وزير الصحة يترأس الدورة الثانية للمجلس الإداري للوكالة المغربية للأدوية والمنتجات الصحية    سعر صرف الدرهم يرتفع أمام الدولار    فرحات مهني يكتب: الحق في تقرير مصير شعب القبائل    لماذا تراهن بكين على أبوظبي؟ الإمارات شريك الثقة في شرق أوسط يعاد تشكيله    الصين تسجل رقماً قياسياً في رحلات السكك الحديدية خلال 11 شهراً من 2025    انتخاب الاستاذ بدر الدين الإدريسي نائبا لرئيس الاتحاد العربي للصحافة الرياضية    السكتيوي: التتويج باللقب يبقى الأهم    المديرية العامة للأمن الوطني.. الارتقاء بجودة منظومة الخدمات الرقمية العمومية    نشرة برتقالية: اضطرابات جوية مرتقبة    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    كأس العرب.. جمال السلامي يوضح الفرق بين طموح الأردن وأولويات المغرب    ماجد شرقي يفوز بجائزة نوابغ العرب    حريق يسلب حياة الفنانة نيفين مندور    البنك الألماني للتنمية يقرض المغرب 450 مليون أورو لدعم مشاريع المناخ    لأجل الوطن والأمل    تشابي ألونسو يحذر من مفاجآت الكأس أمام تالافيرا    الحكم السويدي غلين المثير للجدل يدير نهائي كأس العرب بين المغرب والأردن    مطالب بتدخل أخنوش لإنقاذ حياة معطلين مضربين عن الطعام منذ شهر ونصف    من فاس إلى آسفي... الكارثة ليست فقط قدرا بل مسؤولية وتعويض وحق في المعلومة    هولندا.. توقيف شخص للاشتباه في التحضير لتنفيذ عمل إرهابي    تدخل ينقذ محاصرين بثلوج بني ملال    الملك محمد السادس يبارك عيد بوتان        أكادير تحتضن الدورة العشرين لمهرجان تيميتار الدولي بمشاركة فنانين مغاربة وأجانب    وفاة الفنانة المصرية نيفين مندور عن 53 عاما إثر حريق داخل منزلها بالإسكندرية    هجومان للمتمردين يقتلان 4 أمنيين كولومبيين    "ترامواي الرباط سلا" يصلح الأعطاب    مديرية التجهيز تتدخل لفتح عدد من المحاور الطرقية التي أغلقتها التساقطات الثلجية    في حفل فني بالرباط.. السفيرة الكرواتية تشيد بالتعايش الديني بالمغرب    التنسيق النقابي بقطاع الصحة يعلن مقاطعة انتخابات ممثلي المهنيين في مجموعة صحية جهوية    الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بالرباط تدين عملية الهدم في حي المحيط والتهجير "القسري" للمهاجرين    توقعات أحوال الطقس لليوم الأربعاء    واشنطن توسّع حظر السفر ليشمل عددا من الدول بينها سوريا وفلسطين    تمارين في التخلي (1)    القضاء التجاري بالدار البيضاء يأمر بإرجاع المفصولين إلى العمل بفندق أفانتي وأداء أجورهم    مونديال 2026: ال"فيفا" يطلق تذاكر ب60 دولارا ل "المشجعين الأوفياء"    محكمة تلزم باريس سان جيرمان بدفع أكثر من 60 مليون يورو لمبابي        الفدرالية المغربية لمقاولات الخدمات الصحية.. انتخاب رشدي طالب رئيسا ورضوان السملالي نائبا له    منفذ "اعتداء بونداي" يتهم بالإرهاب    خلف "الأبواب المغلقة" .. ترامب يتهم نتنياهو بإفشال السلام في غزة    "بنك المغرب" يراجع فوائد القروض ويحضّر لتغيير طريقة التحكم في الأسعار ابتداء من 2026    موجة البرد القارس: مؤسسة محمد الخامس للتضامن تطلق عملية دعم لفائدة 73 ألف أسرة في 28 إقليما    عوامل مناخية وراء التقلبات الجوية التي