كثير من القضايا يشتد حولها الخلاف بين الإسلاميين والعلمانيين، وقد تبدو في بادئ الرأي أنها من قبيل القضايا الخلافية أو الاجتهادية -إن سلمنا جدلا بذلك- التي تتسع لها الأنظار، وتتعارك من أجلها الأقران، ويتناظر فيها أبناء الزمان، ولكن الحقيقة بخلاف ذلك. ثم إنه لمن المؤسف أن تجد بعض الغيورين على دينهم يناقشون العلمانيين في بعض مواقفهم من بعض القضايا الدينية، مناقشة الفروع بعيدا عن أصولها، أو بعيدة عن أصل أصولها، ولب جوهرها وهي قضية الحاكمية لمن لله تعالى خالق الكون؟ أم للبشر المخلوقين؟ أو بتعبير آخر ينبغي تحرير الكلام عن سؤال المرجعية هل هي للإسلام أم لغيره. لقد كان من الواجب على العلمانيين، إن كانوا صادقين مع أنفسهم، ولا إخالهم ذلك، أن يعلنوابصراحة تامة هل يقبلون بالإسلام دينا من عند الله تعالى ارتضاه لعباده، وهل يرضون بالله ربا وبالإسلام دينا، وبسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا أم لا؟ دون نفاق ولا لف ولا دوران. فليكونوا صرحاء واضحين، فليقولوا للمجتمعات الإسلامية إننا لا ندين بالدين الإسلامي ولا نرتضيه، وإنما شريعتنا وديننا المواثيق الدولية لها نقوم، وبها نقعد، وعليها نعتمد ومن أجلها نناضل، وعليها "نحيا ونموت". لأنه لا يعقل أن يدعي العلماني الإسلام قولا، ويرفض أحكامه جهرا، ويتخذ دعاته وأهله هزءوحربا. ثم نناقشه في الإرث، والمساواة، وحرية الفكر والعقيدة وهلم جرا من القضايا والمسائل المرتبطة قطعا بأصلها الأول، وكلّيها الأول وهو التسليم بالخالقية والحاكميةلله سبحانه وتعالى. المغرب والحكم بالشريعة باختصار شديد كانت للشريعة كلمة الفصل في كل شيء، بالرغم ما قد يحصل للمجتمع من ضعف وخاصة عند انتقال الحكم من دولة إلى أخرى، تتغير الدول من مكانها، وتبقى الشريعة ثابتة برسومها وأحكامها، لا يطرأ عليها تبديل، ولا يلحقها تغيير، ثابتة في مصدرها،متغيرة في اجتهادات فقهائها، مواكبة لكل مستجدات وتغيرات عصرها، ولا وجدنا أحدا أعلن تبرمه منها، أو سولت له نفسه محاربتها.والناظر في تاريخ المغرب منذ أن دخل الإسلام أرضه، وتأسست أول دولة به، سيجد أنه ما تلكأ أهله يوما في تحكيم الشريعة الإسلامية، ولا تنكبوا سبيلها القويم، فقد ظلت لها السيادة الكاملة والمرجعية العليا، في كل شؤون الدولة، أو الدول التي تعاقبت على حكم المغرب، بها ينصب الحاكم ويبايع، وبها يقضي القاضي في مجلسه، وبها يفتي الفقيه المفتي في ما يجد للناس من نوازل وأقضية، وبها يتعامل الناس في أفراحهم وكافة شؤونهم الاجتماعية. فلمادخل الاستعمار الفرنسي الخبيث، أزاح الشريعة عن دواليب الدولة، واستبدلها بقوانينه الجائرة، ونظمه الفاسدة، وجعل على ذلك نخبة رأسها عنده وذيلها في المغرب، نخبة متغربة صاغها وفق عقليته وفلسفته المادية، للحياة والإنسان والكون، بها استتب له تطويع البلاد، فجعلها تابعة له، يستغل خيراتها، ويهيمن على ثرواتها، ويتدخل في قضاياها. هذه النخبة أصبحت منذ فجر الاستقلال متحكمة في دواليب الدولة، تستأسد على المغاربة بالمواثيق والقوانين الدولية، متنكرة لتاريخ المغرب، رافضة لتحكيم الشريعة، بل تحاربها، ولا تزال تطالب إلى يومنا هذا بإلغاء ما تبقى منها ولو نزرا قليلا. مع الأسف أن هؤلاء شرذمة قليلون