مجددا حاول بعض المشوشين الذي لا يجدون أنفسهم إلا في الشغب والفوضى، خلق حالة عداء بين العلم والدين، واستدعاء مواضيع قديمة قتلت بحثا، وتم كشف من يحركها ويقف وراءها. وفي هذا الصدد علق كتب د.إدريس الكنبوري حول هذا الموضوع بقوله "يتصل بي بعض الأصدقاء والقراء يستفسرون عن مسألة تتعلق بعداء الفقهاء للعلماء، وكيف أن بعض الفقهاء كفر بعض العلماء وكانوا ضد العلم، فكان الطرفان بعضهم يكره بعضا في الحضارة الإسلامية". وأضاف الباحث في الحضارة الإسلامية "العقول الصغيرة تنشر أمورا مضحكة حول بعض العلماء العلوميين وتكفيرهم من طرف بعض الفقهاء في التاريخ الإسلامي، معتبرين أن التكفير كان بسبب اشتغالهم بالعلم. وللأسف هناك شباب يصدق هذه الخزعبلات ويوزعها على أنها اكتشاف عظيم، ولا يعرف المسكين أنها طبخت له طبخا مثل الأكلة المعدة سلفا التي يجدها قريبة كلما جاع". ووجه الكنبوري إلى أن "أول شيء يجب أن نعرفه -حتى يفقه هذا بعض الجهلة- هو أن "التكفير" عند السابقين كان بين العلماء مثل الرأي الأكاديمي اليوم، أو الموقف تجاه المخالف، وذلك بناء على أصول عقدية ترسخت عند هذا الشخص أو ذاك هذا الفريق أو ذاك.." وأضاف في تدوينة له على صفحته بالفيسبوك "لو كان العلماء الفقهيون يكفرون العلماء العلوميين ويرتبون على تكفيرهم عملا، لقتل بعضهم بعضا، لأنهم كانوا يكفرون بعضهم بعضا، فكان عليهم أن يشكلوا عصابات ويتفقوا على مكان يلتقون فيه ويصفوا حساباتهم بينهم فلا يرجع إلا القليلون. وهذا مضحك. إنما التكفير كان رأيا عندهم وحكما شرعيا يراه كل واحد من زاويته. هذه واحدة. والثانية أن التكفير كان على أساس الاختيارات العقدية لا على أساس شغلك الذي يشغلك. لم يكفر أحد في تاريخ الإسلام منذ أول آية نزلت إلى اليوم لأنه كان طبيبا أو ميكانيكيا أو صباغا أو فيزيائيا أو سائق عربات، ولكن كفر بعضهم لأنه كان يقول مثلا بأن الله لا يعلم الكليات ويعلم الجزئيات فقط، أو بأن الله يبعث الأجساد فقط وليس الأرواح أو العكس، أو بأمور مثل هذه لها علاقة بالعقيدة الإسلامية لا غير. وكان الناس في الاتحاد السوفياتي يكفرون لأنهم يرفضون قرارات الحزب الشيوعي فيقتلون عيانا، وفي الصين كانوا يكفرون ويقتلون لأنهم لم ينحنوا لصورة ماوتسي تونغ. وفي التاريخ الأوروبي طوال 18 قرنا كان من المستحيل أن ترى كافرا يمشي على رجليه، كل من تعرض للتكفير يقتل ولا بد. ولكنك في العالم الإسلامي كنت تجد الكفار يشتغلون بالعلم والتجارة والتدريس ويحاورون العلماء، بل يدخلون قصور السلاطين ويتولون مهمات، وكان العلماء والفقهاء ينصحون بالكافر إذا كان الأمر يخص الطب مثلا، فكان ابن تيمية يقول بأن الكفار أوتوا علم الطب وإن الاستعانة بهم خير من الاستعانة بالمسلم. فهذا دليل على أن الكفار كانوا يعيشون حياة طبيعية وسط المسلمين ولم يكن أحد يكفرهم لأنهم كفار أصلا، ولا أحد يدعو إلى قتلهم لأن القرآن لم يقل ذلك. ولكن التاريخ الأوروبي سرق ذاكرتنا ووضع مكانها آلة تعمل بالريموت كونترول. لم يكن في التاريخ الأوروبي رجل دين يشتغل بالعلم أصلا لأن الكنيسة كانت ترفض ذلك وتقتل العلماء، لذلك كان لا بد أن يقال أيضا إن الفقهاء كانوا ضد العلماء، لأن الآلة المزروعة مبرمجة بهذه الطريقة. ولذلك رسخوا في عقول الناس والشباب وبعض المثقفين الدراويش أن كل المشتغلين في العلوم الحقة في التاريخ الإسلامي كانوا زنادقة ضد الفقهاء والفقه والدين، مثلما كانوا في أوروبا ضد الكنيسة ورجال الدين، شيء طبيعي تماما وفقا للآلة المزروعة. كأن العلماء المسلمين لم يكونوا يصومون أو يصلون أو يحجون أو يجلسون لتلاوة القرآن، ولا يدركون بأن المجتمعات الإسلامية عبر التاريخ كانت مثل المسجد: يلتقي العشرات من المؤمنين في مكان واحد كتفا على كتف، وبعد الصلاة كل يذهب إلى شغله، الكيميائي إلى كيميائه والطبيب إلى طبه والفقيه إلى فقهه والمعلم إلى طلبته والتاجر إلى تجارته والمفلس إلى إفلاسه، ثم يلتقون في الفريضة القادمة، وكهذا، وإذا كان الخلاف يحصل بينهم وكثيرا ما كان يحصل فهو خلاف بين رواد المساجد"اه.