه الله – في ظلال القرآن : وهذه حقيقة عجيبة تكشف عن قاعدة الخلق في هذه الأرض وربما في هذا الكون. وفي إطار هذا القانون الكوني العام خلق الله تعالى الإنسان، وميزه بالعقل عن باقي الكائنات الأخرى، وهيأه لتأطير علاقته الزوجية وفق ما يتناسب وفطرته الإنسانية. قال الله عز وجل في سورة البقرة – مخاطبا نبيه آدم – عليه السلام – وحواء: (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين). فهذه العلاقة الزوجية في عالم الإنسان نظام كوني شرعي،يلبي حاجة الإنسان في إطار حركته الدائمة نحو الحصول على مصلحته وفق ما تقتضيه فطرته التي خلقه الله عليها دون انحراف أو شذوذ، غير أن الرجل لما غلب عليه طغيان الشهوة وسلطان اللذة في فترات من تاريخه بدأ ينظر إلى المرأة على أنها مجرد سلعة تباع وتشترى، وتارة نظر إليها على أنها كائن مقدس لا سبيل إلى محاسبته على شيء . ففي العهد اليوناني – في فترات من تاريخه – كانت المرأة في غاية الذل والمهانة، حيث كان المجتمع يجاهر بإعداد بيوت الدعارة لسائر طبقات المجتمع، حتى أصبح مثقفوهم لا يرون في ارتكاب فاحشة الزنا غضاضة يلام عليها الإنسان. كذلك في العهد الروماني كان الرومان لا يهتمون بالعلاقة الزوجية، ولا يبالون بتبعات الطلاق، حتى قال أحد فلاسفتهم : إنه لم يعد الطلاق اليوم شيئا يندم عليه أو يستحيا منه في بلاد الرومان. وهكذا في العهد الأوروبي المسيحي القديم حاول المسيحيون أن يتداركوا ما لحق بالمرأة من المهانة، لكن عادوا في الأخير ليرفعوا شعار: المرأة ينبوع المعاصي وأصل السيئة والفجور، وباب من أبواب جهنم، فقال أحد أقطابهم: إنها مدخل الشيطان إلى نفس الإنسان، وأنها دافعة إلى الشجرة الملعونة، ناقضة لقانون الله مشوهة لصورة الله، ( يعنون الرجل) وهكذا في العهد المسيحي الجديد. أما في المجتمع الجاهلي فقد كانت المرأة في أحط الدرجات وأخس الدركات، فبقي شأنها- هكذا – في مستنقع الشهوانية والاستمتاع البهيمي، حتى جاء الإسلام، دين الرحمة والتسامح، فأرسى قيم العدل والمحبة والتعاون والاحترام في إطار الزواج الشرعي، من خلال التوجيه الأخلاقي الهادف إلى حماية العلاقة الزوجية في ظل قوامة الرجل وتحت مسؤوليته.– إذن – فما هي بعض معالم هذا التوجيه الإسلامي لحماية العلاقة الزوجية؟ المطلب الثاني: معالم التوجيه الإسلامي لحماية العلاقة الزوجية. ظلت البشرية آلاف السنين عاجزة عن الاهتداء إلى ما يضمن صيانة العلاقة الزوجية، حتى جاء الإسلام ليقرر الزواج الشرعي وفق مبادئ، مجموعها يوحي بقدر المسؤولية المنوطة بكفاءة الزوج على القيام برعاية شؤون البيت والحفاظ على ما يضمن صيانته من الفساد والانحلال، ومن هذه المبادئ أنه: * اشترط كفاءة الرجل في الزواج. قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم… والمراد بالباءة ما يشمل القدرة على الوطء ومؤن التزويج.قال الحافظ ابن حجر العسقلاني – رحمه الله – : ولا مانع من الحمل على المعنى الأعم بأن يراد بالباءة القدرة على الوطء ومؤن التزويج. ولهذا لما قسم بعض الفقهاء حكم النكاح حسب الأحكام الخمسة جعلوا قسم الحرام في حق من عجز عن الوطء والإنفاق. قال الإمام المازري – رحمه الله -: التحريم في حق من بخل بحق الزوجة في الوطء والإنفاق مع عدم قدرته وتوقانه. * أوجب الصداق على الزوج. قال الله – جل جلاله -: فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف. قال أبو عبد الله القرطبي – رحمه الله – : هذه الآية تدل على وجوب الصداق للمرأة، وهو مجمع عليه، ولا خلاف فيه إلا ما روي عن بعض أهل العلم من أهل العراق أن السيد إذا زوج عبده من أمته لا يجب فيه صداق وليس بشيء. وقال ابن رشد الحفيد – رحمه الله – : وأما حكمه – أي الصداق –فإنهم اتفقوا على أنه شرط من شروط الصحة وأنه لا يجوز التواطؤ على تركه. * استحب الإعلان عن النكاح للإشهار بالزواج قال ابن رشد : ويستحب إعلان النكاح وإشهاره والإطعام عليه قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –لعبد الرحمن بن عوف:أولم ولو بشاة. * أوجب النفقة على الزوج . قال الله – جل جلاله – : وعلى المولود له رزقهم وكسوتهن بالمعروف. وقال النبي – صلى الله عليه وسلم – لهند : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف. وذهب أبو حنيفة ومالك – رحمهما الله – إلى أن النفقة غير مقدرة