هوية بريس – ذ. امحمد رحماني في موضوع نشرته جريدة هسبريس حول موضوع الإجهاض بعنوان "باحث مغربي: المذاهب الفقهية تبيح الإجهاض قبل نفخ الروح" والمقصود بالباحث هنا هو الأستاذ سعيد الكحل الموسوم ب"الباحث المتخصص في قضايا الإسلام السياسي" حيث ذُكِر فيه أن الباحث المتخصص نسب لأئمة المذاهب الثلاثة إباحة الإجهاض وأنه لا يوجد نص قطعي يحرم ذلك، وفي الحقيقة ما ذكره "الباحث المتخصص" لا علاقة له بالفقه لا من قريب ولا من بعيد، وسنحاول في هذا المقال ذكر غرائب وعجائب الأستاذ الكحل: أولا: وقفة مع الصفة: وصف الأستاذ سعيد الكحل بكونه "باحث متخصص في قضايا الإسلام السياسي" مزايدة كبيرة في وصف الرجل، فالمعروف فيه أنه لا علاقة له لا بالبحث المتخصص ولا بالعلم الشرعي اللهم إلا إذا كانت علاقة تشكيك في النصوص فذلك ممكن، أما أنه متخصص في قضايا الإسلام فهذه شهادة غلو أعطيت له، خرجات الأستاذ وآراؤه تدل على أنه لا علم له بالقضايا البسيطة للفقه الإسلامي المجرد فما بالك بالإسلام السياسي، الرجل لو طلبنا رأيه في قاعدة أصولية أو معاملاتية لما فهمها فضلا أن يدلي برأيه فيها، ثم الذي يشهد بالتخصص هي المؤسسات والمعاهد العلمية المتخصصة في الفقه الإسلامي السياسي أما أن يصف بها نفسه أو يصفه بها غيره فهذا من الفوضى والتسيب، والأستاذ الكحل ليس بمعزل عن العلماء المتخصصين حتى يجهل العلماء حاله، نسمع كلامه وآراءه، ومستواه العلمي في المجال الشرعي والديني حقيقة لا يصل إلى مستوى البحث المتخصص، تجد الطالب متميزا في الدراسات العليا وإذا أنجز بحثا وكتب على صفحته الأولى الأستاذ الباحث تجد اللجنة المناقشة تدعوه لحذف الأستاذ الباحث وكتابة الطالب الباحث، هذا في الطالب المتخصص في الدراسات العليا، فما بالك بشخص لا يعلم له دراسة ولا تعليم شرعي أو ديني حتى يوصف بالتخصص الشرعي أو الديني، وهذا البيان ليس احتقارا للأستاذ ولا تنقيصا من قدره فهو يحترم في مجال دراسته وتخصصه، ولكن نضع الأمور في نصابها حتى لا يتم التلبيس على الناس. ثانيا: زعمه بأن الفقهاء أجازوا الإجهاض، فهذا إجهاض منه في مسألة الإجهاض والأستاذ الكحل هنا حور ما ذكره الفقهاء ولوى نصوصهم من أجل الوصول لمراده وبغيته، ولبيان ذلك نذكر أقوال المذاهب في مسألة الإجهاض، وقبل ذلك لابد من توضيح نقطة وهي أن الفقهاء متفقون بإجماع على أن إسقاط الحمل بعد النفخ حرام لا يجوز حتى ولو كان يشكل تهديدا لحياة الأم عند بعض الفقهاء، وقد صرح بذلك ابن عابدين فقال: [ولو كان الجنين حيا ويخشى على حياة الأم من بقائه فإنه لا يجوز تقطيعه لأن موت الأم به موهوم فلا يجوز قتل آدمي لأمر موهوم]، أما قبل نفخ الروح فيه فاختلفوا فيه على التفصيل التالي: المذهب الشافعي: أجازوا الإسقاط قبل الأربعين بشرط أن تكون النطفة ناشئة من زنا، قال الرملي [لو كانت النطفة من زنا فقد يتخيل الجواز قبل نفخ الروح]، وقول الرملي: [يتخيل الجواز] واضح في كونه لا يقول به مطلقا إذ جعله من المتخيل، والمقصود بذلك عند أهل الفقه أي قد يفكر الفقهاء في تجويزه، وهذا واضح