يعرفها المغرب: "لانينيا" تُضعف المرتفع الأزوري والاحتباس الحراري يُكثّف التساقطات    إسبانيا تعتمد مسيّرة بحرية متطورة لتعزيز مراقبة مضيق جبل طارق    الدوزي ينسحب من أغنية كأس إفريقيا    تماثل للشفاء    ترامب يطالب BBC ب10 مليارات دولار تعويضاً عن تهمة التشهير    مركب نباتي يفتح آفاق علاج "الأكزيما العصبية"    التحكم في السكر يقلل خطر الوفاة القلبية    استمرار إغلاق مسجد الحسن الثاني بالجديدة بقرار من المندوبية الإقليمية للشؤون الإسلامية وسط دعوات الساكنة عامل الإقليم للتدخل    سلالة إنفلونزا جديدة تثير القلق عالميا والمغرب يرفع درجة اليقظة    المغرب: خبير صحي يحدّر من موسم قاسٍ للإنفلونزا مع انتشار متحوّر جديد عالمياً    "الأنفلونزا الخارقة".. سلالة جديدة تنتشر بسرعة في المغرب بأعراض أشد وتحذيرات صحية    سوريا الكبرى أم إسرائيل الكبرى؟    الرسالة الملكية توحّد العلماء الأفارقة حول احتفاء تاريخي بميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم    تحديد فترة التسجيل الإلكتروني لموسم حج 1448ه    موسم حج 1448ه.. تحديد فترة التسجيل الإلكتروني من 8 إلى 19 دجنبر 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لنركب القطارَ الفرنسي ولا يهمُّنا أن يتأخَّر
نشر في هوية بريس يوم 06 - 06 - 2015


هوية بريس – السبت 06 يونيو 2015
لا شك في أن من أبرز الأفكار الأساسية المُهيمنة على «الرؤية الاستراتيجية لإصلاح المدرسة المغربية» كما استمعنا لخطوطها وعناوينها الكبرى في العرض الذي قدمه عنها رئيس المجلس الأعلى للتعليم أمام الملك يوم 20 مايو 2015م وقرأناها في بعض وسائل الإعلام، إن لم تكن أهمَّها وأبرزَها من وجهة نظري على الأقل، هي الفكرة المتعلِّقة بالخُطة اللغوية التي يُطلَب من المدرسة المغربية، والتعليمُ المغربي بصفة عامة، اتّباعُها في كل المراحل التعليمية، وتُنتَطَر المصادقةُ عليها.
وهذه الخُطة هي التي أُطلِق عليها في المشروع اسمُ «هندسة لغوية جديدة». ودون الخوض في عدد من التفاصيل والموضوعات الأخرى التي قد نعود إليها فيما بعد، وبغضِّ النظر عن الطريقة التي قُدِمَ بها المشروع والحُجَج التي استُخدِمَت لتسويغه باستعمال مصطلحات تحتاج بدورها إلى مناقشة مستفيضة (التعددية اللغوية – التناوب اللغوي – تنويع لغات التدريس – الاستفادة من فرص متكافئة في التعليم – تعزيز التّمكُّن من اللغات… الخ)، فإن وجه الحقيقة الذي لا يمكن إخفاؤُه مهما تراكَمَ فوقه من أَصباغٍ ومساحيق، تتجلى ملامحُه في الملاحظات الأوّلية الآتية:
1 ترسيخ الحضورُ الفرنكفوني وهيمنة الفرنسية بشكل لم يسبق له مثيلُ في تاريخ المدرسة المغربية منذ فجر الاستقلال. فمنذ السنوات الأولى للاستقلال تمَّ وضعُ مخطَّط وطني لإحلال اللغة الوطنية محلَّ اللغة الأجنبية خُطوةً خُطوةً وتأخيرُ الشروع في تعليم الفرنسية إلى السنة الثالثة من السلك الابتدائي، ولم يُتراجَع عن هذا القرار إلا بعد صدور الميثاق الوطني للتعليم سنة 1999م الذي أوصى في دعامته التاسعة بأن «يُدرَج تعليمُ اللغة الأجنبية الأولى في السنة الثانية من السلك الأول للمدرسة الابتدائية، مع التركيز خلال هذه السنة على الاستئناس بالسَّمع والنُّطق».