بالشرع، بل هي على حسب ما يقتضيه حال الزوجين باختلاف الزمان والمكان والحال. كما ذهب جمهور الفقهاء إلى أن على الزوج النفقة على خادم الزوجة إذا كانت ممن لا تخدم نفسها، بل ذهب مالك وأبو ثور إلى أن عليه النفقة على خادمين إذا كانت ممن لا يخدمها إلا خادمان. * أوجب على الزوج إقامة العدل بين الزوجات في حالة التعدد. قال الله – عز من قائل : (وإن خفتم ألا تسقطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم). وهكذا أرشد الإسلام إلى حماية العلاقة الزوجية في ظل هذا التوجه الأخلاقي العام وفق مقتضى قوامة الرجل وتحت مسؤوليته، ولهذا أمر الله تعالى بالزواج، وجعله من سنن الأنبياء والمرسلين. قال الله تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم). وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: (النكاح من سنتي) وقال – أيضا -: ( فمن رغب عن سنتي فليس مني) – إذن – فما معنى السنة في هذا السياق؟ المطلب الثالث: سنة تعدد الزوجات وإشكالية المفهوم. اقتضت حكمة الله تعالى في تدبير الكون أن يميز العلاقة الزوجية في عالم الإنسان بما تقتضي الفطرة التي خلقه الله عليها، ولذلك أمر بالزواج الشرعي، وجعله سنة من سنن أنبيائه ورسله. قال الله – عز وجل -: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء). وروى الإمام البخاري في كتاب النكاح (باب الترغيب في النكاح) عن حميد الطويل أنه سمع أنس بن مالك – رضي الله عنه –يقول: جاء ثلاث رهط إلى بيوت أزواج النبي- صلى الله عليه وسلم –يسألون عن عبادة النبي – صلى الله عليه وسلم – فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا: وأين نحن من النبي قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم : أما أنا فإني أصلي أبدا. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا.فجاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: أنتم الذين قلتم: كذا وكذا ؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني. وروى ابن ماجة في سننه عن عائشة – رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: النكاح من سنتي فمن لم يعمل بسنتي فليس مني وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم ومن ذا طول فلينكح ومن لم يجد فعليه بالصيام فإن الصوم له وجاء. يستفاد من ظاهر الآية والحديث أن الزواج سنة يجب اتباعها، وهو نفس ما فهمه فقهاء الظاهرية في حملهم الأمر الوارد في الآية على الوجوب.قال فخر الدين الرازي – رحمه الله – : قال أهل الظاهر : النكاح واجب وتمسكوا بهذه الآية وذلك لأن قوله تعالى: ( فانكحوا) أمر وظاهر الأمر للوجوب. ولعل هذا الفهم هو ما جعل بعض الناس موسوسين بالإقبال على تعدد الزوجات، وربما شعر بعضهم بالحرج في الاقتصار على زوجة واحدة، ظنا منهم أن الزواج سنة يجب اتباعها ولو بأكبر عدد ممكن من النساء. صحيح أن التأسي بسنة النبي – صلى الله عليه وسلم- واجب على العموم، كما دل على ذلك القرآن والسنة. قال الإمام بدر الدين الزركشي – رحمه الله – : التأسي بالنبي – صلى الله عليه وسلم – : واجب فيما سوى خواصه عند المعتزلة وجمهور الفقهاء. لكن ما معنى السنة هنا ؟ هل السنة فقط أن نرفع شعار: ( تزوجوا الولود الودود )، ثم نطلق العنان للرغبات النفسية والاجتهادات الفارغة، فنتزوج متى أردنا، ونطلق متى أردنا، أو نتزوج بعدد النساء الذي أردنا دون قيد ولا شرط؟ هنا نعود لنتأمل في التعاريف التي وضعها العلماء بمختلف توجهاتهم فنجد أنها – وإن اختلفت باختلاف أغراض أهلها – فإنها تتفق على أن سنة النبي مفهوم شامل لأقواله وأفعاله وتقريراته، لكن كيف نتأسى بالنبي – صلى الله عليه وسلم –في سننه بهذا المعنى؟ هل كلما وقفنا على قول له أو فعل أو تقرير تشبتنا به دون أن ننظر إلى أقواله وأفعاله الأخرى، مع أن ذلك كله يفسر بعضه بعضا إذا أهمل البعض أهمل الجميع؟ لعل المتأمل في تاريخ التشريع الإسلامي يدرك أن الأخذ ببعض النصوص وإهمال الأخرى ظاهرة تعود في عمق التاريخ إلى صنيع شرذمة من الناس في بتر النصوص وتأويلها حسب اتباع الهوى والرأي الفاسد، كما احتج بعضهم للقول بإباحة الجمع بين أكثر من أربع نسوة بقول النبي- صلى الله عليه وسلم – : من رغب عن سنتي فليس مني. وقالوا : سنة الرجل طريقته، والتزوج بالأكثر من أربع طريقة الرسول – صلى الله عليه وسلم –فكان ذلك سنة له، وظاهر الحديث يقتضي توجه الذم على من ترك التزوج بالأكثر من أربع. على أن علماء الأمة الراسخين قد تصدوا لبيان انحراف هذا المسلك وخروجه عن منهج سنة النبي – صلى الله عليه وسلم – فهذا الإمام أبو إسحاق الشاطبي- رحمه الله – يبين أن فهم الشريعة لا يتحقق إلا بجمع نصوصها، واستقراء أدلتها فيقول: فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة. ولهذافسر الحافظ ابن حجر – رحمه الله – لفظ ( السنة ) في الحديث السابق( فمن رغب عن سنتي فليس مني) بالطريقة. فقال: والمراد : من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس مني، ولمح بذلك إلى طريقة الرهبانية فإنهم الذين ابتدعوا التشديد كما وصفهم الله تعالى. فالسنة في هذا السياق – إذن –عبارة عن المنهج النبوي في طريقة التدين قال الشاطبي – رحمه الله – : ويطلق- أيضا –يريد لفظ السنة – في مقابلة البدعة فيقال: فلان على سنة إذا عمل على وفق ما عمل عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – وكان ذلك مما نص عليه في الكتاب أولا. ويقال: فلان على بدعة إذا عمل على خلاف ذلك. ومعلوم أن مما عمل عليه النبي– صلى الله عليه وسلم – في الزواج أنه: * أمر أمته ورغبهم في الزواج بقوله: تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم.. * ربط الزواج بكفاءة الزوج بقوله: ومن لم يستطع فعليه بالصوم… * جمع بين أكثر من أربع نسوة في الزواج بفعله. * أمر الرجال الذين أسلموا على أكثر من أربع نسوة أن يختاروا منهن أربعا ويطلقوا الباقي. وعلى هذا فلو أن أحدا أراد أن يعمل بسنة النبي – صلى الله عليه وسلم – في الزواج، فأخذ بقوله في الترغيب في الزواج وأهمل قوله في ربط الزواج بكفاءة الزوج، أو تمسك بفعله في الزواج بأكثر من أربع وأهمل أمره لمن أسلم على أكثر من أربع أن يختار أربعا ويطلق الباقي،أو أهمل إجماع الأمة على اختصاصه بذلك. لو أنه فعل هذا لكان قد خالف القرآن والسنة معا في تحديد الجمع بين الزوجات في الأربع في قوله تعالى : مثنى وثلاث ورباع، ثم في ربط الرغبة البشرية في الزواج بالوازع الأخلاقي في قوله تعالى: ( وإن خفتم ألا تسقطوا في اليتامى) وقوله – صلى الله عليه وسلم – : ( من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم). وواضح أن عملية التحقق من القدرة على تحقيق العدل واستطاعة الباءة نوع من الاجتهاد الشخصي يعود بالأساس إلى الرقابة الداخلية لدى كل مكلف، وهو ما وضحه الإمام الشاطبي – رحمه الله – بقوله: فإن العامي إذا سمع في الفقه أن الزيادة الفعلية في الصلاة سهوا من غير جنس أفعال الصلاة، أو من جنسها إن كانت يسيرة فمغتفرة، وإن كانت كثيرة فلا، فوقعت له في صلاته زيادة، فلابد من النظر فيها حتى يردها إلى أحد القسمين، ولا يكون إلا باجتهاد ونظر، فإذا تعين له قسمها تحقق له مناط الحكم فأجراه عليه وكذلك سائر تكليفاته. وهكذا في الزواج خاطب الشرع الضمير الفردي للاجتهاد الشخصي في التأكد من القدرة على تحقيق العدل على مستوى الواقع الشخصي في ظل توجيهات الإسلام، فيكون المطلوب في تحقيق معنى السنة هنا – إذن- استشعار الرقابة الداخلية مع إعمال النظر الفقهي في العلاقة بين النصوص الشرعية، واستثمارها في فهم المنهج النبوي وتنزيله على واقع المكلف، وبهذا تكون السنة في هذا السياق عبارة عن منهج فقهي شامل، يجمع بين أطراف نصوص الكتاب والسنة والإجماع، بشكل منهجي استقرائي يرتكز على الوازع الأخلاقي المتمثل في الرقابة الداخلية. قال الإمام الشاطبي- رحمه الله – : فشأن الراسخين تصور الشريعة صورة واحدة، يخدم بعضها بعضا كأعضاء الإنسان. وقال الأستاذ صالح قادر الزنكي – حفظه الله – : ومن المعلوم أن الاعتقاد السليم بالله تعالى ورسوله – صلى الله عليه وسلم – يوجب على المسلم أن يفسر النص بمعنى أو بحكم يتسم بالعدل والرأفة واللطف والرحمة والبر والخير، وهذا هو الإطار الكلي والمرجعي الذي يوجب أن يحيط بكل تفسير. وعلى هذا فسنة تعدد الزوجات لا ينبغي أن تكون عن مجرد باعث عاطفي، وهوس نفسي، تحكمه الشهوة واللذة، بل يجب أن تكون عن مقصد أخلاقي يهدف إلى تحقيق المصلحة الفردية، كما يراعي مصالح النظام الاجتماعي الذي يعيش فيه الفرد، إذ أن الزواج ليس فقط حقا فرديا بل هو – أيضا – حق جماعي. قال أبو الأعلى المودودي – رحمه الله – : بل