في بيان إمكانية القول بالجواز وليس بالجواز مباشرة، فقد يفتي الشافعية في مثل هذه الحالة بعدم الجواز لأن القول بالجواز من المتخيل عندهم لا المحكوم به والمتفق عليه. وزاد بعض الشافعية فجعلوا القول بمنع الإجهاض قبل النفخ آكد لأنه محتمل للتنزيه والتحريم، يقول الرملي [لا يقال في الإجهاض قبل نفخ الروح أنه خلاف الأولى بل محتمل للتنزيه والتحريم ويقوى التحريم فيما قرب من زمن النفخ لأنه جريمة]. والقول بالتحريم هو الأوجه عند الشافعية لأن النطفة بعد الاستقرار آيلة إلى التخلق ومهيأة لنفخ الروح. [أنظر حاشية البجيرمي على الإقناع 4/40، وحاشية الشبراملي على نهاية المحتاج 6/179، وكتاب أمهات الأولاد في نهاية المحتاج 8/416]. والإمام الغزالي وهو من كبار الشافعية أفتى بالتحريم مطلقا وقال: [أول مراتب الوجود أن تقع النطفة في الرحم وتختلط بماء المرأة وتستعد لقبول الحياة وإفسادُ ذلك جناية، فإن صارت مضغة وعلقة كانت الجناية أفحش وإن نفخ الروح فيه واستوت الخلقة ازدادت تفاحش ومنتهى التفاحش في الجناية بعد الانفصال] (انظر إحياء علوم الدين؛ 2/51)، وقال الإمام النووي: [فلو جنت الحامل على نفسها بشرب دواء أو غيره فلا شيء لها من الغرة المأخوذة من عاقلتها لأنها قاتلة] (انظر روضة الطالبين وعمدة المفتين؛ 9/370). المذهب الحنبلي: فقد أباحوا للمرأة أن تشرب دواء تسقط به الحمل لكن بشرط أن يكون نطفة فقط أي لا زال منيا في مهبل المرأة أما إن صار علقة في رحمها فلا يجوز مطلقا الإجهاض عندهم، وقد سئل الإمام أحمد عن امرأة شربت دواء فأسقطت، فقال: [إن كانت تعمدت فأحب إلي أن تعتق رقبة وإن سقط حيا ثم مات فالدية على عاقلتها لأبيه] (انظر القواعد لابن رجب الحنبلي القاعدة 84 صفحة:177)، وقال أبو الحسن الماوردي: [وهكذا لو شربت الحامل دواء فأسقطت جنينا ميتا روعي حال الدواء فإن زعم علماء الطب أن مثله قد يسقط الأجنة ضمنت جنينها] (انظر الحاوي للماوردي؛ 12/405). والتحريم هو مذهب الحنابلة مطلقا كما ذكره ابن الجوزي وهو ظاهر كلام ابن عقيل وما يشعر به كلام ابن قدامة وغيره بعد مرحلة النطفة، إذ رتبوا الكفارة والغرة على من ضرب بطن امرأة فألقت جنينا، وعلى الحامل إذا شربت دواء فألقت جنينا؛ وفي الأثر أن سيدنا عمر بن الخطاب طلب حضور امرأة شكاها الناس إليه وكانت حاملا فلما علمت بخبر طلب عمر لها بالحضور الساعة خافت وهي في الطريق إليه فدخلت بيتا فألقت جنينها من شدة خوفها، فاستفتى عمر الصحابة في ذلك فألزمه سيدنا علي بدية جنينها لأنه هو المتسبب فيه. [أنظر الروض المريع في باب العمد صفحة:447، المغنى لابن قدامة الجزء الثامن كتاب الديات]. المذهب الحنفي: أجاز الأحناف إسقاط المرأة للحمل لكن بشرط عدم التخلق، واختلفوا في المراد بالتخلق، فقال بعضهم: هو نفخ الروح، وقال البعض الآخر: هو التعلق بالرحم ولو قبل نفخ الروح، والثاني هو الراجح لأن الحنفية أصلا أجازوا ذلك قبل النفخ فلا يكون الشرط عندهم من قبيل الجواز، إذ المعروف في الشرط زيادة التخصيص لحكم الجواز لا تكرارا له، فيقول الرجل لغيره