وظل الأمرُ على ذلك في المدرسة العمومية إلى أن قُدِّم هذا المشروع الجديد المنبثق عن المجلس الأعلى للتعليم والمسمى بالرؤية الاستراتيجية، فأوصى بالشروع في استعمال الفرنسية (إلى جانب العربية والأمازيغية) منذ التعليم الأوَّلي والابتدائي. ومعنى ذلك أن الخطة الجديدة عادت بنا إلى مرحلة ما قبل الاستقلال لتُكرِّس فرضَ هيمنة الفرنسية منذ أول سنة من التعليم الأوّلي (أي: منذ مرحلة الحضانة والروض).
وإذا كان هذا هو ما تُطبِّقُه عَمليّاً مدارسُ التعليم الخصوصي والأجنبي بالمغرب منذ سنوات في تحدٍّ سافِر للقوانين الرسمية للدولة، فإن المشروع جاء اليوم لينبنَّى هذا الوضع الشاذّ ويُسبغ عليه الصفة القانونية والرسمية ويجعله ضرورياً في المدارس الخصوصية والعمومية على السواء. ولا شك في أن التبرير الذي أُعطي لتمرير هذه التوصية هو القولُ ب«استفادة المتعلِّمين، بفُرص مُتكافئة، من ثلاث لغات..». ومعنى هذا الكلام أن المجلس الأعلى أراد تسوية وضع المتعلّمين بالمدرسة العمومية بوضع أمثالهم في المدارس الخصوصية، علماً بأن هذه الأخيرة لا تأبه بتعليم العربية ولا الأمازيغية في مرحلة التعليم الأوَّلي، وتركّز بشكل أساسي على الفرنسية في بقية مراحل التعليم. وهذا في الحقيقة منطق غريب وتفكيرٌ مقلوبٌ. لأن المفروض أن تلجأ الدولة إلى إلزام المدارس الخصوصية بتطبيق المناهج الرسمية للدولة التي تضعها وفقَ رؤية استراتيجية كُلِّية للبلاد شامِلةٍ لكافة الجوانب الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية تُسهِمُ في وضعها والاتفاق عليها كلُّ مكوِّنات المجتمع، وليس العكس: وهو إلزام الدولة بتطبيق مناهج المدرسة الخصوصية التي لا تنظُر إلى لغة التدريس إلا من زاوية ضيّقة ومحدودة ونَفعية تُراهن في الغالب على الربح المادّي دون غيره، ولطالما طالبنا الأجهزة الرسمية المسؤولة عن التعليم بالتدخّل لحماية أطفالنا من الغزو اللغوي الأجنبي الذي تفرضُه المدارسُ الخصوصية والأجنبية على أطفالنا منذ مرحلة الروض. ولاسيما أن أحسن طريقة لتربية النشء على حبّ لغات أوطانهم والتشبُّث بها، هو البدءُ بغَرسها قبل غيرها في المراحل الأولى من سنوات التَّمدرس، ولا يُشرَع في تدريس أية لغة أجنبية مهما كان وزنُها إلا بعد تجاوز (مرحلة الإغماس) كما يسميها الأستاذ الفاسي الفهري.
2 التراجُع عن مبدإ تدريس كل المواد (بما فيها المواد العلمية والتقنية) في الابتدائي والثانوي باللغة الوطنية الأولى الأكثر أهلية، وهي العربية، مع المحافظة على تعليم لغةٍ أجنبية أو أكثر باعتبارها لغاتٍ للتفتُّح الثقافي والتواصُل الخارجي والبحث العلمي في المراحل اللاحقة ولكل غاية عملية مفيدة. وإعمالاً لهذا المبدأ تقرَّر منذ سنة 1970م -بتوجيهات ملكية إثر مناظرة إفران الشهيرة- تدريسُ الفلسفة والمواد الاجتماعية بالعربية.
واستِكمالاً لذلك أُضيف إليه قرارٌ لاحِق أواخرَ السبعينيات يقضي بتدريس بقية المواد العلمية بالعربية أيضًا، مع الزيادة تدريجياً في حصص اللغات الأجنبية ولاسيما في مرحلة الثانوي التأهيلي. وهذا القرار الأخير اتُّخِذ أيضاً في مجلس وزاري بتاريخ 30 نوفمبر 1978م برئاسة الملك الحسن الثاني رحمه الله وبتوجيهاته الخاصة وليس بقرار فردي صادر عن وزير التعليم كما يُشاع. ومن ذلك الحين لم يطرأ شيءٌ يمسّ مبدأ تلقين المواد والعلوم كافة باللغة الوطنية. بل لقد أقرَّته أيضاً توصياتُ اللجنة الوطنية المختصّة بدراسة قضايا التعليم المنبثقة عن البرلمان ( سنة 1994م)، كما أقرَّه نصُّ الميثاق الوطني للتربية والتكوين الصادر سنة 1999م.