هو في الواقع – يقصد الزواج – فريضة جماعية، وحق فطري للجماعة على الفرد. وبهذا يكون إحياء سنة التعدد عبارة عن منهج أخلاقي يرتكز بالأساس على التفتيش الذاتي عن الباعث الباطني الدافع إلى الرغبة في تعدد الزوجات، هل هو باعث تعبدي أم هو مصلحي… شخصي … جنسي … ثم يعتمد ثانيا على ضرورة إعمال النظر الحكيم لتوسيع فهم النص الشرعي في ظل مراعاة تحقيق المصلحة حسب الواقع المشترك بين جميع الأطراف المعنية – المرأة – المجتمع – الرجل. وحينئذ يمكن أن تسير جميع تلك الأغراض التي يعلن عنها أغلب الناس لتبرير إقبالهم على تعدد الزوجات، كمن يدعي أنه يريد إنقاذ امرأة من وضع غير لائق، أو من يدعي أنه يهدف إلى تحقيق مصالح الأرامل واليتامى، أو يهدف إلى إظهار شعائر الدين، أو إلى ثواب إحياء سنة التعدد، أو غير هذه من الأغراض التي هي – في واقع الأمر- مقاصد معقولة عظيمة في الدين، لكنها – في واقع أحوال الناس- قد تحتاج إلى الاختبار الشخصي الحكيم مع التركيز على الفهم الصحيح للنص الشرعي الوارد في الباب -كما فهمه علماء الأمة- في ظل الإحساس التام بمراقبة الله تعالى في السر والعلن – إذن – كيف ناقش علماء الأمة قضية تعدد الزوجات في إطار فهم النص الشرعي؟ المطلب الرابع: تعدد الزوجات في إطار فهم النص الشرعي. في إطار التأكيد على ضرورة استشعار الرقابة الداخلية مع الاعتماد على استثمار النص الشرعي بمنهج استقرائي يضمن تحقيق الفهم الرشيد، أشير في البداية إلى أن مدار اجتهاد الفقهاء في شأن قضية تعدد الزوجات على نص قوله تعالى: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم). وفي سبب نزول هذه الآية وردت روايات متعددة، لكن بما أن مجملها راجع إلى ضرورة مراعاة مقصد إقامة العدل في التعامل مع النساء – لاسيما في باب الزواج – فإني أكتفي بالرواية الصحيحة الواردة في صحيح البخاري، وهي رواية عائشة – رضي الله عنها – التي أشار إليها الفقيه أبو بكر بن العربي المالكي – رحمه الله – بقوله: وهذا نص البخاري والترمذي، وفي ذلك من الحشو روايات لا فائدة في ذكرها هاهنا، يرجع معناها إلى قول عائشة – رضي الله عنها- وإليها مال الإمام ابن كثير- أيضا- حيث لم يذكر في تفسيره غيرها فروى عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة أن ابن الزبير سأل عائشة عن قول الله تعالى : وإن خفتم ألا تسقطوا… قالت: يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يسقط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره فنهوا عن أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا لهن أعلى سنتهن في الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن. قال عروة: قالت عائشة: وإن الناس استفتوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم –بعد هذه الآية فأنزل الله ( ويستفتونك في النساء) قالت عائشة: وقول الله في آية أخرى ( وترغبون أن تنكحوهن) رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال قالت: فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في ماله وجماله من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن إذا كن قليلات المال والجمال. تبين هذه الرواية دلالة النص القرآني – في سياقه العام – على التحذير من التحايل على التصرف في أموال اليتامى، والتأكيد على ضرورة استحضار الرقابة الداخلية في التحقق من القدرة على إقامة العدل عند الرغبة في تزوج النساء، ويتضح هذا المعنى بقوله تعالى في بداية النص: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى… وقوله تعالى في نهاية النص أيضا : فإن خفتم ألا تعدلوا … وهكذا تناسق معنى النص فيما يضمن تحقيق هدف إقامة العدل في إطار العلاقة الزوجية، فحدد عدد الزوجات عند التعدد حسب أحوال الناس وظروفهم مراعاة لمصلحتهم، فبدأ بالأربع إذ هو أعلى العدد الذي يمكن أن يتحقق معه العدل، وإلا فالثلاثة، وإلا فاثنتين، وإلا فالواحدة، وإلا فملك اليمين. قال جار الله الزمخشري – رحمه الله – : فإن خفتم ألا تعدلوا بين هذه الأعداد كما خفتم ترك العدل فيما فوقها فواحدة فالزموا أو فاختاروا واحدة وذروا الجمع رأسا، فإن الأمر كله يدور مع العدل، فأينما وجدتم العدل فعليكم به. وقال الفقيه الكياالهراس – رحمه الله – : ذلك لأن الله تعالى إنما أراد بيان الأصلح لعباده بالإضافة