هوية بريس – عماد الجراري الدرس الحسني حول مسألة الاحتجاج بفهم السلف للأستاذ سعد بن ثقل العجمي تضمن عددًا من الأغلاط المنهجيَّة. فمَسألة حُجِّيَّة فَهم السَّلَف للنصوص الشرعية مَسألةٌ عِلميةٌ دِقيقَة، تَقدَّم فيها سِجالٌ عِلميٌّ بين الفِرق الإسلامية بل أغلب الخلاف بين هذه الفرق كان حول حُجِّيَّة فَهم السَّلَف. لا يعدل عن فهم السلف الصالح ويضيق بفهمهم إلا مبتدعٌ ضاق صدره بما فهمه السلف من نصوص الوحي فإذا أراد تحريفاً لكلام الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ألجمه أهل السنة بفهم السلف سواء كان قول صحابي أو تابعي أو إجماع منعقد عنهم. أوهم صاحب الدرس الحسني أن مراد أهل السنة بفهم السلف أنه يكون قسيماً لكتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وهذا محض افتراء فإن مراد السلفيين بقولهم حجية فهم السلف هو أن يقدم فهمهم على فهم غيرهم لا غير. ففهم السلف الصالح في مسائل العقيدة لنصوص الوحي هو حجة أهل السنة ومذهبهم الذي أجمعوا عليه فيه كما نقله المحدثون في كتب العقائد وغيرها. وكذلك فهم السلف في مسائل الفقه هو الذي بنى عليه علماء المذاهب الأربعة فقههم وأقوالهم. وهذا ما يعبر عنه العلماء بقولهم: (ما عليه الصَّحابةُ، ما عَمِل به السَّلَفُ، ما قاله أئمَّةُ الهدى)، ونحوها من العبارات. فصاحب الدرس الحسني زعم التعارض بين الوحي وفهم السلف وهذه مجرد فرية لا يقولها إلا جاهل حكايتها تكفي في ردها. "والبحث إنما هو في (فهم) الوحي لا في إثبات أصل ثالث مزاحٍم للكتاب والسنة كما أوهم صاحب الدرس وأكثر من يخالف أقوال الصحابة، أو الإجماع إنما هو بسبب هذا الفهم الباطل. ففهم السلف الصالح سواء كان إجماعاً أو قول صحابي إنما هو كاشف للحكم ومبين لمراد الله ومراد رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ وليس منشئًا لحكم لم يكن قبله لذلك يشترط أهل العلم أن يكون الإجماع -الذي هو صورة من صور الفهم- مستنداً لنص". ثم تكلم عن مسألة التروك واستدل بكلام عبد الله بن الصدّيق الغماري في رسالته (حُسن التفهم والدرك لمسألة الترك)، وهو مخالف لتصريحات كبار أهل العلم وعلماء أصول الفقه -طوال التاريخ الإسلامي- التي تفيد أن الترك يكون في بعض أحواله سُنَّة، ويكفي في الرد عليه قول حذيفةُ بن اليَمان -رضي الله عنه-: ((كلُّ عبادةٍ لم يتعبَّدْها أصحابُ محمَّدٍ -رضي الله عنه- فلا تَعبَّدوها؛ فإنَّ الأوَّلَ لم يدَعْ للآخِرِ مَقالًا؛ فاتَّقوا اللهَ يا مَعشرَ القُرَّاءِ، وخذوا بطريقِ من كان قبلَكم)). وقال عمر بن عبد العزيز: ((قِفْ حيث وقف القومُ، وقُلْ كما قالوا، واسكُتْ عمَّا سكتوا؛ فإنَّهم عن عِلمٍ وقَفوا، وببصرٍ نافذٍ كَفُّوا، وهم على كَشفِها كانوا أقوى، وبالفَضلِ لو كان فيها أحرى، فلئِنْ كان الهدى ما أنتم عليه فلقد سبقتُموهم إليه، ولئن قُلتم: حَدَث بعدهم، فما أحدثَه إلَّا مَن سلك غيرَ سبيلِهم ورَغِبَ بنفسِه عنهم، وإنَّهم لهُم السَّابقونَ، ولقد تكلَّموا منه بما يكفي، ووصفوا منه ما يَشفي، فما دونَهم مَقصَرٌ ولا فوقهم مَحسَرٌ، لقد قصَّرَ عنهم قومٌ فجَفَوا، وطَمَح آخرون عنهم فغَلَوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدًى مستقيمٍ)). ويقول الأوزاعي: ((اصبر نفسَك على السُّنَّة، وقِفْ حيث وقف القومُ، واسلُكْ سبيلَ السَّلَفِ الصَّالح؛ فإنَّه يَسَعُك ما وَسِعَهم، وقُلْ بما قالوا، وكُفَّ عما كفُّوا، ولو كان هذا خيرًا ما خُصِصتم به دون أسلافِكم؛ فإنه لم يُدَّخَر عنهم خيرٌ خُبِّئ لكم دونهم؛ لفضلٍ عندكم)). "ومعنى هذه الآثار ظاهرٌ بيِّنٌ، فالمقصودُ بها أنَّ الفهمَ الصَّحيحَ لنصوص الكتاب والسُّنَّة: هو الفهمُ الذي كان عليه الصَّحابة -رضوانُ الله عليهم- بمجموعهم، وما اتَّبعه عليه التابعون وأتباعُهم، وأنَّ فَهمَهم لا يخالف الكتاب والسُّنَّة، وأنَّ كلَّ فهمٍ للكتاب والسنة يخالف ما كانوا عليه بمجموعهم، فهو فهمٌ خطأٌ لا محالةَ". ولم يخل درسه عن الطعن في كبار العلماء فغمز من طرف غير خفي بالعلامة الالباني -رحمه الله-. والذي يظهر -والله أعلم- أن صاحب الدرس لم يكن غرضه الحقّ؛ وإنما أراد الاستدلال لباطله -خصوصا وأنه من أتباع سيده حمزة بن العباس البودشيشي الخرافي وسيده الحبيب عمر بن حفيظ القبوري- فذهب يبحث في عن ما يتوهم أنه حجة لبدعه؛ لذلك أقدم على أمر لم يفعله غيره من أهل الضلال بهذا القدر من الحماسة والتهور. وهو إبعاد المسلمين عن فهم السلف الصالح حتى ويلبسوا عليهم دينهم فيهرعون إلى النصوص العامة والمطلقة؛ لينصروا بها باطلهم. قال ابنُ عبَّاسٍ -رضي الله عنه- للخوارج: ((أتيتُكم من عند أصحابِ النَّبيِّ -رضي الله عنه-: المهاجرينَ والأنصارِ، ومِن عند ابنِ عمِّ النَّبيِّ -رضي الله عنه-، وعليهم نزل القرآنُ؛ فهم أعلَمُ بتأويلِه منكم)). وما أدري ما معنى قول ابن عبَّاسٍ -رضي الله عنه- فهم أعلَمُ بتأويلِه منكم، إن لم يكن يريد فهم الصحابة للقرآن الكريم.