الإفراج عن 10 آلاف صفحة من سجلات اغتيال روبرت كينيدي عام 1968    اعترافات قضائية خطيرة.. هشام جيراندو "مسخوط الوالدين" وعائلته تتبرأ من جرائمه    توقعات أحوال الطقس لليوم السبت بالمملكة    هل يفوز برشلونة بدوري أبطال أوروبا؟ .. الذكاء الاصطناعي يجيب    بالأرقام.. وزير الفلاحة يفند مزاعم "المعارضة" بشأن استنزاف الفلاحة السقوية للثروة المائية    "كان" الفتيان.. كوت ديفوار ثالثا    القنصل العام الفرنسي يزور مركز التقاء الشباب بحي القصبة بطنجة ويؤكد استعداده لدعم التعاون الثقافي والاجتماعي    تكريم عمر أمرير بمعرض الكتاب.. رائدٌ صان الآداب الأمازيغيّة المغربية    مستشار الرئيس الأمريكي: واشنطن تتحرك لإغلاق ملف الصحراء وإعادة العلاقات بين المغرب والجزائر    مغربية الصحراء تكتسب زخما دوليا غير مسبوق    الشارقة تضيء سماء الرباط: احتفاء ثقافي إماراتي مغربي في معرض الكتاب الدولي 2025    المغرب يسير نحو طفرة عسكرية نوعية عبر اقتناء دبابات K2 الكورية    يتسع ل5000 طالب.. أشغال بناء المركب الجامعي بالحسيمة تصل مراحلها النهائية    احتفالية "رمز الثقافة العربية ل2025" تكرم الشاعر بنيس والفنان الفخراني    ‪ بكتيريا وراء إغلاق محلات فروع "بلبن" الشهيرة بمصر‬    هل يقود مغربي سفينة "الملكي"؟ أنس لغراري الرجل الخفي الذي قد يرأس ريال مدريد سنة 2029    مدرب شباب قسنطينة يشكر المغاربة على حسن الاستقبال قبل مواجهة بركان    الناصري ينفي التهم الموجهة إليه في قضية "إسكوبار الصحراء" ويكشف تفاصيل عن لطيفة رأفت وتاجر المخدرات "المالي"    احوال الطقس .. امطار وثلوج مرتقبة بمنطقة الريف    عمر مورو: مشاريع البنيات التحتية لكأس إفريقيا 2025 تسير بوتيرة متقدمة بمدن الشمال    الأبيض والأسود من تقرير دي ميستورا: إن موعدهم نونبر؟ -3-    عمر هلال: العودة إلى الصحراء المغربية مشروطة بالإحصاء الإسباني لعام 1974    وفد رفيع من سفارة رومانيا بالمغرب يزور ENCG طنجة ويوقع بروتوكول تعاون أكاديمي    حين تصبح معلوماتك سلعة .. من يحمي المغاربة من تسريبات البيانات؟    مقتل صحراويين في مخيمات تندوف : ائتلاف حقوقي يطالب بتحقيق دولي ضد الجيش الجزائري    شرطة البيضاء توقف مواطنا نرويجيا    الحوامض المغربية تلج السوق اليابانية    ناصر بوريطة يواصل جولة دبلوماسية ناجحة لتعزيز دعم أوروبا لمغربية الصحراء    خلال 2024.. المركز الجهوي للاستثمار بجهة الشمال وافق على مشاريع استثمارية بقيمة 85 مليار درهم قد تخلق حوالي 70 ألف فرصة شغل    من الرباط.. السفير الصيني بالمغرب لي تشانغ لين : الصين تعتزم عقد مؤتمر عالمي جديد للمرأة خلال هذا العام    وفاة الفنان المصري سليمان عيد    تزايد حالات السل اللمفاوي يسائل ضعف مراقبة سلاسل توزيع الحليب    بيان توضيحي لولاية أمن أكادير بشأن ادعاءات واهية لمنظمة    مهرجان "جازابلانكا".. 26 حفلا موسيقيا يحييها 180 فنانا    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    "حماس" تدعو إلى إنهاء حصار غزة    دعم إنتاج الأعمال السينمائية.. الكشف عن مشاريع الأفلام المستفيدة برسم الدورة الأولى من 2025    بيانات تكشف ارتفاع الإصابة بالتوحد وكذلك زيادة معدلات تشخيصه    واشنطن بوست تدق ناقوس الخطر: البوليساريو شريك لإرهاب إيران في إفريقيا    أكادير يحتضن مؤتمر التنظير عنق الرحم وجوف الرحم والجهاز التناسلي    شي جين بينغ وهون مانيت يتفقان على تعزيز الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين الصين وكمبوديا    الارتفاع العالمي لسعر الذهب ينعكس على محلات المجوهرات في المغرب    شركة للطيران تمتنع عن نقل ثلاثة جثامين لمغاربة مقيمين بهولندا    إطلاق الشعب المتخصصة في فنون الزجاج بالمعهد المتخصص في الفنون التقليدية بمكناس، في سابقة على المستوى الوطني    الدورة التاسعة إياب من بطولة القسم الوطني الممتاز لكرة السلة : .