هوية بريس – السبت 13 يونيو 2015 من المواضيع التي تؤرقني، وأحب أن أكتب عنها كثيرا، وهذا جهدي، في انتظار أن أجد الوسع الكامل لمغازلتها على أرض الواقع، موضوع: العمل المؤسسي المنظم. أنا لستُ وحيدا في هذا الأرق، ربما قد يكون هناك المئات ممن يؤرقهم هذا الموضوع، وأنا نموذج مصغر يعبر عن طائفة من الشباب، والشيوخ أيضا، الذين لم يعانوا مثل هذا الذوق الجديد، لذلك لن يكون حديثي شخصيا، أو حالة فردية تصيح في صحراء مترامية الأطراف. نحن اليوم نعيش زمان الطائفيات والحزبيات والتكتلات والمناهج والمدارس والجماعات والجمعيات.. وهلم جرا من الأسماء والمسميات التي يمكن اختصارها في مفهوم "المؤسسات". عندما نتكلم عن "المؤسسات" وجوبا نستحضر مفهوم "المشروع المجتمعي" الذي تعمل له هذه المؤسسة، سواء أكان عملا سياسيا أو خيريا أو فكريا أو ترفيهيا، فهناك علاقة موضوعية بين "المشروع" وبين "المؤسسة"، فليس هناك منتوج يمكن أن يستمر أو يحقق نجاحات مهمة من دون هذا التفاعل العضوي بين هذين الكيانين الأساسيين. نعم، قد يكون هناك منتوج يحصَّلُ من خلال الأعمال الخارجة عن فكرة "العمل المؤسسي" لكن لا يمكن أن تكون في حجم العمل المؤسسي الذي يشترك فيه ألوانٌ من الأذكياء والعاملين، ولهذا أمرَ اللهُ سبحانه بالجماعة، والعمل التشاركي /المشترك، الذي يساهم فيه الجميع، لتوحيد الجهود وتنظيمها، واختصار الأوقات وتذليل العراقيل والصعاب. إذا كنا -نحن- اليوم نعيش في عالم قائم على هذا الصراع المؤسسي -بتلك المفاهيم التي ذكرتُ أو بغيرها- فليس من المعقول أن يبقى حملة الرسالة الإلهية في معزل عن هذا الصراع، فإما أن تنخرطَ فيه وإما أن يأكلكَ أصحابُ المشاريع الأخرى، أعني الانخراطَ في العمل المؤسسي، لا الانخراط في الصراع، وإن كان الصراعُ لازما وضروريا لاستمرار الحياة، وبناء الحضارة، كما يرى المفكر الفرنسي "إدغار موران" في كتابه "ثقافة أوربا وبربريتها"، وخير منه ما قرره ربنا في القرآن الكريم من خلال "سنة التدافع". كثير من العظماء، خصوصا في الأزمنة الحديثة، ماتوا ومات ذكرُهم بمجرد مغادرتهم لهذه الحياة، برغم أنهم من عمالقة المجتمع، والسبب المباشر في ذلك وهناك أسباب أخرى طبعا أن هؤلاء لم يؤسسوا أعمالهم، أي؛ لم يعملوا من خلال مؤسسة تحمل أسماءهم وأفكارهم ورسالتهم إلى المجتمع وإلى العالم، مؤسسة بكوادرها، وأقلامها ومواردها وفروعها وإعلامها وروادها ومشاريعها وحضورها في المجتمع واختراقها له وليس البقاء في عزلة عن المجتمع ومشاكله. في الجهة المقابلة نجد صنوفا من الأقزام استطاعوا أن يكونَ لهم حضورٌ قوي في المجتمع، بل استطاعوا أن يكونوا عمالقة وهم أقزام. لا أريد هنا أن أضرب الأمثلة على المعنيين بكلامي، من أهل العلم والمعرفة، فإني لا أعلم منهم إلا القليل، وقد يكون القارئ يعلم أضعاف مَنْ أذكرهم له. أستحضرُ هنا اسمين معروفين لدى الجماهير المغربية، هما الدكتور فريد الأنصاري والدكتور المهدي المنجرة رحمهما الله، لك أن تتساءل معي عن وزن هؤلاء في المجتمع الآن، وما هو أثرهم عليه؟ أنا لا أتكلم عن المؤلفات التي تركوها للأجيال القادمة، فإن المجتمع لا يقرأ، لكني أنظر إلى القضية من جهة المؤسسة كمفهوم غاب -أو غُيّب- عن أذهان هؤلاء الكبار، وبالتالي أثّر سلبا على مردودية تأثير نشاطهم في الواقع. لن أجلد ظهور هؤلاء بهذا الحديث ولكني أريد تحفيزَ الذين جاؤوا بعدهم، من حملة الفكر والحاملين لرسائل النور في المجتمع، الحالمين بالنصر والتقدم، ليتفادوا الهفوة التي سقط فيها من سبقهم. العمل الفردي، العشوائي/الفوضوي/التلقائي/العفوي.. هو الذي أعنيه ب"الهفوة"، مع ما فيه من خير وبر "ولا تحقرن من المعروف شيئا"، لكنه لن يكون أبدا في مستوى العمل الجمعي المؤسسي الذي يستمر بعد موت مؤسسيه، وهذه هي الصدقة الجارية التي ورد ذكرها في الأحاديث، وليست فقط محصورة على "حفر بئر" و"بناء مسجد" مخصص للصلاة فقط ثم يغلق مباشرة، أو "غرس شجرة"، وهذه محمودة أيضا. بهذه الجملةِ الأخيرة أدُقُّ على أبواب وأفهام أهل الخير والإحسان أن يوسعوا مداركهم وأعمالهم الخيرية إلى مشاريع مؤسسية يكون عائدها التنموي فائقا للمشاريع الإحسانية التي اعتادها المجتمع، والتي قد تُرسي فيه ثقافة الاستخذاء واليد السفلى. "التنظيم يغلب الفوضى" يقول أحدهم، والمؤسسة تحفظ الجهد وتستمرُّ به إلى قيام الساعة وتغلب الفردانية، وإن كان الفردُ قويا فكريا وعلميا ومعرفيا في نفسه، لكنه ضعيف إذا لم يحفظ هذه القوة العلمية في كيان يرعاه إلى الأبد، إلى ما بعد موت صاحب الفكر. الأقوياء لا يخشون الموت، ولكن يخشون موت ما بعد الموت، لذلك يحتفظون بقوتهم في مؤسسة وكيان مادي ملموس، يراه الناس ويتفاعلون به ومعه.