لكن التراجُع بدأ أولَ الأمر بطريقة مُلتوية في السنة الماضية، حين تمَّ إقحام فكرة البكالوريا الدولية التي قامت ضدها حملةٌ واسعة، ثم بطريقة مكشوفة الآن من خلال مشروع المجلس الأعلى للتعليم الذي أوصى في الفقرة الخاصة بالهندسة اللغوية الجديدة «بالإعمال التدريجي للتناوُب اللغوي… وذلك بتعليم بعض المضامين والمَجزوءات، في بعض المواد، باللغة الفرنسية ابتداءً من الإعدادي، والإنجليزية ابتداءً من الثانوي التأهيلي». والمقصود بهذه المضامين والمَجزوءات بطبيعة الحال، هو المواد العلمية. ولقد استُعمِلت عبارةُ «التناوب اللغوي» للتخفيف من وقع الصدمة ولَفِّ الفكرة التراجعية بغطاءٍ حريري لا يخلو من نُعومة وإغراء بقصد تمريرها بعد أن كان مبدأُ تدريس اللغات الأجنبية خلال هذه المراحل من التعليم باعتبارها لغاتٍ أجنبية لا لغاتِ تلقينٍ، قد تقرّر منذ خمسة وثلاثين عاماً على الأقل.
3- من خلال المشروع المقدَّم يتضح أن المجلس الأعلى لم يتجاوب بأية صفة من الصفات مع كل النداءات والمؤتمرات والندوات والكتابات والصرخات التي أطلِقت طيلة العقود السابقة مُطالِبةً بضرورة الانتقال التدريجي نحو استعمال اللغة الوطنية في تلقين المواد العلمية في السلك العالي والجامعي كلما أمكنَ ذلك، واتخاذ كل الإجراءات والتدابير التي تُحقِّق هذا المَطمح الوطني، لأسباب كثيرة وضَّحناها مع فئة كبيرة جداً من العلماء والمثقفين الذين كتبوا نصوصاً رصينة في الموضوع داخل المغرب وخارجه. وهكذا نجد هذا المشروع يتراجع خطوة أخرى إلى الوراء حين لم نجد فيه أدنى إشارة لما سبق أن أوصى به الميثاق الوطني (1999م) الذي جاءت في دعامته التاسعة فقرات عديدة تؤسِّس للوصول لهذه المرحلة الضرورية وتشجِّع عليها. منها على سبيل المثال الفقرة التي تقول: «يتمُّ تدريجياً خلال العَشرية الوطنية للتربية والتكوين فتحُ شُعَبٍ اختيارية للتعليم العلمي والتقني والبيداغوجي على مستوى الجامعات باللغة العربية مُوازاةً مع توفُّر المرجعيات البيداغوجية الجيدة والمُكوِّنين الكُفاة». ومنها الفقرة التي نصُّها: «يستلزمُ الاستعدادُ لفتح شُعَب للبحث العلمي المتطوّر والتعليم العالي باللغة العربية إدراجَ هذا المجهود في إطار مشروع مستقبلي طموح ذي أبعاد ثقافية وعلمية معاصرة..»، ومنها أيضاً الفقرة التي تقول: «تُحدِث الجامعاتُ ومؤسساتُ التعليم العالي بصفة مُمنهَجة دروساً لاستدراك تعلُّم اللغات بما فيها العربية، مقرونة بوحدات أو مجزوءات علمية وتكنولوجية وثقافية تستهدف إعطاء تعلّم اللغات طابعه الوظيفي». هذا بالإضافة إلى قرار إحداث أكاديمية محمد السادس للغة العربية التي كان من المقرَّر فتحُها في السنة الأكاديمية 2000-2001م بغاية الإعداد والتهيء بكل ما يلزم لتوفير الشروط والآليات والأُطر الضرورية للبدء في استعمال اللغة الوطنية في تلقين المواد العلمية والتقنية بالجامعة.
