هوية بريس – ذ. إبراهيم الطالب بداية أعلن تضامني مع الشيخ الدكتور حميد العقرة ضد هذه الهجمة الشرسة التي يتعرض إليها، والتي تقودها وسائل إعلام التشويه وتكميم الأفواه وإسقاط الرموز. هل فعلا كفر الدكتور الشيخ حميد العقرة النائب بلافريج؟؟ لن أكتفي بنفي التهمة عن الدكتور العقرة، فهذا لا يحتاج عناء، وهو معروف بوسطيته وتؤدته والتزامه بالعداء للفكر الخارجي التكفيري، ولكني أراني ملزما ببيان حقائق منها أن الكفر والإيمان مفهومان صَلبان في الإسلام لا بد أن يوضحا توضيحا كافيا شافيا، ولأني على يقين من أن الكثير ممن رد على الدكتور واتهمه بالتكفير جاهل لمعنى الكفر والإيمان وحدودهما فكيف سيتحدث عن التكفير وهو فرع عن الكفر وله قواعده وضوابطه، وأغلبهم لا يهتم بالتفريق بين دائرة الكفر والإيمان، بل يدعو إلى تفجير الحدود بين المفاهيم والعقائد الكفرية وقواعد وأسس الإيمان رغبة منهم في تهميش مرجعية هذه الثقافة التي تبقي الفكرة الدينية حية في ضمائر الناس، ومساهمة منا في تثقيف زملائنا العلمانيين الذين نشترك معهم هذا الوطن خصوصا الذين خاضوا فيما يجهلونه من الدين؛ ستكون إجابتي من خلال نقاط أهمها: – أولا: الكفر والإيمان بين العلمانية والإسلام كل دين فوق وجه الأرض يحكم للمؤمنين بعقائده بالإيمان وعلى المخالفين لها بالكفر، فالمسلم كافر عند اليهودي والنصراني، واليهودي والنصراني كافران عند المسلم. فالأديان لا تقوم إلا على تحديد الفروق بين دائرة الإيمان والكفر. وقد عالج القرآن هذا الأمر معالجة لا مزيد عنها، وحدد حدود الإيمان وميزها عن حدود الكفر، وبين ما ينبغي للمسلم أن يعتقده، وانتقد الأديان الأخرى وحكم على أهلها بالكفر صراحة، ومن ذلك قول الله سبحانه: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ). ثم رد الله عليهم بقوله بعد الحكم عليهم بالكفر: (وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ). وحكم على عقيدة التثليث بالكفر في قوله الكريم: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). وقال سبحانه في عقيدة النصارى واليهود: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ). وعندما كان يصل الحوار بين الكفار والنبي صلى الله عليه وسلم وتتضح مكابرتهم له ومعاندتهم الرافضة للإيمان، كان البيان يأتي في شكل المفاصلة كما في قوله تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا). وهذه الصيغة هي للمفاصلة بعد الثبات على المبدأ العقدي وليس إعطاء لحرية المعتقد ولا ضمانا لحق الاختيار بين الكفر والإيمان، كما يروجه العلمانيون، فلو كان قد أعطاهم الحق في الكفر فلِمَ يتوعدهم بالعذاب في قوله: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا). أما الوثنيون فالقرآن واضح مفصل لحكمه على عقائدهم، وإيراد الآيات في ذلك لا يتسع له حجم المقال؛ وإنما المراد أن مسائل الكفر والإيمان واضحة بينة في الإسلام. تأسس على ما سبق تاريخ الأمة المغربية، وكان الكفر والإيمان حاضرين في القضاء والتعليم والحكم، بل يجد الباحث في الوثائق الرسمية المغربية التي كان يحررها السلطان ورجال المخزن ويرسلونها إلى الولاة والعمال عبارات الكفر، والكافر والكفار، وهي مستفيضة بل كان يطلع عليها بعض الباشادورات فيرسلون إلى بلدانهم مستنكرين ذلك. لكن، يجب الاعتراف أن الدين في المغرب تم إقصاؤه من تدبير الشأن العام تدريجيا، حيث تبنت السلطات الفرنسية في المغرب سياسة تفتيت البنى العلمية والتعليمية والقضائية، فأعيد تشكيل تصورات الأجيال التي نشأت خلال المرحلة الكولنيالية، وتم إرساء القوانين وفق التصور العلماني الفرنسي للكون والإنسان والحياة، كما تم تشكيل الدولة الحديثة بمؤسساتها وفق تلك القوانين. عقود الاحتلال خلقت