ديربي محلية بالعاصمة بين الفتح والجيش    أولمبيك خريبكة يوضّح واقعة محاولة انتحار أحد لاعبيه    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    رغم التأهل.. فليك غاضب من أداء لاعبي برشلونة أمام دورتموند ويطالب بمزيد من الانضباط    مهرجان "تيم آرتي" يختار مواهب الراب الشابة في دورة جديدة    روبيو: على أوروبا أن تقرر ما إذا كانت مستعدة لإعادة عقوبات إيران    مجلس الأمن يدعو إلى وقف دائم لإطلاق النار وعملية سياسية شاملة في السودان    استشهاد 15 فلسطينيا في غارة إسرائيلية جديدة على غزة    توظيف مالي لأزيد من 46 مليار درهم من فائض الخزينة    وزارة الصحة تخلّد اليوم العالمي للهيموفيليا وتطلق حملة تحسيسية وطنية لمكافحة هذا المرض    قصة الخطاب القرآني    المجلس العلمي للناظور يواصل دورات تأطير حجاج الإقليم    أجواء روحانية في صلاة العيد بالعيون    طواسينُ الخير    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العبادة والصحة النفسية في زمن كورونا
نشر في هسبريس يوم 29 - 04 - 2020

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ، في المقال السابق الذي تفضل موقع هسبريس بنشره بعنوان: " الإيمان والصحة النفسية في زمن كورونا" تحدثت بإيجاز عن أثر شعب الإيمان الكبرى كالإيمان بالله وصفاته، والإيمان بالآخرة وما فيها من جزاء، والإيمان بالقدر خيره وشره، والإيمان بالرسل... في تصحيح تصورات المؤمن وتقوية نفسيته وتحمله، خاصة في مثل هذه الفترة العصيبة... وفي هذا المقال تكملة لما سبق، لأن العبادات كذلك من شعب الإيمان، ومن الآيات التي جمعت بين العبادات وبعض مظاهر الاختلالات النفسية للإنسان قوله تعالى في سورة المعارج :﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26)... ففي هذه الآيات ذكرت صفات الهلع والجزع والمنع، وذكرت الصلاة والزكاة والإيمان بالآخرة وبعدها ذكرت بعض القيم كالعفة والأمانة والوفاء بالعهود... ومن الآيات الجامعة لمعنى الصحة النفسية قوله تعالى :" من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مومن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون" (النحل 97) والعبادات من أجلّ الأعمال الصالحة، والصحة النفسية من أجلّ مظاهر الحياة الطيبة التي جعلها الله من ثمار العمل الصالح المعجلة في الدنيا لعباده الصالحين... وسأتناول في هذا المقال بإيجاز أثر الصلاة والذكر والدعاء والزكاة والصيام في الصحة النفسية .
أولا: الصلاة والصحة النفسية
إذا كان الإيمان بالله وصفاته أعظم شعب الإيمان العقدية فيمكن القول إن الصلاة أعظم الشعب العبادية، وفوائدها أكثر من أن يحصيها مقال، فكلها منافع من التفكير في أدائها والاستعداد لها بالطهارة وغيرها من شروطها وأوقاتها ، مرورا بأركانها وفرائضها وسننها، وما تقتضيه من جماعة وجمعة وصلوات في مناسبات معينة إلى غاية الفراغ منها، فكل جزئية من جزئياتها لها آثار وحكم ومنافع نفسية وصحية واجتماعية... يقول القرضاوي عن أثر الصلاة: "إنها تقوم بتغذية ذلك الجزء العلوي الإلهي في كيان الإنسان وهو المشار إليه بقوله تعالى: " ونفخت فيه من روحي." الحجر من :. 29ذلك الكائن الروحي الذي يعيش بين جوانح الإنسان، لا يكفي لتغذيته علم العلماء ولا ... ولا يغذيه إلا معرفة الله وحسن الصلة به، وهذه الصلوات الخمس هي وجبات الغذاء اليومي للروح." العبادة في الإسلام للقرضاوي،ص 208 .