فنحن، إذن، بعد أن كنا نُسائل الوزارة الوصية على التعليم العالي عن الأسباب التي جعلتها تتغاضى عن تطبيق توصيات الميثاق الوطني وقراراته بخصوص هذه النقطة، أصبح من واجبنا الآن أن نسأل: هل معنى سُكوت (الرؤية الاستراتيجية) عن هذه النقطة سُكوتاً تاماً، أنها وضَعت حداً نهائياً للموضوع، وأقفلت بابَ مناقشته بلا رجعة؟
4- والملاحظة الرابعة تتعلق بوضع الإنجليزية. فمن الواضح أن المشروع المقترح لم يَستَجب بالشكل المطلوب لكل النداءات والأصوات النزيهة التي انطلقت منذ سنوات وما فتئت تُطالب بتعويض الفرنسية بالإنجليزية تدريجياً على اعتبار مكانتها العلمية الأولى في العالَم وأهميتها لمستقبل أبنائنا سواء في مجالات العمل أم في تنمية مستوى البحث العلمي. وعلى الرغم من أن المشروع أقرَّ تدريسها منذ السنة الإعدادية الأولى، واستعمالَها في تلقين بعض المضامين والمجزوءات ابتداء من السنة التأهيلية الأولى، إلا أنه عمليا تراجَع خُطوةً أخرى مقارنة مع الميثاق الوطني سنة 1999م الذي أوصى بالشروع في تعليم الإنجليزية منذ السنة الخامسة من الابتدائي.
5- لقد قُدِّمت (الهندسة اللغوية الجديدة) -كما سُمِّيت في المشروع- تحت عنوان لا يخلو من إغراء أيضاً وهو: «جودة التعليم». وإذا عرفنا حجم التراجع الذي طالَ العربيةَ وحدها، وحجم التقدم الذي حقَّقته الفرنسية على كل المستويات، استنتجنا بكل سهولة ووضوح أن المجلس تبنَّى -للأسف الشديد- تلك الأطروحة التي طالما ردّدتها جماعةُ الضغط الفرنكفوني وهي: تحميلُ اللغة العربية مسؤولية القِسط الأكبر مما عرفته المدرسةُ العمومية من مظاهر الفشل والأزمة التي يعلمها الجميع، وأنه من أجل تحقيق الجودة لا بد من التخلّي قدرَ الإمكان عن اللغة العربية والرجوع بقوة إلى توسيع قاعدة الفرنسة، وكأن عصرَ سيادة الفرنسية كان أزهى عصور التعليم بالمغرب.
6- لقد بادر المجلس الأعلى للتعليم إلى الإعلان عن (هندسته اللغوية) في زمن قياسي، وأصبح يُطالِب بسنِّ قانون يُلزِم الجميع بتطبيقها لمدة لا تقل عن خمسة عشر عاماً. والمفروض أن الذي تُسنَد إليه -بالدرجة الأولى- مهمةُ وضعِ تخطيط لغوي في المغرب بعد عرضه على كل الفاعلين والمختصّين والمهتمين ومناقشته مناقشةً عميقة ومُقنِعة، والقيام بتحديد وظائف كل لغة من اللغات المُستعمَلة في البلاد، وطنية وأجنبية، وحَجمِ استخداماتها ومجالاتها، وتنظيم شكل التعدّدية اللغوية بطريقة متوافَقٍ عليها بحيث تضمن المكانةَ المتميّزة للغة الوطنية الأولى وتجنُّب المجتمع ويلات الصراعات والحروب الاجتماعية والثقافية، هو المجلسُ الوطني للغات والثقافة المغربية المنصوص عليه في الدستور الجديد، بتعاون مع كل الأجهزة والمؤسسات الأخرى بما فيها مجلس التعليم الأعلى. أما الآن، وقد أخذ مجلسُ التعليم المبادرة، وسبَق إلى وضع هذا التخطيط / الهندسة بشكل استعجالي وانفرادي، في أكبر حُقول الاستعمال اللغوي وهو التعليم بكافة مراحله وتخصّصاته، فمعنى ذلك أن المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية أصبح مُحاصَراً ومقيَّدَ الأيدي بقرارات قَبلية قد تُصبِح مُلزِمةً في حالة تحويلها إلى نصّ قانوني، وأن جزءاً أساسياً من اختصاصه قد سُلِبَ منه، وحُسِمَ فيه ولم يعد له الحقُّ في تداوُله. وحتى مسألة تنمية العربية والمحافظة عليها التي أناطَها الدستور بالمجلس الوطني للغات سوف تُصبِح متعذِّرةً أو متعثّرةً عملياً وواقعياً، لأن أهم مجال يمكن أن تُنمَّى فيه اللغةُ ويُحافَظَ عليها، هو مجالُ التعليم الذي لم يعد لأحد أو جهاز آخر أن يتدخَّل فيه بعد تحصينه وتسييجه بهذا التصميم الهندسي أو هذه الخُطة التي يُطالب بصياغتها في نص قانوني.