إلى أحوالهم، فإن أمكنه أن يعدل في الأربع نكح الأربع، وإلا نكح الثلاث، وإلا نكح المثنى، فإن خاف ألا يعدل فواحدة، فتقديره: ثلاث ورباع في حالة. وهكذا الأمر – إذن – يدور مع العدل حيثما دارحسب المصلحة الشرعية المشتركة بين الأطراف المعنية – المرأة – المجتمع – الرجل – ولهذا رأينا علماء الامة- رغم توسعهم في مناقشة دلالة النص القرآني على تحديد العدد نظرا للاحتمال الوارد على الصيغة اللغوية التي ورد بها هذا العددفي النص، وهي(مثنى وثلاث ورباع )قد أجمعواعلى أنه لايجوز الجمع بين أكثر من أربع نسوة في الزواج، إ ذ هو أعلى ما يمكن أن يتحقق به العدل. قال الإمام الشافعي – رحمه الله – : وقد دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم –المبينة عن الله أنه لا يجوز لأحد غير رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة. قال الإمام ابن كثير – رحمه الله – : وهذا الذي قاله الشافعي – رحمه الله – مجمع عليه بين العلماء إلا ما حكي عن طائفة من الشيعة أنه يجوز الجمع بين أكثر من أربع إلى تسع. وهكذا احتج الجمهور على حصر عدد الزوجات في التعدد في الأربع بالسنة والإجماع، أما السنة فقد روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم- أنه أمر رجالا أسلموا على أكثر من أربع نسوة أن يختاروا أربعا ويطلقوا الباقي، ومن هؤلاء غيلان بن سلمة الثقفي أسلم على عشر نسوة، فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم -: اختر منهن أربعا. قال ابن كثير مبينا دلالة هذا الحديث على هذا المعنى: فوجه الدلالة أنه لو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لسوغ له رسول الله – صلى الله عليه وسلم- سائرهن في بقاء العشرة وقد أسلمن معه، فلما أمره بإمساك أربع وفراق سائرهن دل على أنه لا يجوز الجمع بين أكثر من أربع بحال، فإذا كان هذا في الدوام ففي الاستئناف بطريق الأولى والأحرى والله سبحانه وتعالى أعلم. وأما الإجماع فقد اتفقت الأمة على حصر عدد الزوجات في التعدد على الأربع، كما أجمعوا على اختصاص رسول الله – صلى الله عليه وسلم –بجواز الجمع بين أكثر من ذلك.قال أبو عبد الله القرطبي- رحمه الله –معقبا على من ذهب إلى جواز الجمع بين أكثر من أربع لغير رسول الله – صلى الله عليه وسلم – :وهذا كله جهل باللسان والسنة ومخالفة لإجماع الأمة، إذ لم يسمع عن أحد من الصحابة ولا التابعين أنه جمع في عصمته أكثر من أربع. وقال فخر الدين الرازي – رحمه الله – : وهو إجماع فقهاء الأمصار على أنه لا يجوز الزيادة على الأربع وهذا هو المعتمد. وقوله ( هو المعتمد ) إشارة إلى منهجه في عدم الاعتداد بنسخ القرآن بخبر الآحاد، ولذلك رأى الاعتماد على الإجماع دون الأحاديث المبينة للنص القرآني، باعتبار أنها– في نظره – واقعة حال، لكن عقب عليه أبو الفضل الألوسي – رحمه الله – بأنه لو اعتبر مثل هذا في الشريعة لم يبق دليل على وجه الأرض. وقال أبو الفضل الألوسي – رحمه الله – معقبا على من احتج على جواز الجمع بين أكثر من أربع نسوة بفعل النبي – صلى الله عليه وسلم – في الجمع بين أكثر من أربع : وأما الاحتجاج بالخبر فليس بشيء – أيضا- لأن الإجماع قد وقع على أن الزيادة على الأربع من خصوصياته – صلى الله عليه وسلم –، ونحن مأمورون بإتباعه والرغبة في سنته – عليه الصلاة والسلام – في غير ما علم أنه من الخصوصيات، أما فيما علم أنه منها فلا. فالنص – إذن –يربط تحديد عدد الزوجات في التعدد بمدى تحقق العدل حسب مصلحة الناس، فمن لم يقدر على العدل مع الأربع فله الثلاث، ومن لم يقدر عليه مع الثلاث،فله اثنتان، ومن لم يقدر عليه مع اثنتين فله الواحدة،ومن لم يقدر عليه مع الواحدة فله ملك اليمين. غير أن مفهوم العدل هنا ليس محصورا – فقط – في دائرة المعاشرة الزوجية بعد الزواج، بل هو – أيضا – شامل لمقدمات الرغبة في الزواج. قال الأستاذ سيد قطب – رحمه الله – : فالمطلوب هو العدل في كل صوره وبكل معانيه في هذه الحالة، سواء فيما يختص بالصداق أو فيما يتعلق بأي اعتبار آخر، كأن ينكحها رغبة في مالها لا لأنها في قلبه مودة ولا لأنه يرغب رغبة نفسية في عشرتها لذاتها، وكأن ينكحها وهناك فارق كبير في السن لا تستقيم معه الحياة دون مراعاة رغبتها هي في إبرام هذا الزواج. فالعدل هنا مفهوم شامل لكل المعايير المفهومة من النص القرآني بما فيها