شروط الصلاة وآثارها النفسية
من شروط الصلاة بتعبير الفقهاء طهارة الحدث وطهارة الخبث، أو نقول طهارة البدن وطهارة الثوب وطهارة المكان، والطهارة مصطلح شرعي أعمق من النظافة، والذي له صلة بموضوعنا هو الجانب النفسي لأحكام الطهارة التي لا تصح الصلاة بدونها وهذا معنى الشرط، وللضوء والغسل الواجب والتطوع فوائد صحية ونفسية محسوسة وملموسة لا تحتاج إلى كثرة الاستدلال ...
الصلاة وتدبير الوقت
من شروط الصلاة كذلك دخول الوقت، فالصلاة عبادة ذات أوقات، وأمر الله تعالى المصلين بالمحافظة عليها في أوقاتها، فقال تعالى: " حافظوا على الصلوات" (البقرة 238). فالمصلي من أكثر الناس مراقبة للزمن، وأكثرهم انضباطا لأوقات الاستيقاظ والنوم، وعادات النوم والاستيقاظ لها آثار صحية ونفسية، فالمحافظ على صلاته يبدأ يومه بصلاة الصبح في وقتها، ثم ينطلق في أعماله بحيوية ونشاط ، وفي هذه الأيام ينصح الخبراء النفسيون الناس لمقاومة آثار الحجر الصحي بالانضباط لأوقات النوم والاستيقاظ الاعتيادية ... ولا شيء غير الصلاة يمكنه تحقيق مثل هذا الانتظام في البرنامج اليومي للمسلم.
الصلاة و الاسترخاء بالخشوع
ينصح الأطباء النفسيون بعض المرضى بتخصيص أوقات متفرقة في اليوم للاسترخاء وذلك بعدم التفكير في أي شيء من مشاكل الحياة... وهو تعبير عما يسمى في الصلاة بالخشوع، وهو جوهر الصلاة الذي يعتبره بعض العلماء ركنا تبطل الصلاة بدونه، ومن لم يقل ببطلانها يقول بنقصان الأجر بقدر نقصانه، وهو واضح في قوله تعالى في أول سورة المومنون : "قد أفلح المومنون الذين هم في صلاتهم خاشعون "
وقد ثبت في حديث المسيء صلاته أمره صلى الله عليه له بالإعادة مرتين ومنه استنبط العلماء وجوب الخشوع الظاهري وان الاطمئنان والاعتدال من فرائض الصلاة .
بالإضافة إلى الخشوع دعا الإسلام المصلي لشغل العقل بالذكر والتلاوة وتدبر الآيات والدعاء مع الحضور القلبي وكل ذلك يزيده طمأنينة وسكينة قال تعالى : "الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب"
الصلاة وتهذيب السلوك
ومن أهم شعب الإيمان الصلاة التي تعد من أهم الوسائل التربوية الإسلامية المحفزة على الأعمال الصالحة ، والمانعة من المعاصي والمحرمات ، إذ أجمل الله تعالى أثرها في قوله تعالى: "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر"(العنكبوت من : 45 ) وقال ابن كثير في تفسير الآية: "يعني أن الصلاة تشتمل على شيئين : على ترك الفواحش والمنكرات، أي مواظبتها تحمل على ذلك، وقد جاء في الحديث من رواية عمران وابن عباس مرفوعا: " من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم تزده من الله إلا بعدا". تفسير ابن كثير: 3/418 ويقول القرضاوي : "الصلاة قوة خلقية، وفي هذه القوة مدد أي مدد لضمير المؤمن يقويه على فعل الخير، وترك الشر، ومجانبة الفحشاء والمنكر، و مقاومة الجزع عند الشر." العبادة في الإسلام للقرضاوي: ص 104
الصلاة والصبر على البلاء
ما تعيشه البشرية اليوم من الوباء وآثاره الصحية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية... يجعل كل ما من شأنه أن يثبت الناس ويقوي نفوسهم وعزائمهم ويقوي إرادتهم وصبرهم وسيلة لمقاومة البلاء و علاجه ، وصلاتنا لها أثر كبير في هذا الباب، لأنها تمثل ملجأ المؤمن وملاذه إذا أحس بالضعف أو الخوف أو القلق من كل ما يخيفه أو ويقلقه، فالمؤمن يلجأ إلى الله بالصلاة والدعاء في وقت الشدة، ولذلك قرنها الله تعالى بالصبر لأثرها الواضح في تحقيقه وتقويته فقال تعالى في سورة البقرة : "واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين " و"كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا حزَبَه أمرٌ فَزِع إلى الصلاة» رواه أحمد
