مما لا شك فيه أن قراءة القرآن رحمة وشفاء لما يختلج في القلوب والصدور من القلق والهموم والوساوس والمخاوف. قال الله سبحانه وتعالى:"وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين" (الإسراء 82). ثم إن كثيرا ممن أنعم الله عليهم بحب القراءة والاطلاع، منكبون، خلال هذه الأيام العصيبة؛ أيام الحجر الصحي والخلوة المنزلية، على القراءة والتأمل والنظر في الكتب. ولقد خطر ببالي أن أعيد قراءة كتاب؛ "في أدب الرقائق" الذي صدر لي قبل بضع سنوات. وهذه باقة من الخواطر الإيمانية مقتطفة منه، أزفها إلى زوار ومحبي منبر "هوية بريس" المبارك. صدرك لا يسع قلبين يا عابر القنطرة : أنت مستخلف في الدنيا وجعلتها همك، وتشكو عذابها ولا كاشف لما ألمَّك. أما تدري أن صدرك لا يسع قلبين؛ " مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ"، ولا ينوء بحمل همين؟ وأن الهموم إذا تشعبت أوهنت، وإذا توحدت فيما خلقت له أسعدت وأشرقت، وأنبتت من كل زوج بهيج، فيا حبذا الأريج؛ أبشر بها من ريح طيبة تخالج صدرك، وتوقظ عزمك، وتطرد همك، وتستبدله بهم الآخرة، "وللآخرة خير لك من الأولى". واعلم أن هموم الدنيا لا تزول إلا بالعمل للآخرة، وأنك إن بعت دنياك بآخرتك ربحتهما جميعا. فاضرب هموم الدنيا بهم الآخرة، تسعد في الدارين وتأمن سخط الله يوم يبعث الثقلين. خوفان لا يجتمعان خوفك من الله يقهر خوفك مما سواه، ووجودك تحت سلطانه يجعل وجود ما سواه تحت سلطانك. والخوفان لا يجتمعان. والأول جوهري أصلي لتعلقه بالافتقار عين العبودية. والثاني عرضي طارئ. ويورث الأول الأمن والطمأنينة والنور. ويورث الثاني القلق والاضطراب والظلمة؛ " فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ". لا تكن عبد الحظوظ تدارك أمرك إذا فاتك حظ وبدا أساك، فإن قدمك ليست ثابتة. والحق يثبت وهو الحظ فاقرع بابه. كل الحظوظ مسطرة في اللوح المحفوظ، وانتقالك بينها عين القدرة، ويمحو الله ما يشاء ويثبت. خذ كتابك بيمينك، واثبت على الصراط المستقيم وصابر وراقب وحاسب، واجمع آمالك فيه، ملكت الحظوظ أو فاتتك. ثم انظر واختبر؛ فإن حزنت نفسك لفوات حظ، أو انبسطت لحصوله حتى أساءت الأدب، فما صحت طمأنينتها. وإن استوى عندها الحصول والفوات فقد تحقق لها المراد. أنت الكتاب أنت الكتاب والقارئ والمقروء والشاهد والمشهود، وحامل الأمانة والمكلف بالخلافة، وكلك آذان وألسنة.وبك تخبر عنك. وكفى بنفسك اليوم عليك حسيبا. ركز أحوالك، واستمع لتسبيح ذاتك، وصحح كتابك قبل أن ينشر، وتنطق جلودك، فيخرس لسانك، ويحد بصرك، ولات حين مناص. كيف يتحقق السفر إليه طرقت الباب فقيل لي: إرجع من حيث أتيت، فافترشت التراب واستلقيت، ثم توسدت بخدي العتبة وبكيت، فنادتني هواتف الروح؛ تجرد من تاج الهوى وطيلسان النفس الأمارة، وطواغيت الشرك، والبس رداء الذل والافتقار، وقميص الخوف والاضطرار، وقتئذ يفتح الباب على مصراعيه، ويتحقق السفر منه إليه، ويحلو الذكر والمناجاة، ويحصل مالا تترجمه العبارات. أفكلما غزلت نقضت ألهمك غزل الدنيا والآخرة وأبيت إلا النقض فما شكرت، ودلك على الهداية فأبصرت ثم أعرضت فما اهتديت، أفكلما غزلت نقضت ؟ بئس ما فعلت، ألهمك التقوى فما زكيت، فضللت الطريق وهمت على وجهك بما د سيت، عاهدت الله في الزمن الأول وقبل الأزمان فما وفيت، وشهدت له بالربوبية فما حفظت وما التزمت؛ " وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ". فيا ليت شعري هل إلى مرد من سبيل، ومن دواء للقلب العليل، ومن أمل في نعيم الجنة وظلها الظليل، رحماك رحماك عبد لاذ بحماك. إحذر زهرة الدنيا راودتك الدنيا عن نفسك فاستجبت لها، وأماطت عن محاسنها الخمار فذُهلت بها، وأسرَّت إليك بحديثها الساحر فأصغيت لها. كلا، لا تحجبنَّك "جنة" الدنيا عن جنة الآخرة، ولا الدار الفانية عن الدار الباقية، وشتان ما بين الفناء والخلود، وما بين العدم والوجود، وما أقرب يومك من اليوم الموعود.