المقصد الأساسي من الإقبال على تعدد الزوجات،بأن يكون مقصودا تعبديا أخلاقيا تحكمه الرقابة الداخلية،واستحضار مراقبة الله تعالى في التأكد من القدرة على تحقيق العدل في المعاشرة الزوجية في ظل هذا الفهم للنص الشرعي مما يبين أن الإقبال على تعدد الزوجات ليس مجرد شهوة أو عاطفة أو تلاعب بالأبضاع أو تنافس في إظهار الفحولة أو التباهي على الأقران أو … بل هو أمانة دينية عظيمة تتجلى في ضرورة اتباع المنهج الشرعي في مراعاة مصلحة تحقيق العدل ليس فقط في حق الفرد بل في حق المجتمع – أيضا – إذ أن الزواج حق فردي وحق جماعي في نفس الوقت، ولتسهيل تنزيل هذا النص الشرعي على نوازل التعدد في ظل ظروف هذا المجتمع المعقد الذي قل فيه الوازع الأخلاقي في الإحساس بالمسؤولية رأيت أن أستعين هنا بأنموذجين من نماذج الاجتهادات المعاصرة في تنزيل نص التعدد وهما: اجتهاد الأستاذ علال الفاسي : واجتهاد الأستاذ سيد قطب – رحمهما الله –. المطلب الخامس: تعدد الزوجات في إطار تنزيل النص الشرعي. في ظل مبدأ الترابط اللازم بين فهم النص الشرعي وتنزيله على واقع المكلفين أستأنس هنا بأنموذجين من نماذج الاجتهاد المعاصر في تنزيل النص الشرعي على مشكلة تعدد الزوجات أحدهما ذهب إلى المنع وهو الأستاذ علال الفاسي والثاني مال إلى الجواز وهوالأستاذ سيد قطب. ففي المجتمع المغربي في القرن الماضي كان الأستاذ علال الفاسي – رحمه الله – ممن رأى منع تعدد الزوجات بناء على ما ترجح لديه من تحقق المصلحة الإسلامية الاجتماعية المترتبة على ذلك فقال: ومهما يقل عن محاسن تعدد الزوجات في بعض الظروف الخاصة أو العامة فإني أعتبر أن المصلحة الإسلامية والاجتماعية تقضي بمنع ذلك. ولتأطير المنهج الاجتهادي لبناء هذا الحكم انطلق الأستاذ علال – رحمه الله – من تحقيق مناط الحكم في الأصل من النص القرآني ودلالته الصريحة المتفق عليها وهي تحريم ما فوق الأربع وإباحة ما دونها عند تيقن العدل فقال: فمنع التعدد فيما زاد على الأربع وقع تحريمه بالنص من أجل سبب معروف في قول عائشة وابن عباس مآله إلى الخوف من أن يكون سببا في اغتصاب أموال اليتامى الذين هم تحت كفالة المتزوج طبقا لما كانت قد عمت به البلوى في الجاهلية. وقال أيضا : إن هذه الأحكام صريحة الدلالة ومجمع عليها من طرف المذاهب الإسلامية كلها وهي منع التعدد مطلقا عند الخوف من الظلم وإباحته حتى الأربعة عند تيقن العدل. وعلى أساس تحقيق هذا المناط للنص القرآني المتمثل في الخوف من عدم القيام بالعدل بنى الأستاذ الحكم بالمنع على اعتبار أن عرف الناس في ترك أمر التعدد للرغبات الفردية أدى بدلالة التجربة إلى مفاسد اجتماعية أسرية مما يوازي كل واحدة منها علة الحكم المنصوص عليها في الأصل إضافة إلى تطور مفهوم العدل ثم إلى ما يتحقق من مصلحة الحد من ظاهرة تزايد إقبال الناس على التزوج بأكثر من أربع وخاصة في عوائد قبائل البربر وهذه المفاسد هي: * استعمال الناس للتعدد في غير موضعه الشرعي. * استهتار الناس بشؤون العائلة مما أدى إلى حوادث مخربة وهدم البناء الأسري من خلال الحرمان من الإرث وانتشار القتل والتسميم والزور وتقلب الأبناء على إخوانهم و … * انتشار إقبال الفقراء و المعوزين وضعفاء الأجسام على التعدد. * الإساءة إلى سمعة الإسلام وتشويه صورته لدى الآخرين. اعتمد الأستاذ في بناء حكم المنع هذاعلى قياس الأولى حيث رأى أن كل واحدة من هذه العلل لوحدها توازي علة الحكم المنصوص عليها في النص القرآني فضلا عن مجموعها، ولهذا رأى أن تطبيق حكم المنع ضروري لتحقيق مناط النص القرآني. فقال: إن تطبيق هذا الحكم ضروري لتحقيق المناط الذي قصده القرآن الكريم بقوله: فإن خفتم ألا تعدلوا بواحدة أو ما ملكت أيمانكم. أما في المجتمع المصري فقد كان الأستاذ الشهيد سيد قطب – رحمه الله – ممن ناقش مشكلة تعدد الزوجات في إطار منهج إصلاحي واقعي راعى فيه الضرورة الفيزيولوجية اللازمة للمجتمع البشري في كل زمان. في إطار هذا المنهج الاجتهادي الإصلاحي الواقعي انطلق الأستاذ – كعادته في ربط الجزئيات بالكليات –ليربط النص القرآني بسياقه الأخلاقي الكلي العام، إذ أن النص سيق مساق الدعوة إلى الابتعاد والتحذير من التصرف في أموال اليتامى فقال: والقرآن يقيم الضمير حارسا والتقوى رقيبا وقد أسلف في الآية السابقة التي رتب عليها هذه التوجيهات كلها قوله