صلاة الجماعة والجمعة وبعض آثارهما النفسية
العلاقات الاجتماعية السوية من مظاهر الصحة النفسية، و الصلاة لها أثر واضح في تحقيق توازنها واعتدالها، فهي تربي المسلم على الاجتماع بالناس والتواصل معهم خمس مرات في اليوم في صلاة الجماعة، وعلى مستوى أوسع مرة كل أسبوع في صلاة الجمعة، ومنه أطلق المسلمون على المسجد الذي تقام فيه الجمعة المسجد الجامع، وقد حل هذا الوصف " الجامع" في كلام العامة محل المسجد في كثير من كلامهم ، وفي هذا الاجتماع العبادي آثار تربوية ونفسية كثيرة كالشعور بالانتماء والوحدة والمساواة والتواضع... والتربية على النظام والانضباط ، وتخرج المسلم من الوحدة والانعزال والانطواء ... بالإضافة لما يوفره المسجد من مواعظ ودروس وخطب... تنمي الجوانب المتعددة من شخصية المسلم معرفيا ونفسيا وسلوكيا ...
الذكر والدعاء وآثارهما النفسية
أغلب ما قيل في الصلاة يثمره كذلك الذكر والدعاء ، فالصلاة في اللغة تعني الدعاء، وأقوال الصلاة كلها أذكار وأدعية، فذكر الله هو المقصد الأعظم من تشريعها، قال تعالى في سورة طه يخاطب موسى عليه السلام : "وأقم الصلاة لذكري ". و الذكر والدعاء عبادتان لم يشترط لهما الشرع شروطا محددة كشروط الصلاة، فيمكن الذكر والدعاء في كل حال، فلا تشترط طهارة ولا استقبال القبلة وما أشبه ... حتى يكون المؤمن في حال الذكر وقتما شاء، ولا يكلفه ذلك غير تحريك لسانه بقوله سبحان الله، أو الحمد لله، أو الله أكبر، أو لا إله إلا الله، أو الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو الاستغفار، أو الدعاء... فيخرج من حال الغفلة أصل الهموم والغموم، إلى حال الذكر أصل السكينة والطمأنينة قال تعالى: "ألا بذكر الله تطمئن القلوب ". وقد وصف الله الذاكرين العقلاء المتفكرين في خواتيم سورة آل عمران بقوله:" إن في خلق السماوات والارض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم" بمعنى يذكرون الله على كل أحوالهم.
وفي الأوقات العصيبة التي يضطرب فيها التوازن النفسي لأكثر الناس تكون الحاجة إلى ما يطمئن أكثر، ففي أوقات الشدة والهموم والغموم يلجأ المومنون إلى الله ليكشف عنهم الشدة والكرب، فيما لا يجد الجاحدون لدعاء الله إلا الدعاء بالويل الثبور والسب والتسخط ، وقد قص القرآن الكريم نماذج لابتلاءات الأنبياء أشرت إلى بعضها في المقال السابق في فقرة الإيمان بالرسل وأثره، وهنا أشير بإيجاز إلى بعض مواقفهم في الدعاء عند الكرب، ومن القصص التي ذكرها القرآن الكريم قصة يونس عليه السلام قال الله عز وجل : ( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ) (الأنبياء/ 87 88. )
وحتى لا يقول مؤمن إن هذه معجزة، وهي خاصة بالأنبياء، ختم الله تعالى القصة بالوعد العام لكل المؤمنين، فقال : "وكذلك ننجي المؤمنين " وروى الحاكم عن سعد رضي الله عنه قَالَ : " كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ : ( أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا نَزَلَ بِرَجُلٍ مِنْكُمْ كَرِبٌ ، أَوْ بَلَاءٌ مِنْ بَلَايَا الدُّنْيَا دَعَا بِهِ يُفَرَّجُ عَنْهُ ؟ فَقِيلَ لَهُ : بَلَى ، فَقَالَ: دُعَاءُ ذِي النُّونِ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) رواه الترمذي (3505)وصححه الألباني في " الصحيحة " (1744)، ولفظه : (دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ : لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ ) وصححه الألباني في " صحيح الترمذي " .
