هوية بريس – الإثنين 06 يوليوز 2015 الحب؛ تلك الكلمة الرنانة الرائعة، تقع في القلوب موقعا عجيبا وتأسر الألباب حين تذكر، وتهدأ الجوارح حين تتنسم، لكنه بالطبع يختلف عما يدعي الناس اليوم زورا وبهتانا أنه الحب. نعم لقد عرف الإسلام المشاعر القلبية النبيلة، وتعامل معها بإيجابية، ووجهها التوجيه الصحيح، هذا هو الحب، ولكن هل الحب هو الذي نراه اليوم على أرصفة الشوارع والطرقات؟ هل هو ما نجده في منظر متكرر شاب وفتاة خرجا سويا والتصقا معا مجاهرين بموقفهما المخجل أمام أعين الناس؟ هل هو استدراج أحد الشباب لإحدى الفتيات في مكان مهجور؟ هل هو التعارف الذي يتم بين شاب وفتاة على الأنترنيت دون أن يعرفا بعضهما، ثم يتواعدا على اللقاء ويكون بينهما ما يكون؟ وهذه دعوة للتأمل والتعامل مع هذا النوع من الغزو الذي اكتسح مجتمعنا، فأضحت من خلاله أغلب الملفات الأسبوعية التي تفتحها الجرائد الوطنية في نهاية كل أسبوع، تدور حول المد الإباحي الكاسح (الأفلام، والصور، والقصص الجنسية،…) الذي غزى كل قوام وأركان البيت المسلم، لا نقول: الشباب والفتيات في مراحل المراهقة وما قبل الزواج فحسب؛ بل عقول وقلوب كثيرٍ من الأزواج والزوجات في مختلف الأعمار، وعلى اختلاف الثقافات، حتى استبدل كثير من الأزواج المشاهداتِ الإباحية وما يعقبها من خيالات وممارَسات جنسية خاطئة بممارسة الحياة الزوجية الطيبة. قد يرى البعض أن الأمر صعب ولن يستطيع أحد أن يحقق ما ندعو إليه في ظل الأوضاع الراهنة، وقد يرى البعض أنها أمور نظرية ومجرد نصائح جوفاء لا تغني في المواجهة شيئًا، مثالية لا وجه لواقعيتها، ولا تقدم حلا عمليا؛ فليكن صعبا، ولتكن نظرية، ولتكن جوفاء، ولتكن مثالية، المهم ماذا نحن فاعلون في معركتنا تلك؟ إنها معركة خسارتنا فيها لن يجني مرارتها أحد سوانا، وفوزنا فيها لن يسعد به أحد غيرنا، وباب الابتكار مفتوح، وليشق كل واحد منا طريقه نحو ربه، المهم أن لا أن نظل نتفرج على أنفسنا، وهي تفعل ما يحلو لها. إنه العمر فلا بد أن نعي الأمر جيدا؛ سنفرض أننا سنطلق لشهواتنا العنان، وسنظل طوال عمرنا نفعل ما نشاء نصادق هذه، ونصاحب تلك، ونخالل أخرى، وهن يسمحن لنا بكل ما نريد أن نفعله معهن!! وسأفترض أن لدينا إمكانيات مادية، ووقت فراغ لهذا اللهو والعبث، فكم سنجني؟ وماذا سنحصد؟ إذ متوسط عمرنا بين60 و70 عاما نقضي في النوم 8 ساعات يوميا، أي ثلث اليوم، وبالتالي إجمالي وقت النوم 20 سنة، والعمل والدراسة مثلها 20 سنة، يتبقى لنا 20 سنة تقريبا هي العمر الحقيقي الذي نقوم فيه بمختلف أنشطة حياتنا، فكم سنقضي منها في الشهوات؟ كلنا نعاني، أحيانا يخدعنا الشيطان أننا مختلفون، وأن حجم معاناتنا أكثر من غيرنا لينجح في استمالتنا للحرام، ولكن من قال أن الشباب لا تكويه نار الرغبة، ولا تتأجج داخله حرارة الشهوة، ولا يضم بين جوانحه قلبا يميل، حتى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم جاءه شاب مثلي ومثلك أرهقته الرغبة، وطلب الخلاص؛ ائذن لي في الزنا يا رسول الله؟! يظن الزنا حلا سهلا وعلاجا شافيا، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم يقنعه أنه كما لا يرضاه لامه وأخته وقريباته، فإن الناس لا يرضون، ثم يدعو له بالهداية والإيمان، فأول حل أن نقتنع ألا سبيل إلى الحرام، ثم نستعين على أنفسنا بدعاء الصالحين لنا. فمعظم المثيرات اليوم تأتي من العين، ونحن مأمورون بغض البصر عن الحرام، وللمثيرات تأثير خطير؛ فالشباب الذي حاصر نفسه بالمجلات الهابطة، والأفلام الماجنة، والصحف العارية، ومواقع الانترنيت الإباحية، ومكالمات الهاتف، ومواقع التواصل الاجتماعي، والصداقات غير البريئة، هل هو مؤهل للامتناع عن الوقوع في فخ فتاة؟ والوقوع فيها؟ والله سبحانه يحذر من مجرد الاقتراب من هوة الفواحش فيقول: «و لا تقربوا الزنا»، فمجرد الاقتراب فيه خطر. وهنا نستحضر قصة يوسف عليه السلام، ولا أدري كيف تحمل كل هذا العناء؛ أن تغلق زليخا الأبواب، ولا أحد يراهما، ثم تتزين وتتهيأ له، وهي إحدى جميلات عصرها، ووجوده في هذا المكان أمر طبيعي لا يثير ارتيابا ولا شكا، وكل عوامل الفتنة قد اجتمعت، ومع ذلك فكيف نجا يوسف؟ لا شك أن في قصته إشارات تدل على سبيل ثباته، لابد من اقتفاء أثرها للحوق بنفس الركب، والفوز برضى الرب. الأمر نفسه حصل مع القاضي عبيد بن عمير؛ حيث ذهبت إحدى الفتيات إليه، وكان قاضيا، فقالت أيها القاضي لي مسألة؛ ولكن لابد أن أقولها لك منفردة، فوافق لأن ذلك من صميم عمله كقاض، فلما خلت به كشفت وجهها، يقول عبيد: كأنما أسفرت عن فلقة من القمر، فقال: يا أمة الله اتق الله، فقالت: إني قد فتنت بك فانظر في أمري، قال إني سائلك عن شيء فاصدقيني لأنظر لأمرك، أخبريني لو أن ملك الموت أتاك يقبض روحك أكان يسرك أني قضيت حاجتك؟ قالت: لا، قال: فلو أدخلت في قبرك وأجلستي للسؤال أيسرك ذلك؟ قالت: لا، قال: فلو وقفت بين يدي الله للمسائلة أكان يسرك أنني قضيتها؟ قالت: لا قال: فاتق الله يا أمته إنه قد انعم عليك، وأحسن إليك، فرجعت، فهذا عاقل، أعمل عقله، ونظر إلى عواقب الأمور. وهذا أيضا أحد الشباب مثلنا لحق بيوسف، وهو عطاء بن يسار؛ ففي مسجد في بادية إسمها الأبواء دخلت عليه أعرابية جميلة، ولما أنهى صلاته قال: ألك حاجة؟ قالت: نعم، اصب مني فإني اشتقت للرجال (فرصة أليس كذلك!!) قال: إليك عني لا تحرقيني ونفسك بالنار، ولما راودته وأصرت على ما تريد، وشعر بقلبه يتمزق بين جوانحه قال: إليك عني وحيك، وظل يبكي من الخوف، فلما رأت ذلك منه بكت لبكائه، ولما عاد إليه أصحابه بكوا من شدة بكائهم حتى خرجت الأعرابية، وذات يوم كان نائما فرأى يوسف عليه السلام في رؤياه فبكى، قال له يوسف: ما يبكيك يا عطاء؟ قال: تذكرتك يا نبي الله مع امرأة العزيز وما ابتليت به من أمرها فتعجبت من ذلك، فقال يوسف عليه السلام: ولم لم تتعجب من المرأة البدوية بالأبواء! فعرف أنه يقصده. فقد بكى حينما راودته المرأة، وذلك لتعرف أن الشهوة داخله، نفسه الأمارة بالسوء كانا يدعوانه لنيل هذه المرأة، وإطفاء شهوته، لكنه كان يكتمها، والصراع في نفسه عبر عنه بالبكاء والتوجه إلى الله. وهنا قد يقول قائل وحق له ذلك؛ إن كان يوسف عليه السلام قد راودته امرأة العزيز ونسوة المدينة، فإن ألاف النسوة اليوم في المدينة يراودننا في الطرقات والشوارع، وعلى شاشات التلفاز، وفي المنتديات العامة والخاصة، وفي ميوعة الإعلانات، وعلى أغلفة المجلات، وفي موضات الأزياء، وللأسف يغلقن الأبواب ويقطعن أيديهن، ويصحن بأعلى الأصوات ما جزاء من أراد بأهلك سوءا؛ فكيف السبيل؟ علينا ألا ترعبنا هذه الشهوة، ولا نصورها بأنها وحش سيفترسنا لا محالة، لكن علينا معرفة طبيعتها، فالشهوة جواد جامح يقف رهن إشارتنا، نستطيع أن نقوده فتتنزه به، وتستمتع بين الرياض والبساتين في رحاب التعلم والدراسة والتفرغ للعمل، والاستمتاع بالحياة، والأنشطة الاجتماعية والأسرية، والهوايات المفيدة، والحرص على متابعة العلاقة القوية مع الله تعالى فهذا تماما هو الشاب الذي صرف الشهوة في ما يحل له. ويمكن بمقابل ذلك أن تقود إلى اختراق أحراش الضلال؛ فلا نجني إلا الوحل، ومن أروع التشبيهات حول الشهوة في الإنسان قول أحدهم: «إن الشهوة في الشاب كإناء به ماء يغلي، فإن أغلقت عليه كل منفذ انفجر الإناء بأكمله، وإن نفست عنه بمقدار معقول خرجت منه القوة التي تسير القاطرات الكبار، أما إن فتح غطاء الإناء لتبدد الماء ثم لا يلبث الإناء أن يحترق كله» ومن استطاع أن يُلَبِّ داعي الفطرة بالزواج للاستعفاف فليفعل فإن الله كفيل به. فمن «لطائف أسرار اقتران الفرج بالكرب، واليسر بالعسر: أن الكرب إذا اشتد وعظم وتناهى وحصل للعبد اليأس من كشفه من جهة المخلوقين، وتعلق قلبه بالله وحده، وهذا هو حقيقة التوكل على الله، وهو من أعظم الأسباب التي تطلب بها الحوائج، فإن الله يكفي مَن توكل عليه»1. فإلى القابضين على الجمر في زمن المد الإباحي، وإلى من نادته شهوات النساء فاستعصم، إلى كل صامد في وجه المغريات، إلى من يحبون الطهر والعفاف، أقول له: استعصم فقد ثبت النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا)2، وقال الله تعالى: (ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا. ذلك أمر اللّه أنزله إليكم ومن يتق اللَّه يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا) الطلاق. فالله المستعان وعليه التكلان، وهو حسبنا ونعم الوكيل. [1] جامع العلوم والحكم ص:197 لابن رجب الحنبلي. [2] – رواه أحمد (5/19) وصححه المحققون. [email protected]