مثلا (أجزت لك الخروج بشرط الرجوع قبل الظلام) فلا يقول أحد أن المراد بالظلام هو الخروج، فالخروج جواز والشرط تخصيص له بوقت أو حال، فأجاز الأحناف جواز الإسقاط قبل النفخ بشرط عدم التخلق في الرحم وليس أجازوا الإسقاط قبل النفخ بشرط عد النفخ. ويضاف إلى هذا أن من أجاز الإجهاض من الأحناف لم يجزه بإطلاق وإنما لحصول عذر وجب معه الإسقاط ضرورة لا اختيارا، حتى إن ابن وهبان قال: [إن إباحة الإسقاط محمولة على حالة الضرورة] وهو عندهم من المكروه، ونقل ابن عابدين عن علي بن موسى وهو من فقهاء الحنفية قوله [إنه يكره الإلقاء قبل زمن تنفخ فيه الروح لأن الماء بعدما وقع في الرحم مآله الحياة فيكون له حكم الحياة كما في بيضة صيد الحرم]، وقاس الحنفية ذلك على كسر بيض الحرم فلو كسر المحرم بيض الصيد ضُمِّنَ، لأنه أصل حياة الصيد مع العلم أنه لا زال صفارا مائحا وألحقوا به التي أجهضت نفسها بغير عذر أنها آثمة فيه. وقد جعل السرخسي الإسقاط من قطيعة الرحم وهو دال على التحريم (انظر المبسوط 2/87). المذهب المالكي: أما المالكية فيفتون بالحرمة مطلقا وشذ عنهم اللخمي بالكراهة فقط في تجويزه قبل الأربعين. [أنظر حاشية الدسوقي على شرح الدردير 2/266، وبداية المجتهد 2/348]. المذهب الظاهري: أن من ضرب حاملا فأسقطت جنينا فإن كان قبل الأربعين فلا كفارة في ذلك لكن الغرة واجبة [أنظر المحلى لابن حزم 11/35-40]. المذهب الزيدي: لا شيء فيما لم يستبن فيه التخلق كالمضغة والدم، أما غيره ففيه الكفارة ومقتضاه وجوب الإثم [البحر الزخار 5/260و457]. المذهب الإمامي: تجب الكفارة فيه مطلقا سواء ولجت فيه الروح أم لم تلج فيه الروح [أنظر الروضة البهية 2/445]. المذهب الإباضي: إنه ليس للحامل أن تعمل ما يضر حملها من أكل وشرب كبارد وحار ورفع ثقيل فإن تعمدت مع علمها بالحمل لزمها الضمان والإثم [أنظر شرح النيل 8/119-121]. وتخلص من أقوال فقهاء المذاهب في حكم إسقاط الجنين قبل نفخ الروح فيه أربعة أقوال: الأول: الإباحة مطلقا من غير وجود عذر وهو قول فقهاء الزيدية. الثاني: الإباحة لعذر: وهو قول الحنفية وفريق من فقهاء الشافعية. الثالث: الكراهة مطلقا: وهو رأي بعض فقهاء المالكية والحنفية. الرابع: الحرمة مطلقا: وهو المعتمد عند المالكية وقول عند الشافعية -الغزالي-، وقول عند الحنابلة، والمتفق مع مذهب الظاهرية في تحريم العزل. وهنا نسائل الأستاذ الكحل: أين الجواز المطلق الذي ذكرته؟ اللهم إلا إذا كان الأستاذ الكحل زيدي المذهب فله ذلك ولكن في المضغة والدم وعليه أن يبحث عن مذهب آخر في غيرهما، ولن يجد. فالواضح من هذا التفصيل أن الفقهاء لم يجيزوا إسقاط الجنين بإطلاق وإنما قيدوا ذلك إذا ما كان سيهدد حياة الأم في حالة مرضها أو عجزها عن إتمام حملها أو ولادته فقالوا بإبقاء الحياة المؤكدة وإسقاط المحتملة على خلاف بينهم، أو كونه لا زال منيا يتدفق في مهبل المرأة أو نطفة نشأة من زنا، في هذه الحالات فقط جوز الفقهاء الإجهاض على خلاف فيها، وهنا نرى تلبيس الأستاذ الكحل حيث قام بأخذ الاستثناء وجعله قاعدة عامة