وللمؤمنين غائظون، وللشريعة ناكبون، وللدولة مشاكسون. وإن أسوأ ما وصلت إليه هذه النخبة العلمانية اللادينية، بوقاحة وخزي، أن تطالب بإباحة الزنا واللواط والشذوذ الجنسي، وإلغاء عقوبة الإعدام، والمساواة في الإرث، وعدم تجريم الخيانة الزوجية وهلم جرا من الرعونات والأدران التي تمجها الفطر السليمة، وتأنف منها العقول السديدة. لم تعد هذه الفئة العلمانية المتغربة اللادينية يهمها شأن العباد في معاشهم، من صحة جيدة، وتعليم راق، وشغل متوفر، ومسكن لائق…ولم يعد يعنيها مقاومة الفساد والاستبداد الذي أرزأ الأمة في وجودها الحاضر والمستقبل، وعطل نهضتها الحضارية، وإنما أصبح شغلها الشاغل، وسهمها الجائر مصوبا تجاه الشريعة الإسلامية، ومناكفة قضاياها الدينية، فهذا هو مشروعها المجتمعي الذي تبشر به، محاربة الشريعة، ومصادرة الفضيلة، من خططملغومة إلى مطالب مشؤومة. ولا غرو أن نجد العلامة علال الفاسي رحمه الله ممن تصدى -في وقت مبكر- لهذه الشرذمة المتغربة المتفرنسة، النابذة للشريعة، سليلة الاستعمار الفرنسي الصليبي، قال رحمه الله: "لم يحصل أن فصل المسلمون عن أنفسهم في عصر من العصور كما فصلوا اليوم بسبب الاستعمار الأجنبي الذي هاجم ديارهم وأصابهم في ثرواتهم المادية، ولم يكتف بذلك حتى هاجمهم في لغاتهم وثقافتهم وصاغ منهم كائنات على صورته، تردد ما يقول، وتعمل بما يوحي به دون أن تدرك أنها تعمل ضد نفسها وتحارب كيانها.. لقد أصبح قسم من المسلمين -وجلهم من المسؤولين في الحكومات الإسلامية- يقومون مقام المستعمر في الذب عن الفكر الأجنبي المتمثل في القوانين المستحدثة، وكيل الطعن المتوالي على الفقه الإسلامي ورجاله ودعاة العودة إليه. بينما يقف أنصار الشريعة وعلماؤها موقف المشدوه، ضعيف السلاح لأنه لا سلطة لهم ولا حول ولا قوة يواجهون بها هذا الزحف الاستعماري المتستر باسم قادة المسلمين الذين وصلوا للحكم باسم شعوبهم المسلمة ونضالها في سبيل الحرية" (دفاع عن الشريعة:11-12). "وفي المغرب لم يكن يخطر ببال أحد من المناضلين الأولين، أن القانون الذي وضعه الفرنسيون لمقاصد استعمارية، سيصبح المتحكم في كل النشاط الإسلامي في المغرب، فبمجرد ما أعلن الاستقلال وتكونت الحكومة الأولى، أصدر جلالة المرحوم محمد الخامس أمره بتأسيس لجنة لتدوين الفقه الإسلامي استعدادا لجعله القانون الرسمي للدولة في جميع المحاكم التي أخذت تسير في طريق التوحيد. ولم يكن يخطر ببال جلالته ولا ببالنا نحن أعضاء لجنة التدوين الذين شرفهم جلالته بتعيينهم لأداء هذه المهمة أن عملنا سيقتصر على مجرد الأحوال الشخصية، والدليل على ذلك أننا اشتغلنا في قسم الأموال بعد إنجازنا للأحوال، ولكن قسم التشريع بالكتابة العامة الذي يشرف عليه لحد الآن فنيون فرنسيون أوقف سير التدوين في بقية أبواب الفقه الأخرى… ولكن الأمر جرى بعكس هذا فقد استقر الوضع على إبقاء دار لقمان على ما هي عليه." (دفاع عن الشريعة:12). هكذا رصد علال الفاسي بداية التحول الخطير في تاريخ المغرب الحديث، بداية المد العلماني، وعلمنة مؤسسات الدولة، وإقصاء الشريعة وتهميشها، واختزالها في قضايا الأحوال الشخصية، ولم ينفع في ذلك أن يقر دستور الدولة بإسلامية الدولة، فقد أصبح مثل هذا الفصل القانوني عبارة