ثانيا: الزكاة والصحة النفسية
آثار الزكاة وفوائدها النفسية والاجتماعية أجملها قوله تعالى:" خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها." (التوبة من الآية : 103 )، فنفس الإنسان مجبولة على حب المال والحرص عليه والبخل والشح والطمع والحسد...فتلك طباع الإنسان الذي لم تعمل في نفسه التزكية الإيمانية، قال تعالى في سورة المعارج :"إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26)..." ففرض الله تعالى الزكاة لتكون علاجا لهذه النفوس سواء نفوس الأغنياء ونفوس الفقراء، فهي تطهر وتزكي نفوس الأغنياء من أهل الهلع والجزع والمنع... لتخفف من مشاعر الحرص وحب المال عند الإنسان المنوع، وما ينتج عنها من اضطرابات الخوف على المال عند الإنسان الهلوع، ومشاعر القلق والتوتر عند الإنسان الجزوع، وهذه المشاعر النفسية مصاحبة للأغنياء في معاملاتهم المالية ، كما تطهر وتزكي نفوس الفقراء وتطهرهم من مشاعر الحقد والعداوة والشعور بالحرمان... وهذه المشاعر النفسية قد ترتبط ارتباطا وثيقا بالصفات الثلاث الواردة في الآية وهي: الإنسان الهلوع، الجزوع، المنوع، وإن اختلفت الصور من فريق إلى آخر.
ومن آثار الزكاة أنها تجعل قيم التضامن والتعاون والمحبة والأخوة تحل محل مشاعر العداوة والكراهية والحسد، لأن الإنسان من طبعه محبة من أحسن إليه ، فتكون الزكاة طهارة للفقراء والأغنياء وتزكية للجميع، في مقابل هذه القيم نجد فلسفات مادية بنت فكرها على الصراع الطبقي الذي تغذيه مشاعر العداء بين فئات المجتمع ...
يقول القرضاوي في معنى الزكاة: " فالزكاة فيها معنى الطهارة، ومعنى النماء كلاهما، هي طهارة لنفس الغني من الشح البغيض ... وهي في الجانب الآخر طهارة لنفس الفقير من الحسد والضغن على ذلك الغني الكانز لمال الله عن عباد الله ... وهي طهارة للمجتمع كله من عوامل الهدم والتفرقة ... ثم هي طهارة للمال فإن تعلق حق الغير بالمال يجعله ملوثا لا يطهر إلا بإخراجه منه ... وقال عن فعل الزكاة في نفس الفقير: "الزكاة أيضا نماء لشخصية الفقير ... حيث يحس أنه ليس ضائعا في المجتمع ولا متروكا لضعفه وفقره." (العبادة في الإسلام للقرضاوي ، ص 249-251)
وهذه المعاني مأخوذة من معنى الزكاة في اللغة ومن قوله تعالى:" خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها."( التوبة من : 103)
التطوع بعد الزكاة
يربى الإسلام الحس الاجتماعي لدى المسلمين، ويرغبهم في إنفاق المال والإحسان إلى الفقير والمحتاج تطوعا، بالإضافة إلى الزكاة الواجبة، وعندنا في تراثنا الفقهي أحكام أنواع كثيرة من التبرعات كالصدقة والهبة والوصية والوقف والعارية والقرض... ولتربية الإنسان على بذل المال وهو المجبول على حبه، رغبه القرآن بالأجر العظيم فقال الله تعالى: " مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ".(البقرة 245) وقال تعالى: " فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة " (البلد 11-16) . ومن الأحاديث قول الرسول: " فاتقوا النار ولو بشق تمرة".صحيح مسلم كتاب الزكاة باب الحدث على الصدقة ولو بشق تمرة.
