أثار فوز الطفلة مريم أمجون بجائزة القراءة العربية مشاعر فرح غامرة في قلوب المغاربة صغارا وكبارا، وأتاح انقداح فتيل الأمل في نفوسهم من جديد، فهذه الصغيرة ذات السنوات التسع، استطاعت بهمتها العالية، وفصاحتها، وشجاعتها، وثقتها بنفسها، أن تخلخل ثقلالطالما جثم على أنفاسنا حتى كاد يخنقها قهرا، وأن تبدد سحب يأس تراكمت في أفقنا حتى كسته سوادا. لقد رأينا فيها الطفلة المغربية بنت الشعب المعتزة بمغربيتها، وبرعم المدرسة العمومية الذي لم يكن في حاجة لمؤسسة "تعليمية" تجارية ليزهر، والصغيرة الواثقةالتي لم تر أنها مجبرة على الحديث بلغة أجنبية لتمنح نفسها قيمة مضافة،فانتشينا بذلك غبطة، ورفعنا رؤوسنا بها فخرا. إلا أن كل هذه المشاعر الجميلة الجياشة لم تتمكن من كبح جماح عقولنا التي استفزها هذا الإنجاز،وأثار فيها موجة من التساؤلات المريرة: لماذا لا نجد مريم في كل الأسر المغربية التي لها نفس مقومات أسرة مريم؟لماذا لا تنتج المدرسة المغربية أشباه وشبيهات مريم؟ لماذا لا يكاد شبابنا، بله أطفالنا يقرأون؟ لماذا لا يحتاج طلبتنا لقراءة أي كتاب للحصول على شواهدهم العليا؟لماذا تعاني مكتباتنا الجامعية وغير الجامعية من الكساد…؟ أسئلة موجعة أبت إلا أن تسكب مرارتها على شراب فرحتنا لتفسده. وهي مرارة تستمد شرعيتها وقوتها من وضع القراءة المزري في بلادنا وبلاد أمة "اقرأ" عموما، حيث تجمع التقارير المحلية والدولية المنجزة بهذا الخصوص على أن وضع القراءة ليس متدهورا فحسب،بل لا يتوقف عن الانحدار. إن إطلالة بسيطة على بعض الأرقام التي تقدمها المؤسسات والهيئات المهتمة سنويا تكشف عن وضع كئيب وصادم، وهي بالمناسبة مؤسسات دولية في غياب شبه تام لمتابعة علمية وإحصائية محلية لهذا الموضوع. ومن ذلكمثلا أن ما يقرؤهالمواطن العربي لا يتجاوز ربع الصفحة في السنة،أو ستدقائق، مقابل مئتيساعة للمواطن الأوربي.أوأن كل ثمانينعربيا يقرؤون كتابا واحدا في السنة، مقابل خمسة وثلاثينكتابا لكل أوربي، وأربعينلكل إسرائيلي. وإذا انتقلنا لموضوع لصيق بهذا، لا نكاد نصدق معطيات من قبيل أن ما ينشر بالعالم العربي مجتمعا لا يتجاوز ألفا وست مئة وخمسينكتابا، مقابل خمسة وثمانينألف كتاب بالولايات المتحدةالأمريكية.كما أن نصيب كل مليون عربي من الكتب هو ثلاثين فقط، مقابل ثمان مئة وأربعة وخمسينلكل مليون أوربي.ناهيك عن تصدر العالم العربي سنة 2016لدول العالمفي نسبة الأمية، حسب تقرير منظمة اليونسكو،وذلك ب 19 بالمئة من إجمالي السكان. وفي إطار التراجع المهول للمكتبات العامة، سجلت نفس المنظمة أن العجز في هذا الجانب بلغ بالمغرب أربعة عشر ألف مكتبة. وبالأمس القريب عرفت فعاليات دورة 2018للمعرض الدولي للنشر والكتاب بالدار البيضاء، تراجعا كبيرا في المبيعاترغم زيادة عدد الزوار، حتى إن الوزارة لم تقدم معطيات بهذا الخصوص، إضافة إلى الإقبال الضعيف على الأنشطة الثقافية التي تنظم على هامش المعرض.بل حتى إلكترونيا يحتل الكتاب في محرك البحث غوغل مراتب متأخرة جدا ضمن اهتمامات العرب،فقد بلغ عدد الكتب التي تم تحميلها سنة 2009مئة وخمسينكتابا، مقابل ثلاثة وأربعينمليون فيلم وأغنية. مما يدل على أننا أمام أزمة قراءةلا تنفك عن التفاقم والتفاحش. وبالرغم من أننالسنا هنا بصدد تحليل هذا الوضع والبحث عن أسبابه وحيثياته وحلوله الممكنة، والذي من شأنه أن يكشف عن حقائق أكثر خطورة، فإن مجرد الاطلاع الأولي على هذه الأرقام من شأنه أن يصيبنا بالرعب،لأنه يؤكد أن ما نشاهده بخصوص واقع العلاقة مع القراءة في أسرنا ومدارسنا وجامعاتنا ووسائل مواصلاتنا وفضاءاتنا العمومية، ليس وهما، بل حقيقة تصرخ في وجوهنا يوميا معلنة عن الانحدار الثقافي الذي يجسده بوضوح العزوفالمتزايد عن الكتاب، حتى إننا نوشك أن نصاب بالاستغراب والدهشة عند رؤية شخص يحمل كتابا ثقافيا بدل هاتفنقال، خاصة إذا كان من الشباب. إن أزمة القراءة ليست، بدون شك، سوى وجه واحد من وجوه متعددة لأزمات أخرى تتداخل وتتحالف ضد أوطاننا،لكنها ربما تكون الوجه الأكثر دلالة على أننا نسلك الطريق الخاطئة نحو التنمية والرقي والحضارة، فالشعوب المتقدمة تتصدر العالم في معدلات القراءة وعدد الكتب المنشورة والأعمال المترجمة… وأما التي لا تقرأ فقد حكمت على نفسهاحتما بالتقهقر المعرفي والانحطاط الثقافي والتراجع الحضاري… أعود للجميلة مريم لأوجه لها تحية احترام وتقدير، ولأخص والديها الكريمين بانحناءة إكبار وإجلال لأنهما أهديا الوطن هذا البرعم الشامخ في زمن الانكسار، والرفيع في زمن الرداءة، والمشع أملا ونورا في زمن حيثما ولينا وجوهنا نرى اليأس يوشك أن يعلن انتصاره فينا. شكرا مريم لأنك بإنجازك الباهر نسفت كل أعذارنا، وجعلتنا نشعر بالخجل من اكتفائنا بانتقاد الأوضاع والإلقاء باللوم على الآخرين. شكرا مريم لأنك فتحت الباب مشرعا لأنوار من شأنها أن تشعل فتيل الأمل وتقدح شرارة الهمة في نفوسنا. شكرا مريم لأنك دللتنا ببراءتك وعفويتك على هذه المستشفى التي يحتاج معظمنا ولوجها للاستشفاء من داء التفاهة والرداءة و البلاهة.