كتبت فيما مضى عدة مقالات وقصائد أثناء اعتقال وسجن الأخ والصديق الحبيب د. إياد قنيبي، ولكن وجدت نفسي عاجزة عن الكتابة بمرض ابنته سارة ثم وفاتها. ربما لأن الكتابة عن بلاء الصديق بنفسه أسهل من الكتابة عن بلائه بفقد ابنه أو ابنته. ومثالنا سارة؛ إن قمت بامتداح نبوغها ونباهتها بعين المعجب المشاهد لبعض مواقفها زدت مواجع والديها بفقدها، وإن جنحت إلى تبسيط البلاء كذبت على نفسي وعليهما، وربما حملتهما فوق طاقتهما، فالأبناء أعزاء جدا، حتى لدى الأنبياء -عليهم السلام-. وفي أثناء هذا الأخذ والرد مع نفسي، راودني سؤال قد يراود آخرين: لماذا تكتب عن سارة تحديدا، هل لأنها ابنة أخ وصديق عزيز؟ فكانت الإجابة ليس لذلك فقط، وسأعرض شيئا من إجابتي على شكل نقاط سريعة: 1- لأن سارة ابنة الثلاثة عشر ربيعا نموذج مبهر في الصبر والإيمان بقدر الله من لحظة إصابتها بمرض السرطان إلى وفاتها، بصلابتها، وأمل ابتسامتها، والتزامها في عبادتها حتى بعد اشتداد مرضها، فمن يصدق أن تلك الطفلة التي انتشر لها منذ أسبوع مقطع فيديو عنوانه (الهدف من الحياة) مصابة بالسرطان، وكانت عازمة على إكمال السلسلة، وهي في شدة المرض. 2- لأن كل طفل عزيز على والديه، وتزداد معزته عندما يكون مبهرا في عقله وأسلوبه وشدة بأسه وبره ومنطقه، وهذا حلم كل أب وأم، وهكذا كانت سارة، أول فرحة لوالديها، ولكن صبرهما وثباتهما وحديث والدها بالناس ساعة دفنها، واستثماره للحدث الأليم في تثبيت الحضور، وحضهم على تنشئة أبنائهم التنشئة الصالحة، يشد الانتباه، ويدعو للكتابة والتوثيق. بمعنى، إن إياد قنيبي، بلا ألقاب دكتور أو داعية أو مفكر، أب كأي أب، عنده من العواطف الجياشة تجاه أبنائه ما لدينا، وربما أكثر، ولكن الإيمان بحقيقة الدنيا أنها دار ممر ومفر إلى الله لا مقر، ونحن بين مفارِق ومفارَق، هو ما يدعوه للصبر، وإلا لأعلن إفلاسه حقيقة وليس على سبيل المجاز، فالبشر مهما رأيناه وسمعنا عنه، ضعيف أمام البلاءات، لاسيما بأبنائه، لولا تثبيت الله، ومما قاله بابنته العزيزة على قلبه، وهو يراها زهرة في عمر عامين: هي سارةُ.. هي سرُّ سروري هي مِنْ دُنيانا أحلاها يا ربِّ احفظها واجمعنا واجعل جناتك مأواها 3- يحمل قنيبي شهادة الدكتوراة في علم الأدوية بامتياز، وحائز على براءتي اختراع، فهو من يُسأل عن الدواء وكيفية الشفاء، ولكن علمه عند قدر الله يقف عاجزا أمام آلام فلذة كبده، ولسان حاله: "ليس بأمري حيلة يا بنيتي، فأمرنا كما ربيناكما موكول إلى الله، فإن أراد نجاح السبب كان ب "كن" فيكون، وإن لم يرد، فالأسباب لا تقدم أو تؤخر". 4- لأن والدها مرَّ بعدة ابتلاءات كان أولها مرض والده الطويل ورعايته الدائمة له مع أشقائه ووالدته، ثم دخوله بمعترك الاعتقالات والسجن لأجل دعوته ومواقفه، ومحاربته في عمله وإيقافه من التدريس ببعض الجامعات، التي تلاها مرض سارة، ومع كل هذه البلاءات التي مر ويمر بها بقي مشاركا بحال الأمة، يختطف من وقته للتنسيق بين العمل والأبحاث والأسرة والمناسبات الهامة والحديث عن الشؤون العامة، وقد كانت له بصمة عظيمة مؤخرا في الحديث عن الإلحاد ونقض النظرية الداروينية. 5- لأن والدة سارة تقف مع والدها، وتشد من أزره، وتعينها على تحمل الآلام وتربطها بالله عز وجل، فالأم أقرب الناس إلى طفلها، وهي من تعين زوجها على التحمل كما يعينها، فوراء كل حر ومثابر صاحب بصمة امرأة تستحقه، ولأن أشقاء والدها وجدتها مترابطون ويشعرون حقيقة أن جرحهم واحد كذلك. 6- لأن سارة كانت مع أشقائها أهم المشاركين في اعتصامات الإفراج عن والدها، وكانت في المرة الأولى تحمل يافطة مكتوب عليها: "أبسط حقوقي أن أعيش مع والدي فرحة العيد"، وفي المرة الثانية: "أبي لا تقف عن المسير وامض وقل أمتي أعز عليّ من أبنائي"، وهذا هو الطفل المسلم صاحب قضية الأمة، الذي يحض والده على الاستمرار بطريقه، رغم حبه الشديد له، فما أسهل انكسارنا أمام دموع أطفالنا، وكم يدفعونا إن أرونا صلابة الكبار. أكتب عن سارة_قنيبي، لأن أمتنا بحاجة لقدوة ونموذج سارة كطفلة وشابة تصبر وتحتسب على ما أصابها، وتقف مع والدها في بلائه وانشغالاته لأجل دعوته وأمته، ولأننا بحاجة لهمة كهمة والدها -نحسبه من أهل الفضل والله حسيبه- مهما مر بمنغصات، ونريد نموذج والديها وأسرتها الصغيرة والكبيرة، لأننا كلنا معرضون للمحن والبلاء، ولا بد وأن نصبر ونحتسب ونحمد ونرضى بأقدار الله ونستمر ولا نتوقف، والأمل يحدونا بعاقبة جميلة. فإن كنا نؤمن بالفراق فلا بد من الإيمان في لقاء بجنة عرضها السماوات والأرض مع من نحب، ولأننا نحبهم ندعوهم للصبر والثبات والتسليم الجازم بقوله سبحانه (إنا لله وإنا إليه راجعون)، كي نكون سوية على سرر متقابلين، فالدنيا قصيرة الأيام، واللقاء ليس ببعيد. رحم الله سارة إياد قنيبي وربط على قلب والديها، وأعان كل أسرة تعاني مرض أحد أبنائها أو فراقه.