ومن الآثار النفسية ما يجده المزكي والمتصدق والمتطوع من الشعور بالرضا والانشراح عندما يدخل الفرحة على غيره من الفقراء والمحتاجين واليتامى والأرامل... وغيرهم من الفئات الاجتماعية المحتاجة للعون ، وهي حالة نفسية يشعر بها من يدخل السرور على غيره، ومن هذا القبيل ما نلاحظ في هذه الأيام من الفرحة العارمة التي تغمر الأطر الطبية عندما يسترجع مرضى كورونا الذين عالجوهم عافيتهم، وفرحة الشباب المتطوع بالخير بمختلف أصنافه...
ثالثا: الصيام والمناعة والصحة النفسية
أثبت الأطباء المسلمون وغيرهم ما في الصيام من الفوائد الصحية ، وهذه الفوائد وغيرها، أجملها قوله تعالى : " وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون ." (البقرة من 184 )، ومعلوم ارتباط الصحة النفسية بالصحة العامة، وارتباط المناعة بالصحة النفسية...إلا أن بعض المحترفين للشذوذ عن هوية المغاربة استغلوا انتشار الوباء ليتقمصوا دور الناصح للناس وأن الصيام سيضعف مناعتهم، مناقضين لأنفسهم و إنكارهم حديث غير المتخصص فيما ليس من تخصصه، فإذا بهم يحشرون أنفسهم في موضوع المناعة الذي لا صلة له بتخصصاتهم، هذا إن كان لهم تخصص غير سب الدين والطعن فيه، تارة بالتصريح وتارة بالتورية والتلميح، فقد أثبت أهل الاختصاص بالبحوث والدراسات والتجارب... ما في الصيام من الفوائد الصحية وتقوية المناعة، ولما كان هذا الصنف لا يعترف إلا بما يصدر عن المراكز العلمية الغربية، فإن كثيرا من أبحاثها أكد هذه الحقيقة، فقد أكد البروفسور شكيب عبد الفتاح، الاختصاصي في الأمراض المعدية بالمستشفى الجامعي ابن رشد بالدار البيضاء، في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء في موضوع الشروط الصحية للصوم، أن الصوم والنوم الصحي دعامتان لتقوية مناعة الجسم، وأن الإمساك عن الطعام والنوم الجيد يعملان على إيقاظ الخلايا النشيطة التي تحد من الآثار الجانبية للعديد من الأمراض، بما فيها الأمراض الفيروسية من قبيل (كوفيد 19) وأشار إلى أن العديد من الأبحاث العلمية التي أجريت خاصة بأوروبا وأمريكا وآسيا، أكدت على أهمية الصيام كمنهاج وأسلوب علاجي ووقائي، ومنها إحدى الدراسات لجامعة (ساوثرن كاليفورنيا الأميركية) التي خلصت إلى أن من مزايا الإمساك عن الطعام، ولو بمعدل ثلاثة أيام في الأسبوع، تمكين الجسم من الاقتصاد في استهلاك الطاقة، وتحفيزه على تجديد وتكثيف كريات الدم البيضاء مما يسهم في تقوية جهازه المناعي.
وأكد البروفيسور عبد الفتاح أنه بفضل الصوم يتخلص الجسم من الشوائب والسموم التي تعيق وظيفة جهاز المناعة، مما يسهم في الرفع من حيويته وفاعليته، بالإضافة على أثر الصوم في خفض السكر والدهون والأنزيمات والهرمونات الضارة... ولكن "بروفيسور المناعة" خاف على مناعتكم من الصيام... !!
الصيام تربية على التقوى والمراقبة
يمكن إجمال فوائد الصيام في تربيته على التقوى، والتقوى هي مفتاح كل خير، ومغلاق كل شر، قال الله تعالى :" يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون. (البقرة : 183). قال ابن كثير :" يقول تعالى مخاطبا المؤمنين من هذه الأمة وآمرا لهم بالصيام وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع بنية خالصة لله عز وجل، لما فيه من زكاة النفوس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة ...لأن الصوم فيه تزكية للبدن وتضييق لمسالك الشيطان ."( تفسير ابن كثير:1/211) وذكر ابن العربي في تفسير " لعلكم تتقون" ثلاثة أقوال :
- لعلكم تتقون ما حرم عليكم فعله
- لعلكم تضعفون فتتقون، فإنه كلما قل الأكل ضعفت الشهوة وكلما ضعفت الشهوة قلت المعاصي .
- لعلكم تتقون ما فعل من كان من قبلكم (أحكام القرآن:1/108).