مطلقة يؤسس عليه محاضرته كلها في كون الفقهاء أجازوا الإجهاض، فلو كان باحثا متخصصا كما وصفوه لكان عليه أن يقول: "المذاهب الفقهية تجيز الإجهاض قبل نفخ الروح إذا كان يهدد حياة الأم" وفي حالة عدم التهديد فالإسقاط حرام، إذ كيف يتصور أن هؤلاء الفقهاء مختلفون في مسألة العزل وهو قذف المني خارج الرحم ويرون أن ذلك إفساد وقتل للنطفة ويسمونها الموؤدة الصغرى كيف يجيزون إسقاطها وهي جنين في بطن أمه؟ ثالثا: ادعى الأستاذ الكحل أنه لا يوجد نص صريح يحرم الإجهاض، وهنا أجهض الأستاذ الكحل في مسألة الإجهاض، فلو كان يقرأ كتاب ربه قراءة تدبر وتفقه وتذكر لفتح الله عليه ووقف على أكثر من ثلاث آيات تحرم الإجهاض بشكل صريح، ولكن على الرجل أكنة منعته من الوقوف عليه. الآية الأولى: قوله تعالى في سورة الممتحنة: (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم) فالنص صريح في اشتراط قبول بيعة المرأة أن لا تقتل أولادها، وكيف تقتل المرأة ولدها وكانت العرب تخفي على الأم بنتها أثناء دفنها حية حتى لا تنتحب وتمنعهم من ذلك؟ إذ كيف تصبر على أن ترى فلذة كبدها تدفن في التراب وهي حية بعد أن عانت من حملها تسعة أشهر؟ فلم يبق إلا أن تسقط جنينها وهو لا زال في بطنها، وقد أشار إلى ذلك القرطبي في تفسيره بقوله: [(ولا يقتلن أولادهن) أي لا يئدن الموؤدات ولا يسقطن الأجنة] (انظر الجامع لأحكام القرآن 18/50)، وابن كثير في تفسيره بقوله: [(ولا يقتلن أولادهن) وهذا يشمل قتله بعد وجوده كما كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الإملاق ويعم قتله وهو جنين كما قد يفعله بعض الجهلة من النساء تطرح نفسها لئلا تحبل إما لغرض فاسد أو ما أشبهه] (انظر تفسير ابن كثير 4/1883)، والطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير حيث قال: [والمراد بقتل الأولاد أمران: أحدهما الوأد الذي كان يفعله أهل الجاهلية ببناتهم وثانيهما إسقاط الأجنة وهو الإجهاض] (11/166). الآية الثانية: قوله تعالى في سورة البقرة: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر) فلا يجوز للمطلقة أن تخفي عن طليقها الحمل الناتج عن العلاقة بينهما، كيفما كانت طبيعة هذا الإخفاء، والموصول في قوله تعالى: (ما خلق الله في أرحامهن) يجوز حمله على العهد فيعني الحيض بقرينة السياق كما قال عكرمة والزهري والنخعي، ويجوز حمله على الجنس فيعني الحمل كما قال ابن عباس وعمر، وقد يعمهما معا فيعني الحيض والحمل كما قال مجاهد، قال قتادة [كانت عادة نساء الجاهلية أن يكتمن الحمل ليلحق الولد بالزوج الجديد] وذلك لئلا يبقى بين المطلقة ومطلقها صلة ولا تنازع في الأولاد، والمجهضات اليوم عادتهن أن يكتمن الحمل بالملقاط لئلا يبقى بينهن وبين الجنين صلة فلا يلحقهن تعب ومشقة إن كان من نكاح أو عار ومسبة إن كان من سفاح. والإجهاض في حقيقته كتمان لما في الرحم خصوصا إذا كان هذا الحمل يشكل تبعة وحرجا على المرأة إما في طلاقها أو زواجها بنكاح أو قبل ذلك بسفاح. والمشار إليه هنا أن الله سبحانه ربط هذا الفعل بالإيمان به