خلاصة القول، هي أن المستفيد الوحيد من هذا المشروع هو اللغة الفرنسية وحدها لا غير. وذلك على حساب العربية أولاً والإنجليزية ثانيا. فالعربية أصبحت تُزاحمها لغةُ موليير أكثرَ من ذي قبل بفرض تعلُّمها منذ مرحلة ما قبل سنِّ التمدرس العادي، والتراجُع عن استعمال العربية وحدها في تلقين العلوم أصبح واضحًا بعد أن أعيدت الفرنسةُ إلى هذا القطاع التعليمي بدءاً من السنة الإعدادية الأولى، أما استعمالُها في المعاهد العلمية والتقنية الجامعية، فذلك حلُم سيتأجّل، ويتأجّل إلى أن تنساه الأجيالُ أو يتبخَّر فلا يبقى له حسٌّ ولا أثَر. أما نداء العلماء والمثقفين وكلّ ذوي الخبرة بضرورة الإسراع بالتحوّل التدريجي من الفرنسية إلى الإنجليزية، فهو أيضاً، سيظلّ للأسف صيحةً في واد.
بقي أن نضيف: لقد أصبح على الجميع أن يستوعبَ الدرس الآن، رغم أننا قلنا هذا الكلام وكرَّرناه مراراً من قبل، وهو أن الضجة المفتعَلة التي أقامها أصحابُ الدارجة والضُّغوط التي مارسوها خلال السنتين الماضيَّتين، لم تذهب سُدًى، بل لقد أَتَت أُكلَها وبلَغت أهدافَها الحقيقية.
فمن كان يظن أن الهدف من تلك الضجّة هو إحلال الدارجة محل الفصحى لغاية نبيلة تربوية وبيداغوجية لا غير، فقد خاب حَدسُه وتوقُّعه، لأن الدافع الحقيقي لم يكن حبَّ الدارجة بكل تأكيد، وإنما الهدف الأول والأخير كان هو شَغل الناس بهذه القضية التافهة من أجل تحقيق ما أبعد وأهم ألا وهو العودة بالبلاد إلى مرحلة الفرنسة من جديد، والارتماء في أحضان الفرنكفونية التي يبدو كأنها أصبحت قدراً محتوماً على كل الشعوب التي استعمَرتها فرنسا ولو لبضعة عُقود، أو كأنها صخرةُ سيزيف لا تنتهي مِحنتُه معها، فكلما رفَعَها إلى الأعلى عادت به إلى السَّفح.
وذلك على الرغم من وعي الجميع -بما فيهم الفرنسيون والفرنكفونيون أنفسهم- بتخلُّف الفرنسية وتأخّرها عن ركب اللغات. ها هي الأقدارُ تسخر منا، ولسانُ حالها يقول: كُتِبَ عليكم أن تسيروا وراء فرنسا حتى ولو هَوَتْ بها الريحُ في مكانٍ سحيق، وأن تدافعوا عنها وتَحموها أكثر من دفاعها عن نفسها. أما أن تتأخّروا عن موعدكم مع التاريخ، فذلك لا يهم. المهم أن تركبوا القطار الفرنسي، ولا يهم أن يصل، أو لا يصل.
* أستاذ العلوم اللغوية – بجامعة محمد الخامس بالرباط.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.