استهزأ بعض اللادينين من دخول كورونا إلى مكةوالمدينة، وتوقيف الصلاة بالحرمين الشريفين، وسخروا من النصوص النبوية التي تؤكد عدم دخول الطاعون إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتعليقا على هذا الكلام المستفز كشف الدكتور رشيد بنكيران أنه "ليس كل وباء طاعونا". وقال الباحث في العلوم الشرعية "استشكل بعضهم وصول فيروس كورونا وهو وباء إلى مكةالمكرمة أو المدينة النبوية ، ورأوا في ذلك طعنا في حديثين مخرجين في صحيحي البخاري ومسلم، وهما ، «لاَ يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ الْمَسِيحُ وَلاَ الطَّاعُونُ»، وحديث «الْمَدِينَةُ يَأْتِيهَا الدَّجَّالُ، فَيَجِدُ الْمَلاَئِكَةَ يَحْرُسُونَهَا، فَلاَ يَقْرَبُهَا الدَّجَّالُ -قَالَ- وَلاَ الطَّاعُونُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ» رواه البخاري ومسلم. والأمر ليس كذلك، فالحديثان ينفيان دخول الطاعون إلى المدينة النبوية بالتنصيص، والطاعون ليس وباء، فالطاعون أخص من الوباء، فكل طاعون وباء وليس كل وباء طاعونا، ونفي دخول الأخص الذي هو الطاعون لا يستلزم نفي الأعم الذي هو الوباء. وسأنقل لكم كلاما للحافظ ابن حجر من موسوعته فتح الباري شرح صحيح البخاري، والكلام عبارة عن خلاصة لتحقيق علمي بعدما نقل نقولات كثيرة لعلماء على اختلاف تخصصهم؛ لغويين، فقهاء، أطباء، وسبرها ونخلها، فقال رحمه الله: "قلت (أي ابن حجر): فهذا ما بلغنا من كلام أهل اللغة وأهل الفقه والأطباء في تعريفه (أي الطاعون)، والحاصل أن حقيقته: ورم ينشأ عن هيجان الدم، أو انصباب الدم إلى عضو فيفسده، وأن غير ذلك من الأمراض العامة الناشئة عن فساد الهواء يسمى طاعونا بطريق المجاز لاشتراكهما في عموم المرض به أو كثرة الموت. والدليل على أن الطاعون يغاير الوباء ما سيأتي في رابع أحاديث الباب أن الطاعون لا يدخل المدينة، وقد سبق في حديث عائشة «قدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله» وفيه قول بلال «أخرجونا إلى أرض الوباء» وما سبق في الجنائز من حديث أبي الأسود قدمت المدينة في خلافة عمر وهم يموتون موتا ذريعا، وما سبق في حديث العرنيين في الطهارة أنهم استوخموا المدينة، وفي لفظ أنهم قالوا: إنها أرض وبئة. كل ذلك يدل على أن الوباء كان موجودا بالمدينة وقد صرح الحديث الأول بأن الطاعون لا يدخلها فدل على أن الوباء غير الطاعون وأن من أطلق على كل وباء طاعونا فبطريق المجاز". فتح الباري لابن حجر (10/ 180). وأوضح د.بنكيران في السياق ذاته أنه "سبق إلى التفريق بين الطاعون والوباء العلامة ابن قيم الجوزية (ت: 751ه) في كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد، وذكر هناك كلاما نفيسا يحسن الرجوع إليه والاستفادة منه، ولولا خشية الإطالة لنقلته بتمامه، ومحل الشاهد إلى ما أشرت قوله رحمه الله: "ولما كان الطاعون يكثر في الوباء، وفي البلاد الوبيئة، عبر عنه بالوباء، كما قال الخليل: الوباء الطاعون. وقيل: هو كل مرض يعم، والتحقيق أن بين الوباء والطاعون عموما وخصوصا فكل طاعون وباء، وليس كل وباء طاعونا، وكذلك الأمراض العامة أعم من الطاعون فإنه واحد منها، والطواعين خراجات وقروح وأورام رديئة حادثة في المواضع المتقدم ذكرها. اه (4/ 35). تنبيه: لفت انتباهي في حديث أنس زيادة مهمة وهي الاستثناء «وَلاَ الطَّاعُونُ ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ» ومقتضى دلالة هذا الاستثناء أن أمر دخول الطاعون إلى المدينة معلق بمشيئة الله، وقد اختلف العلماء في هذا الاستثناء على ماذا يعود هل الطاعون لوحده أم على الدجال والطاعون معا؟ قال محمد أنور الكشميري الهندي (المتوفى: 1353ه): «ولا الطاعون إن شاء الله تعالى»، فكلمة الاستثناء تتعلق بالطاعون فقط، لا بالدجال، فإنَّ الشقي الدجال لم يدخلها، ولن يدخلَ حتى يلجَ الجملُ في سَمِّ الخِيَاط، فإن اطلعتَ في لفظ على كلمة الاستثناء مع عدم دخول الدَّجال أيضًا، فاعددْه من تقديم الرواة، وتأخيرهم، وهي بالحقيقة بالطاعون" اه. فيض الباري على صحيح البخاري (3/ 316). وقد جاء في كتاب مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (9/ 539): "وقد اختلف في هذا الاستثناء فقيل هو للتبرك فيشملهما، وقيل هو للتعليق وأنه يختص بالطاعون ومقتضاه جواز دخول الطاعون المدينة". اه وختم الدكتور المتخصص في مقاصد الشريعة تدوينة له على الفيبوك بقوله "وقد أرود الإمام البخاري حديث أنس في كتاب التوحيد أيضا وترجم له: (بابٌ فِي المَشِيئَةِ والإرَادَةِ {وَمَا تشاؤون إِلَّا أَن يَشَاء الله} ) أي أن المشيئة والإرادة تأتي بمعنى واحد، وهي صفة متعلقة بأحد الطرفين، أو صفة مخصصة لأحد طرفِي الْمُقدر بالوقوع، والمراد أن دخول الطاعون من عدمه إلى المدينة وهما كلا الطرفين معلق بمشيئة الله وإرادته، فإن دخل فبمشيئته وإن لم يدخل فبمشيئته، ولا معقب لحكمه، ومطابقة حديث أنس لتبويب البخاري هي قوله- صلى الله عليه وسلم -: "إِن شَاءَ الله".