"كتب عبد الله العُمَرِي العابد الزاهد إلى الإمام مالك يحضه على الانفراد والعمل. فأجابه مالك: إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرُبَّ رجل فُتح له في الصلاة، ولم يُفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصوم ولم يفتح له في الصدقة، ونَشْر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فُتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه دون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر". عبد الله هذا هو عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، فهو حفيد الفاروق رضي الله عنه، ولذلك يقال له العُمَرٍي، كان فقيها ومحدثا، ثم اعتزل الناس وتفرغ للعبادة في بادية خارج المدينة. ت سنة 184 ه. فهو هنا ينصح الإمام مالكا باعتزال الناس والزهد في الدنيا، والاشتغال والانشغال بعبادة الله تعالى، فقصد بالانفراد الانعزال، وقصد بالعمل العبادة. بل روى ابن أبي أويس أنه كتب أيضا إلى ابن أبي ذئب، وقال إن جوابه كان شديدا، وإن مالكا أجابه جواب فقيه. وهو كذلك، فإن الإمام مالكا دل بجوابه على صحة فهمه للشرع، وعلى سعة رؤيته للدين، فضلا عن حكمته وأدبه. وما أحوجنا اليوم إلى هذا الفهم الصحيح للشرع، وإلى هذه الرؤية الواسعة للدين. فبعض الناس تجده قد وُفِّق للسير في مسلك من مسالك الدين، فيظن أن على كل الناس أن ينسجوا على منواله، فيسيء الظن بمن لا يفعلون مثله، وقد يصل به الأمر إلى اتهامهم في دينهم: فإن كان يقوم الليل أنكر على من ينام، وإن كان يصوم النافلة لام من يفطر، وإن كان ينفق من ماله وصم غيره بالبخل، وإن كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر عاتب من لا يفعل. ولا ينبغي هنا خلط هذا المقام بمقام النصح، فالنصح شيء آخر وهو واجب ومطلوب، وإنما الكلام على من يحصر الدين في تلك الشعبة ويتهم من ليس معه فيها. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "من الناس من يكون سيد عمله وسلوكه إلى الله طريق العلم والتعليم، وقد وفر عليه زمانه مبتغياً به وجه الله، فلا يزال كذلك عاكفاً على طريق العلم والتعليم حتى يصل من تلك إلى الله، ومن الناس من يكون سيد عمله الذكر وقد جعله زاده لمعاده ورأس ماله لمآله، ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة، ومن الناس من يكون طريقه الإحسان والنفع المتعدي كقضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفان وأنواع الصدقات، ومنهم من يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد فتح الله له فيه ونفذ منه إلى ربه، ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق وتجريد الهمة ودوام المراقبة وحفظ الأوقات أن تذهب ضائعة، ومنهم جامع المنفذ السالك إلى الله تعالى في كل واد، الواصل إليه من كل طريق، فهو جعل وظائف عبوديته قبلة ونصب عينه يؤمها أين كانت، ويسير معها حيث سارت، قد ضرب مع كل فريق بسهم، فأين كانت العبودية وجدته هناك، يدين بدين العبودية أنى استقلت ركائبها ويتوجه إليها حيث استقرت مضاربُها. (من طريق الهجرتين، بتصرف يسير)". فصرح الدين بناء كغيره من الأبنية، يحتاج إلى مختلف الصنائع والحرف لكي يقوم، فالمهندس يضع الرسوم، والبَنَّاء يشيد، والسباك والكهربائي والنجار وغيرهم يكملون ما يحتاجه البناء، والصباغ والخزفي والجباص وغيرهم يزينونه، وهكذا حتى يستوي على سوقه. فغير مقبول ولا معقول أن ينكر أحدهم على الآخر، ولو اكتفي بصنعة واحدة لن يكتمل البناء ! وهكذا صرح الدين، فهذا يعلم الناس ويفقههم، وهذا ينفق ويعين بماله، وغيره يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وآخر يؤم الناس ويصلي بهم، وذاك يعظهم ويذكرهم، وهذا يناظر ويرد الشبهات… فلا يكتفى بشعبة واحدة، ولا يستغنى عن أية شعبة. فأعظم بها رؤية وضعها الإمام مالك، وهي ما يمكن أن نسميه بالتكامل في خدمة الدين، نسأل الله تعالى أن يوفقنا لفهمها وللعمل بها.