واقعا جديدا، على كل المستويات، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتعليمية، شكلت تحديات جسام لم يستطع العلماء ولا الحركة الوطنية التي قاومت الاحتلال أن تتغلب عليها، نظرا لعوامل يطول شرحها، فألف الزعيم علال الفاسي كتابه "دفاعا عن الشريعة"، وكان العلماء خلال مؤتمرات رابطتهم التي كانت تسمى قبل الحرب على الإرهاب، "رابطة علماء المغرب"، يقدمون التوصيات تلو التوصيات للرجوع إلى الإسلام العملي على مستوى تدبير الشأن العام، واستئناف العمل بالشريعة الإسلامية، وكانوا يردون على أفكار الإلحاد والعلمانية، فكانت كتابات العلماء أمثال عبد الله گنون والمكي الناصري وإبراهيم الكتاني وإدريس الكتاني، حافلة بالردود على الانحرافات الفكرية والعقدية عند العلمانيين، وكانت تحكمها النظرة الإسلامية للكفر والإيمان عند المسلمين. هذا فيما يخص دائرة المسلمين. أما في الجانب العلماني، فالكفر والإيمان لا معنى لهما في التصور اللاديني، إذ لا تحفل العقيدة العلمانية بما هو دين أو عقيدة إلا من حيث كونهما خيارا فرديا يندرج تحت حرية الضمير. هذا من حيث الجانب النظري. أما عمليا، فيقوم العلمانيون بتفجير حدود الإيمان ليتسرب إليه الكفر ويمتزج به، فتضيع المفاهيم الصلبة للإيمان والعقيدة، حتى تسود عليها العقيدة العلمانية التي قتلت إله الغرب وحررت شعوبها من معتقدات الكتاب المقدس، من خلال الفلسفة ومناهجها التفكيكية التي لم تترك للعقيدة النصرانية مرتكزا، حتى صارت الكنائس كملحقات علمانية بلغ من حداثتها أنها أصبحت تجيز زواج اللواطيين والسحاقيات. المنهجية نفسها في تفكيك الدين استوردها علمانيو العرب ومنهم علمانيو المغاربة الببغاويون، فصرنا نسمع كل ما قيل في الغرب عن الكتاب المقدس النصراني اليهودي يقال في القرآن، وكل ما قيل في رجال الدين النصراني يقال في علماء الإسلام، بل تم التعامل حتى مع تاريخ الإسلام بنفس المنهج ونفس الآليات. تقليد قِرْدوي مقيت لا يصمد أمام البحث العلمي وتضمحل كل مقدماته أمام المنهج إذ يعتمد في مجمله على التزوير والكذب. إن الغرض من تسوية الكفر مع الإيمان هو إسقاط حجية المرجعية الإسلامية، كأساس للتشريع وسن القوانين، فالعقيدة عندنا في المغرب ارتبطت بالشريعة ارتباطا عضويا، فكان المذهب المالكي هو العمدة في التشريع المغربي، وبه يشتغل السلك القضائي، ومن أصوله تستمد الأحكام التفصيلية التي تتأسس عليها القوانين في المعاملات المدنية والجزاءات الجنائية، وكانت عقيدة الولاء والبراء هي العمدة في كل شيء بل كانت محددة لطبيعة العلاقات الخارجية، والوثائق تثبت أن المغرب قاتل مع الجزائر تنفيذا للواجب العقدي قبل كل شيء فكانت معركة إيسلي، بل كان السلطان يستفتي النخبة العالمة من القضاة والعلماء في تعاملات تجارية محضة مع الكافر الغربي المحارب لدولة الخلافة العثمانية، فيفتوه بعدم الجواز لأن فيه إعانة للكافر على المسلم. والكلام له ذيول سنطيل على القارئ الفاضل بها؛ والتي يجهلها أغلب هؤلاء الكتاب المتحذلقين الذين لا يناقشون ويكتفون بالتعصب والعويل والنحيب. ومع هذا لا بأس من تعليمهم: فنقول لهم كتمرين أولي: ابحثوا في قاعدة: "ليس كل من وقع في الكفر وقع الكفر عليه". حتى ترفعوا من مستوى الخطاب والحجاج لديكم. ثانيا: تهمة التكفير للترهيب والتكميم الاتهام بالتكفير سهل جدا، وهو أسلوب رخيص، وأعتبر من يتساهل في اتهام الناس بالتكفير دون بينة ولا ضوابط تماما مثله مثل من يتهم الناس بالكفر بلا ضوابط ولا إعمال للقواعد. فلماذا في كل نقاش أو جدال يرفع العلمانيون تهمة التكفير في وجه الباحثين والدكاترة من العلماء والدعاة؟؟ لماذا لا يناقشون؟؟ لماذا لا يعطون الحرية لخصومهم في التفكير والتعبير؟؟ لا شك أن كل ضروب الحريات والحقوق هي حكر على العلماني، أما الإسلامي فلا حق له في الحياة، ولا حرية له في الكلام. فتهمة التكفير هي الكمامة التي يجتهد العلمانيون في إلصاقها بالقوة على أفواه المخالفين لهم، وذلك حتى لا تصل الانتقادات والأسئلة الحارقة التي يرمي بها أولئك الباحثون والدكاترة والأساتذة أمثال الدكتور العقرة في وجوه العلمانيين إلى عموم الناس، فينتبه مَن يُغرر بهم من خلال الإعلام والأراجيف المختلقة يوميا ضد الإسلام والمسلمين. يلجأ هؤلاء الضعفاء إلى القذف بتهمة التكفير، لمصادرة حق الناس في الكلام وإبداء الموقف والدعوة إليه، وفِي نفس الوقت يدعون الحرية المطلقة المشرعة. لكن الغريب الذي نحتاج فيه إلى إجابة من عقلاء العلمانيين -إن كان فيهم عقلاء-؛ هو أن جميعهم يرفضون التكفير، وفي الوقت نفسه يدافعون عن الكفر والإلحاد ويدخلونه في حرية الاعتقاد والضمير، فهل يعقل منطقيا أن يكون هناك كفر بواح مصرح به مدافع عنه دون أن يتبعه تكفير، وهل يمكن أن يبقى هناك إيمان دون عقيدة لها حدود جامعة مانعة محروسة يذاد عنها؟ فإعمالا للعقيدة العلمانية التي تسوي بين الكفر والإيمان يفترض ألا ينزعج العلماني المنكر لعقائد المسلمين والكاره لشريعة الإسلام المستبيح للمحرمات، من وَصف فعله بالكفر، لأنه يعتقد أن ذلك الكفر هو الإيمان الحق، وإلا لما استمات في الدفاع عنه. ومن هنا نتساءل: ثالثا: فما حقيقة رفض العلمانيين لوصف معتقداتهم بالكفر؟ حتى وسعوا دائرة الحرب المفاهيمية لتشمل دائرة تجريم التكفير، مجرد الحديث عن الكفار والمعتقدات الكفرية بغض النظر عن الحكم على الشخص المعين، بل عملوا على استصدار قوانين تمنع من ذلك، شبيهة بتهمة معاداة السامية التي تمنع من التشكيك في معطيات ما يسمى المحرقة اليهودية التي صارت كمامة لأفواه الباحثين والدارسين والسياسيين لكي تبقى دولة الصهاينة في منأى عن كل انتقاد علمي أو إعلامي لما تقترفه من جرائم في حق العالم. هم يرفضون التكفير ووصف الكفر لأمور نجملها فيما يلي: – لأنه يسفه أطاريحهم لدى عموم الناس، فيسلب كل مجهوداتهم فاعليتها وتأثيرها في علمنة المغاربة. – لأنه يعيد المفاهيم الإسلامية الصحيحة التي تبني التصور الإسلامي للإنسان والكون والحياة إلى الحقول المعرفية المختلفة، ومن ثّم يعود تأثير الإسلام في قناعات الناس وسلوكياتهم، وهذا يحاصر تمدد العلمانية في المغرب. – لأنه يعيد القيمة للمرجعية الإسلامية التي يتحدث عنها الدستور عندما يقر بأن "الإسلام دين الدولة"، وسيبقي على المفهوم الحقيقي لمصطلح الإيمان الذي اشتق منه المصطلح القرآني "المؤمنين" المؤسس لمفهوم "إمارة المؤمنين"، الذي يطبع التاريخ المغربي بكامله. – لأن منع وصف الفعل بالكفر يلغي الحدود بين الإيمان والكفر، وبهذا تنمحي العقيدة الإسلامية وتتبعها الشريعة والسلوك الإسلاميين، فالكافر أو المرتد لا يرث المسلم ولا يرثه المسلم ولو كان والده أو ولده، ولا يتزوج المسلمة، بل يفرق بينه وبين المسلمة بالحكم القضائي، وكثيرة هي الأحكام المرتبطة بوصف الكفر، وهذا ليس وهابية أو حنبلية بل هذا هو الفقه المالكي والعقيدة السنية المغربية، فمن أراد البحث العلمي والنقاش الحضاري، فليكتسب أولا الشجاعة الأدبية، ولتكن له نسمة من الموضوعية، قبل أن يرسل التهم جزافا. علينا إن كنا نريد أن نرتقي بمستوى النقاش أن نخضع موضوعات البحث للمنهج العلمي وللحقائق العلمية، لا لإملاءات الاصطفاف الإيديولوجي، الذي كان سببا في تخلف المغرب وإفلاسه في مرحلة ما بعد "الاستقلال". أما بعد: فالدكتور والباحث المحقق الشيخ حميد العقرة بريء من تهمة التكفير؛ أما الحكم على عمر بلافريج وعلى كلامه فواضح ويغني عنه ما سلف ذكره. وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.