تعالى: (إن الله كان عليكم رقيبا). ثم انتقل الأستاذ ليربط النص – مرة أخرى – بسياقه الخاص فقال: وحديث عائشة يصور جانبا من التصورات والتقاليد التي كانت شائعة في الجاهلية، ثم بقيت في المجتمع المسلم حتى جاء الإسلام ينهى عنها ويمحوها بهذه التوجيهات الرفيعة، ويكل الأمر إلى الضمائر وهو يقول: وإن خفتم ألا يقسطوا في اليتامى … فهذه مسألة تحرج وتقوى وخوف من الله إذا توقع الولي ألا يعدل مع اليتيمة في حجره. ومن هذا الأسلوب القرآني الشرطي المصحوب بهذا التحفظ الأخلاقي، رأى الأستاذ أن تعدد الزوجات مجرد رخصة تستدعيها الضرورة الفيزيولوجية والأخلاقية في المجتمعات البشرية، وفق التوجه الإسلامي العام فقال: إن أحدا يدرك روح الإسلام واتجاهه لا يقول: إن التعدد مطلوب لذاته مستحب بلا مبرر من ضرورة فطرية واجتماعية وبلا دافع إلا التلذذ الحيواني وإلا التنقل بين الزوجات كما ينتقل الخليل بين الخليلات، إنما هو ضرورة تواجه ضرورة، وحل يواجه مشكلة، وهو ليس متروكا للهوى بلا قيد ولا حد في النظام الإسلامي الذي يواجه كل واقعيات الحياة. وفي نفس السياق بين الأستاذ ضوابط الرخصة في تعدد الزوجات انطلاقا من السياق الخاص للنص القرآني فقال: فقد جاء الإسلام – إذن – وتحت الرجال عشر نسوة أو أكثر أو أقل بدون حد ولا قيد، فجاء ليقول للرجال: إن هناك حدا لا يتجاوزه المسلم هو أربع، وإن هناك قيدا هو إمكان العدل وإلا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم، جاء الإسلام لا ليطلق ولكن ليحدد، ولا ليترك الأمر لهوى الرجل ولكن ليقيد التعدد بالعدل، وإلا امتنعت الرخصة المعطاة. ثم في ظل هذا التوجيه الأخلاقي العام المتمثل في الرقابة الداخلية والتحفظ التام لمراعاة إمكان تحقق العدل من خلال الالتزام بضوابط الرخصة مع الملاحظة العميقة للمجتمعات البشرية في تاريخها الطويل خلص الأستاذ إلى أن واقع المجتمعات البشرية عبر تاريخها دائما في حاجة إلى تعدد الزوجات نظرا للضرورة الفيزيولوجية والاجتماعية التي تتجلى فيما يلي: * ظاهرة تزايد النساء الصالحات على الرجال الصالحين. * امتداد فترة الإخصاب عند الرجل إلى سن السبعين أو ما يقاربها بينما تتوقف عند المرأة في سن الخمسين فتبقى العشرون لا مقابل لها عند المرأة. * رغبة الرجل في أداء الوظيفة الفطرية مع انعدامها عند المرأة لعائق السن أو المرض مع رغبة الطرفين في استدامة الحياة الزوجية وكراهية الانفصال. واستجابة لضرورة معالجة مشكلة التعدد بهذا الشكل اقترح الأستاذ إيجاد المجال العام الذي يختاره الإسلام لمواجهة مثل هذا الواقع، وهو إباحة التعدد لضرورة المصلحة الاجتماعية مع الالتزام بضوابط الرخصة المتمثلة في الرقابة الداخلية في التأكد من القدرة على إقامة العدل وعلى أي فالمقصود هنا ليس الدعوة إلى تبني هذا الرأي أو ذاك، وإنما المقصود التنبيه على أن الإقبال على تعدد الزوجات مسؤولية أخلاقية دينية تتوقف على فهم النص الشرعي وتنزيله على واقع المكلف حتى لا تضيع مصالح المسلمين مقابل إشباع الرغبات الجنسية والنزوات الشهوانية – لا سيما في هذا المجتمع الذي يعيش تحديات فكرية واقتصادية وأخلاقية تتضاعف معها مسؤولية الراغب في تعدد الزوجات. المطلب السادس: تعدد الزوجات في ظل تحديات الواقع. رغم ان الإنسان الذي يقبل على تعدد الزوجات قد يكون ممن يضعون طموحاتهم تحت محك النظر،لكن لا ينسى أنه يعيش في مجتمع معقد، تحكمه تحديات فكرية اجتماعية تخترق الحواجز التي كانت في الماضي مظلة كل من يؤثر الانغلاق على ذاته نظرا لتطور وسائل الإعلام التي أصبحت الآن تغزو العقول وتدمر الأفكار في كل مكانبما لا يستطيع الإنسان أن يتخلص من رواسبها الهدامة. في هذا العالم الغريب الذي يحكمه الفكر العلماني الرهيب بتحديده الثقافي والاقتصادي والإعلامي والتكنولوجي يعيش المسلم تحت محاصرة فكر عالمي يرى الكون كأنه مجرد قالب طبيعي لا مكان فيه لا للعقل ولا للأخلاق ولا الفطرة ولا للإنسان،بل يرى الإنسان نفسه جزءا من الطبيعة ومحكوما بالطبيعة لا اعتبار فيه بما هو روحي ولا أخلاقي إن هو إلا جسد يتجر به كما يتجر بالسلعة في الأسواق. هكذا تم تجريد الإنسان بواسطة هذا الفكر الخطير من إنسانيته وروحانيته واختزاله في الطبيعي المحسوس مما أدى إلى نتائج وخيمة هي: * إلغاء الجانب الروحي الإنساني وإقصاؤه من مجال البحث العلمي بحكم