فالتقوى تدل على معاني الخوف من الله الدافع إلى العمل الصالح والمانع من المعاصي، ومعاني استحضار مراقبة الله وعلمه بأقوال وأفعال العباد، مما يثمر يقظة ضمير المؤمن، واستقامة سلوكه وهذا يتعلق بالمباحث الإيمانية التي تناولها المقال السابق.
الصيام تربية للإرادة وضبط النفس
أرجع العقلاء من المسلمين وغيرهم الكثير من المشاكل إلى العادات والطباع الغالبة على السلوكات البشرية التي يطبعها النهم والتنافس في الاستهلاك وهي الطباع التي تغذيها وسائل الإعلام بالإعلانات المدفوعة لصناعة الإنسان المستهلك المسرف المبذر بدون مبالاة بصحته أو بيئته، أو فقر من حوله ، ولا سبيل لتغيير هذه الطباع إلا بتربية هذا الإنسان على الصبر على شهواته وتقوية إرادته على تنفيذ قناعاته ، وهو ما تحققه مدرسة الصيام، وهي مدرسة التقوى وضبط النفس والتحكم في شهواتها... ومن الأحاديث الدالة على صلة الصوم بالصبر والإرادة، قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "والصوم نصف الصبر. " رواه الترمذي في كتاب الدعوات ،باب ما جاء في عقد التسبيح باليد) وقوله صلى الله عليه وسلم :" يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج...ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ." رواه مسلم في كتاب النكاح،باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة .
وقوله صلى الله عليه وسلم :" إذا أصبح أحدكم يوما صائما فلا يرفث، ولا يجهل، فإن امرؤ شاتمه أو قاتله ، فليقل إني صائم، إني صائم ." رواه مسلم في كتاب الصيام باب حفظ اللسان للصائم.
يقول القرضاوي : "الصوم تقوية للروح ... ومن هنا فرض الله الصيام ليتحرر الإنسان من سلطان غرائزه وينطلق من سجن جسده، ويتغلب على نزعات شهوته ويتحكم في مظاهر حيوانيته، ويتشبه بالملائكة " ..." وفي الصوم تقوية الإرادة وتربية على الصبر فالصائم يجوع وأمامه شهي الطعام، ويعطش وبين يديه بارد الماء، ويعف وبجانبه زوجته، لا رقيب عليه في ذلك إلا ربه ولا سلطان إلا ضميره ... واستدل ببحث عالم نفساني ألماني أثبت فيه أن الصوم أعظم وسيلة لتقوية الإرادة" العبادة في الإسلام، ص:،262 -265
التربية الاجتماعية في الصيام
" من أسرار الصيام الاجتماعية أنه تذكير عملي بجوع الجائعين، وبؤس البائسين ....حتى يشعر الغني أن هناك معدات خاوية ... فحري بإنسانية الإنسان، وإسلام المسلم وإيمان المؤمن أن يرق قلبه، وأن يعطي المحتاجين ." (العبادة في الإسلام للقرضاوي،ص،26 ) وشرع الإسلام في الصيام أحكاما للمفطر بعذر، وللمفطر عمدا يعود نفعها على الفقراء والمحتاجين، كالكفارة(إطعام ستين مسكينا) والفدية(إطعام مسكين عن كل يوم)، ويختم الصيام بزكاة الفطر وصلاة العيد، وفيهما التربية على قيم التراحم والتضامن والتزاور والتواصل وصلة الرحم والإحسان إلى الأقارب والجيران...
ختاما أسأل الله الكريم أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والفعل، فالمؤمنون يعبدون الله تقربا إليه وليس طلبا للمنافع العاجلة، ولكن معرفة المؤمن بما في هذه العبادات من الحكم والمقاصد يزيده طمأنينة، خاصة عندما يشكك فيها أشباه المثقفين، فالحكيم العليم أعلم بما يصلح حياة عباده، فشرع لهم من العبادات ما يصلح نفوسهم، ومن الأحكام ما يصلح حياتهم، أما من استنكف عن عبادته واستكبر، وعمي بصره وبصيرته عن رؤية ما في عبادة الله من منافع دينية ودنيوية فقد خاطبه بقوله: "ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى " (طه124).
*أستاذ التربية الإسلامية ، خريج دار الحديث الحسنية، وباحث في الدراسات الإسلامية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.