وباليوم الآخر، فمسألة إخفاء ما في الأرحام مسألة مغلظة في شرع الله، وكيف يبيحها أهل الفقه وهي مسألة إيمان بالله وباليوم الآخر. ثم هذا النص القرآني يشير إلى أمر آخر أكثر أهمية وهو أن الجنين ليس ملكا للأم حتى تفعل فيه ما تشاء، وإنما له حياة خاصة به ولو جمعت حياته مع حياة أمه إلا أنه لا يجوز لها الانقطاع عن الطعام والشراب ولم يجز لها الشرع الصوم في رمضان مراعاة لحياة من في بطنها، ورتب على صومها إثما إن كان يشكل ضررا على حملها، فلا سلطان للأم على حياة الجنين حتى تسقطه، وقد ذكر الدسوقي من أن المرأة إذا شمت رائحة طعام من الجيران مثلا وغلب على ظنها أنها إن لم تأكل منه أجهضت فعليها الطلب فإن لم تطلب ولم يعلموا بحملها حتى ألقته فعليها الغرة لتقصيرها ولتسببها في إسقاطه. وعليه فإبقاء حياة الجنين من عدمه ليس في حكم الأم حتى تفعل به ما تشاء من قبيل الحريات الفردية، فهذا الجنين متحصل بنطفة رجل لا بد من أخذ رأيه في الحالات التي أباح فيها الفقهاء إسقاطه، أما في حالة الصحة وانعدام المرض فليس للرجل ولا للمرأة كلام في حياة الجنين وإن تسببا في هلاكه فعليهما غرته وإثمه، هكذا يقول الفقه الإسلامي الذي لم يذكره الأستاذ الكحل غفر الله له. الآية الثالثة: قوله تعالى في سورة البقرة: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد)، فالآية تتكلم عن رجل يتكلم في الناس أنه يريد الخير والنفع ولكنه بقوله ذلك ما يريد إلا فسادا في الأرض بإهلاك الحرث والنسل، ولا شك فالجنين في بطن أمه نسل بل هو أصله والإجهاض إهلاك له بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وهو إفساد للأجنة وقتل لها ولذلك قال سبحانه في منتهى الآية (والله لا يحب الفساد). الآية الرابعة: قوله تعالى: (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين)، فقد كان من صنيع فرعون قتل الأولاد وذبحهم مع العلم أنهم لا ذنب ولا جرم لهم فأمر بقتلهم لا لشيء إلا لأن واحدا منهم سيخالفه في الفكر والاعتقاد، وورد في بعض الآثار الضعيفة أن فرعون كان يأمر غلمانه بسقي نساء بني إسرائيل شرابا يستخلص من عشبة تسقط حملهن فلا تضع المرأة أبدا، وفي رواية أخرى أنه كان ينتظر حتى تلد فإن ولدت بنتا استحياها وإن كان ذكرا ذبحه حتى لا تكون لبني إسرائيل قوة ولا منعة. وما سبب الإجهاض اليوم إن لم يكن مهددا لحياة الأم؟ فليس له سبب غير ذلك إلا الأسباب الفرعونية من خوف رزق وإعاقة وقلة تربية وانعدام وقت، وهل هذه أسباب تبيح للناس تقنين الإجهاض من أجلها؟ كيف سيكون موقفنا من المعوقين وذوي الاحتياجات الخاصة الحاملين للشواهد العليا والمطالبين بحقهم في الشغل والسكن والوظيفة إذا علموا أن من أسباب تقنين الإجهاض الخوف من إعاقة محتملة أو تشوه خلقي محتمل؟ سيتأكد لهم أنهم نجوا من ملقاط فرعون وهم أجنة في بطون أمهاتهم، وسيعلمون أن المجتمع لا يرحب بهم وهم لا زالوا أجنة فكيف يقبلهم وهم أساتذة ودكاترة. رابعا: في تصريح الأستاذ الكحل إهانة لمؤسسة علمية ملكية يرأسها أمير المؤمنين إذ ما معنى قوله: "لا يمكن أن يكون المجلس الأعلى مَرجعا في حل مسألة الإجهاض؛ لأنه أصلا جزء من المشكل"، فهو يعتبر وجود المجلس العلمي الأعلى مشكلا بحد ذاته فضلا عن مشكل الإجهاض، والمفهوم منه أن المجلس ظلامي ورجعي وغير تقدمي ولا حداثي لأنه يتبنى الوجهة الشرعية المحافظة على النصوص الشرعية وهو بذلك مجلس يعادي الحريات الفردية والقوانين الحداثية، فكيف نتوقع من مجلس هذه حالته أن يبيح لنا الإجهاض؟، ولا ننسى أن وصف المجلس الأعلى بالإشكال هو وصف له كمؤسسة ملكية يرأسها جلالة الملك، وفي هذه إساءة ما بعدها إساءة وجب عليه التراجع عنها والاعتذار لمن يرأس هذه المؤسسة. خامسا: التلبيس في الاستشهاد بفتوى الشيخ ابن باز حيث ورد في الموضوع "الذي أباح الإجهاض ما لم يُتمم الجنين أربعين يوما، أو إذا كان بالمرأة مرض شديد" الأمر الذي يفيد أن ابن باز يفتي بالجواز في أمرين، الأمر الأول: جواز الإجهاض ما لم يتم الجنين أربعين يوما، والأمر الثاني: جواز الإجهاض إذا كان بالمرأة مرض شديد، وهذا تلبيس خطير في الاستشهاد والاستدلال، فحينما نرجع لفتوى الشيخ ابن باز نجد أنه يفتي في الإجهاض بأمر واحد وهو جواز الإجهاض قبل الأربعين يوما إذا كان بالمرأة مرض شديد، يعني إذا كانت المرأة سليمة فالإجهاض حرام. أخيرا نقول للأستاذ سعيد الكحل: الله يرحملك الوالدين بقى غي في الاختصاص ديالك يلا عندك شي اختصاص ودع الأمور لأصحابها، إذا كانت المسألة تحتاج لرأي الأطباء فدع الأطباء يتكلمون، وإذا كانت من شأن الفقهاء فدع الفقهاء يتكلمون، وتكلم في الأمر إن كنت من أصحاب الاختصاص، أما قضية "باحث" و"متنور" و"مهتم بالشأن العام" فليست بحجة تبيح لك التطاول على ما لا تفهم ولا تعرف. وبسط أقوال الفقهاء في مثل هذه الحالات ليس تطاولا من الفقهاء لاختصاصات أخرى، فقد يقول بعض الجهلة وما دخل الفقهاء في مسألة الإجهاض وإنما هي أمر خاص بالأطباء، ونقول لهؤلاء إن الفقهاء احترموا تخصصهم فلم يتدخلوا في الجانب الطبي لحالات الإجهاض وإنما تكلموا فيما يخصهم هم كفقهاء أي في الجانب الشرعي منه، مع العلم أن الفقهاء تناولوا قضايا الإجهاض وفصلوا فيه منذ القدم قبل أن يتخصص الأطباء في مثل هذه الحالات ولا أن يعرفوا بها، بل كما صرح ابن البيطار أن كثيرا من الأطباء قديما لم يعرفوا بمسائل الإملاص إلا عند تكلم الفقهاء عنه، كما أن غالب الفقهاء قديما كانوا أطباء، وهذا بيان فقط وإلا فاحترام التخصص واجب والفقهاء إنما تناولوا ذلك من الناحية الشرعية وتركوا لأهل التخصص قولهم في ذلك، ومن المعروف شرعا أن الفقيه بعد أن يبين حكم الشرع في مسألة تخص جسد الإنسان يربط تطبيق الحكم بالقدرة والاستطاعة والذي يثبتهما هو الطبيب، فالذي يثبت أن الحامل والمرضع والمريض غير قادرين على الصوم هو الطبيب المتخصص، وإذا أفتى الطبيب بأن الصوم يضر بمرضى السكرى لم يكن من الفقيه إلا قبول حكم الطبيب والفتوى بموجبه، وكثيرا ما كان يسأل ابن رشد عن مسائل تخص أمور الجسد فيقول للسائل: (وما يقول أهل الطب عندكم؟). فهل يُحْتَرَمُ الفقهاء في تخصصهم كما احترموا غيرهم؟