خروج العنصر الغيبي عن سيطرة البحث المادي الطبيعي وهو ما أدى بأحد علمائهم ( داروين) إلى المهزلة الفكرية التاريخية، وهو ما عرف – فيما بعد – بنظرية التطور في تسوية الإنسانبالقرد. قال هسكلي في كتابه ( الإنسان في عالم الحديث ) وهو من علماء الداروينيةالحديثة : وبعد نظرية داروين لم يعد الإنسان يستطيع تجنب اعتبار نفسه حيوانا. * الإسقاط المطلق لنتائج البحث في الحيوان على الإنسان مما أدى بأحد علمائهم ( فرويد ) إلى الخطأ الفاحش،وهو اختزال دوافع الإنسان كلها في الباعث الجنسي. قال الأستاذ محمد قطب – رحمه الله – : ولكن النقد الأول الذي ينبغي أن يوجه إلى فرويد،هو في أساس نظرته إلى الإنسان على أنه كائن أرضي بحت لا يرتفع بمشاعره وعواطفه عن عالم الأرض إلا في حالات الشذوذ. * انتشار الانحلال الأخلاقي والفكر الإباحي وانتشار الرذيلة في المجتمعات البشرية. جاء في كتاب (بروتوكولات صهيون) : يجب أن نعمل لتنهار الأخلاق في كل مكان فتسهل سيطرتنا، إن فرويد منا، وسيظل يعرض العلاقات الجنسية في ضوء الشمس لكي لا يبقى في نظر الشباب شيء مقدس، ويصبح همه الأكبر إرواء غرائزه الجنسية وعندئذ تنهار أخلاقه. * اختزال الحدث الكوني التاريخي في العامل الاقتصادي،فلا إنسانية ولا أخلاق ولا عقل إلا الحركة الإنتاجية الاقتصادية، وأخطر ما نتج عن هذه النظرية الماركسية وأصبح مثلا يضرب في المجتمعات : أن الدين أفيون الشعوب ابتدعهالإقطاعيون لتخدير العبيد والطبقة الكادحة عن المطالبة بحقوقهم المسلوبة. هكذا نشأ هذا الفكر الخطير في العالم الأوروبي الحديث واستخدم – فيما بعد – للسيطرة على شعوب العالم عن طريق الدعوات التبشيرية الاستشراقيةبعد ما علم أصحابه أن المدخل التثقيفي هو الوسيلة الناجعة للقبض على النفوس البشرية وبرمجة العقول الإنسانية،إذ الفكر – على حد تعبير المفكر عبد الوهاب المسيري – رحمه الله –يتغلغل في وجدان الناس فيستبطنونه ثم يعيدون صياغة رؤيتهم لأنفسهم والكون حسب مواصفاته، ثم بعد ذلك يسلكون طريقة تتفق مع النموذج بشكل تلقائي غير واع دون أن يكون في ذلك أي قسر خارجي. وبالفعل تسرب هذا الفكر بهذا الشكل التلقائي إلى العالم الإسلامي مشحونا بهذا الرجس الإباحي من خلال عاملين أساسيين هما: * محاولة إقناع الرأي العام الإسلامي بأن هذا الفكر هو أساس الحضارة. * تحويل عقول المسلمين عن قناعاتهم وإثارة الشبهات حول مقوماتهم الفكرية لتذويبها في عالم آخر جديد يضمن السيطرة. في ظل هذا الوضع الفكري يعيش المسلم فراغا في الشعور الأخلاقي،وأزمة في السلوك العملي بسبب طغيان الوازع المادي،حيث كثرت الخيانة، وقل الصدق والتضحية والإيثار، واصبح الباعث الوحيد عند أغلب الناس في جميع مجالات الحياة بما فيها الزواج هو المصلحة المادية (فلا مادة فلا أخلاق) فكم من زواج انفسخ في الايام الأولى بسبب الطمع المادي، ومن مشاكل أسرية نتجت عن الخيانة بسبب ضعف الوازع الأخلاقي، وهكذا في ظل هذا المجتمع العالمي تتضاعف مسؤولية كل راغب في تعدد الزوجات، الأمر الذي يوجب عليه أن يتصرف عن حكمة باستشعار الرقابة الداخلية واستحضار المنهج الإسلاميلفهم النص الشرعي وتنزيله على الواقع الاجتماعي العام. الخاتمة: من خلال إلقاء هذه النظرة على موضوع التعدد نستنتج أن الإقبال على تعدد الزوجات لا ينبغي أن يكون عن العواطف الفارغة، والأوهام الخيالية،والاجتهادات النفسية الخالية من الضوابط العلمية، لأنه مسؤولية أخلاقية دينية ترتكز على الفهم الصحيح للنص الشرعي وتنزيله على الحالة الشخصية في ظل الرقابة الداخلية المتمثلة في الإحساس التام بمراقبة الله تعالى في السر والعلن. المصادر والمراجع: * القرآن الكريم * أحكام القرآن لابن العربي * أحكام القرآن للكيا الهراس * الجامع لأحكام القرآن للقرطبي * تفسير الرازي * روح المعاني للألوسي * الكشاف للزمخشري * تفسير ابن كثير * في ظلال القرآن لسيد قطب * فتح الباري لابن حجر * الاعتصام للشاطبي * بداية المجتهد لابن رشد الحفيد * الموافقات الشاطبي * البحر المحيط الزركشي * النقد الذاتي لعلال الفاسي * التطور والثبات في الحياة البشرية لمحمد قطب * نظام الاجتماع الإسلامي( الحجاب) للمودودي * البعد المصدري لفقه النصوص للأستاذ صالح قادر الزنكي * الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان للأستاذ عبد الوهاب المسيري