عن شعار بدون جدوى، وخطاب من غير فحوى، أشبه بالمسكنات التي تدغدغ مشاعر المسلمين، وتجاملهم. ونحن هنا لا ننكر تلك الجهود المضنية، والنضالات المخلصة لعلماء المغرب، للمطالبة بأن تسود الشريعة الإسلامية، فتصبح لها الريادة والقيادة، والمرجعية العليا، ونبذ قوانين الأجنبي، والتخلص من هيمنته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والتعليمية. ونذكر من هؤلاء العلماء: علال الفاسي، وادريس الكتاني، وعبد الله كنون، ومحمد الحجوي الفاسي، والمختار السوسي، وغيرهم كثير، رحمهم الله جميعا. بعد هذا النضال لهؤلاء العلماء، ازداد الأمر اليوم سوء، واشتد واحتد، أمام الغطرسة العلمانية المدعومة خارجيا، حتى أصبحت المطالبة بمراجعة القوانين المخالفة للشريعة، وتحكيم الشريعة، والرجوع إلى مبادئها السامية ومقاصدها النبيلة بعيد المنال على مستوى النخب، وإن كان في الحقيقة هو المطلب الذي يرتضيه الشعب المغربي، لو فتح أمامه استفتاء نزيه وشفاف، فلن يبتغي عن الشريعة بدلا. الحاكمية لله تعالى أصل الأصول فالذي لا يسلم لله تعالى في الأمر والتشريع، لا يسلم له عز وجل في الخلق والتكوين، ولو ادعى ذلك بلسان مقاله، ولكن حقيقة حاله تكذب ذلك. لأجل ذلك قال تعالى: "ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين." [الأعراف54] ولما خلق الله تعالى آدم عليه السلام، أتبع ذلك بالأمر والنهي، قال تعالى: "وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ" [البقرة:35] حيث أمره أن لا يأكل من الشجرة، وفي ذلك دليل قوي على وحدة المصدر، واتحاد الخلق والأمر.من المسلمات والبديهيات عند المسلمين أن الحكم لله تعالى، فلا جرم أنه إذا كان سبحانه وتعالى هو الخالق، فإنه يتعين أن يكون هو الحاكم، وهو الآمر، وهو المشرع لا غيره البتة، لا كما يزعم بعضهم أن الإسلام عقيدة وقيم فقط. هذه مسلمة عقلية بديهية، لأن القدرة على الخلق والإبداع الذي يحار العقل في فهمه، وإدراك كنهه، والوقوف على أسراره، تستوجب حتما القدرة والإعجاز على التشريع. وهذه القضية من المباحث النفيسة التي عني بها الأصوليون، ووضحوها وبينوها بيانا شافيا، وجعلوها من مباحث الحكم الشرعي، فتطرقوا في مصنفاتهم الأصولية إلى أركان الحكم الشرعي، فحصروه في أربعة أركان، وهي: الحكم والحاكم والمحكوم عليه والمحكوم فيه، وقد بسطوا الكلام عنها، ووفوا في ذلك. ولا يخفى أن القرآن الكريم أكد بصيغة الجزم، المقتضية للوجوب، على الرجوع إلى أحكام الله تعالى، والرضا بها، والتحاكم إليها، لأنها من لدن حكيم خبير، فالمسلم الحقيقي من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، فمقام الرضا مقام الإيمان والتسليم بكل ما يأتي من عند الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. من تلك الآيات قوله تعالى: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا"[لنساء:60-61]. قال الحافظ ابن كثير: "هَذَا إِنْكَارٌ مِنَ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى مَنْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْأَقْدَمِينَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُرِيدُ التَّحَاكُمَ فِي فَصْلِ الْخُصُومَاتِ إِلَى غَيْرِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، كَمَا ذُكِرَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّهَا فِي رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَرَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ تَخَاصَمَا، فَجَعَلَ الْيَهُودِيُّ يَقُولُ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ مُحَمَّدٌ. وَذَاكَ يَقُولُ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ. وَقِيلَ: فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، مِمَّنْ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ، أَرَادُوا أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى حُكَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ" (تفسير ابن كثير، دار طيبة الخضراء، 1/793). وقال الشيخ رشيد رضا: "وَمَنْ قَصَدَ التَّحَاكُمَ إِلَى أَيِّ حَاكِمٍ يُرِيدُ أَنْ يَحْكُمَ لَهُ بِالْبَاطِلِ وَيَهْرُبَ إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ فَهُوَ مُؤْمِنٌ بِالطَّاغُوتِ، وَلَا كَذَلِكَ الَّذِي يَتَحَاكَمُ إِلَى مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ يَحْكُمُ بِالْحَقِّ، وَكُلُّ مَنْ يُتَحَاكَمُ إِلَيْهِ مِنْ دُونِ اللهِ وَرَسُولِهِ مِمَّنْ يَحْكُمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ فَهُوَ رَاغِبٌ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، وَذَلِكَ عَيْنُ الطَّاغُوتِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الطُّغْيَانِ الْكَثِيرِ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا مَا يَقَعُ كَثِيرًا مِنْ تَحَاكُمِ الْمُتَخَاصِمِينَ إِلَى الدَّجَّالِينَ كَالْعَرَّافِينَ وَأَصْحَابِ الْمَنْدَلِ وَالرَّمْلِ وَمُدَّعِي الْكَشْفِ، وَيَخْرُجُ الْمُحَكَّمُ فِي الصُّلْحِ، وَكُلُّ مَا أَذِنَ بِهِ الشَّرْعُ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ" (تفسير المنار 5/181). ومن ذلك أيضا: -قوله جل جلاله: "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا" [الأحزاب:36]. -وقوله سبحانه وتعالى: "إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ" [الأعراف54]. -وقوله تعالى: "قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ" [الأنعام:57]. -وقوله عز وجل: "وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ" [الأنعام:61-62]. -وقوله سبحانه وتعالى: "مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ"[يوسف40]. -وقوله تعالى: "وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ"[القصص:70]. -وقوله عز وجل: "وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ"[القصص:88]. -وقوله تعالى: "وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ"[الأعراف:87]. -وقوله سبحانه: "أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ"[التين:8]. -وقوله جل جلاله: "وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ" [المائدة:48]. أبعد هذا البيان الرباني، يحق لأحد كائنا من كان أن يستقوي بالمواثيق والقوانين الدولية، لاسيما فيما يخالف الشريعة قطعا، ولا ينسجم مع مبادئها وروحها، وشرائعها ومقاصدها، فيطالب بتقنين الفواحش، ورفع تجريمها؟ إنه لشيء عجاب أن يحدث هذا في بلد ينص دستوره على أن "المملكة المغربية دولة إسلامية، ذات سيادة كاملة…كما أن الهوية المغربية تتميز بتبوإ الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها" (انظر تصدير الدستور)، وأن "الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية" (الفصل3) وأن "الملك أمير المؤمنين، وحامي حمى الملة والدين…" (الفصل41). إن مصداقية الفصل الثالث من الدستور، ومصداقية صدارة الدين الإسلامي، تكمن في إعادة النظر في كل القوانين التي تخالف الشريعة الإسلامية، والعمل على إبطالها وإقبارها، وإلا لم يعد القول بصدارة الدين الإسلامي قيمة، ولم ينفع بذلك وجود فصل يقر بذلك، دون أي جدوى أو نفع على أرض الواقع. نعم نحن ندرك أن الغرب وأذنابه العلمانيين سيقّف شعرهم، فيمتشقون حسام الكيد، ويمتطون صهوة الخداع والتضليل، وكيل التهم، وسيعتبرون هذا رجعية وتخلفا وتقهقرا، لكن رجعية إلى الفضيلة خير من الارتماء في رعونات الرذيلة. نقر بحجم الضغوطات الخارجية، ومع ذلك فالرجوع إلى الشريعة الإسلامية، هو أوبة إلى الله، واصطلاح مع أحكام الله، واعتزاز بالقيم والمبادئ التي يدين بها الشعب المغربي، وتحقيق للهوية المغربية الأصيلة، ونبذ للتبعية والذوبان في أحضان الأجنبي، الذي لم نرَ منه سوى الضلال والفساد، والتخلف، ونهب الخيرات وإفساد العباد، وأعانه على ذلك قوم آخرون، من بني جلدتنا، يتكلمون بألسنتنا. على أن الرجوع إلى تحكيم الشريعة الإسلامية يحتاج إلى تربية وتزكية إيمانية، وتوبة وأوبة، وإقامة العدل والمساواة، وتوزيع الثروة والاستفادة منها بعدل وإنصاف. كما تحتاج إلى تنمية الوعي الإنساني وترقية مداركه بالتعليم النافع، والثقافة البانية، والفن الراقي. ويحتاج أيضا إلى شورى وديمقراطية حقيقة، وتداول على السلطة، واحترام إرادة الشعب، دون تزوير أو تدليس. وكل هذا يحتاج إلى شيء واحد وهو الخوف من الخالق، والصدق مع المخلوق. والخاتمة أحب أن أجعلها من صميم كلام العلامة المجاهد علال الفاسي رحمه الله، قال: "فليس يكفينا أن يرجع الساكنون في المغرب كلهم لمحكمة واحدة. وليس يكفينا أن يحكم عليهم جميعا قضاة مغاربة. وليس يكفينا أن يصدر القضاة المغاربة على الجميع حكمهم، باسم ملك المغرب وحده. وليس يكفينا أن تصدر الأحكام، وتقع المرافعات والمذكرات، باللغة العربية. إن هذه النتائج الطيبة كلها لا تكفينا، وإن كنا نحمد الله على الحصول عليها، وإن كنا نعتبرها نصرا هائلا، وتحررا كاملا. لا يكفينا ذلك، لن الغاية عندنا ليس هي أن يحكم المغربي مكان الأجنبي، ولكن الغاية هي أن يستعمل المغربي قانونا غير القانون الذي يستعمله الأجنبي. الغاية عندنا هي إعادة النظر في القوانين النافذة في المغرب، في مختلف المحاكم الموجودة، وتوحيدها في قوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية، أو هي الشريعة الإسلامية مدونة تدوينا عصريا، مع الاجتهاد الضروري لسد حاجة العصر. إن توحيد القضاء يعتبر مظهرا للسيادة الخارجية للدولة، ولكن توحيد القانون وقوميته، يعتبر مظهرا للسيادة الداخلية. فكيف نستغني بالاستقلال الخارجي عن الاستقلال الداخلي؟" (دفاع 24-25).