الأحد 26 أكتوبر 2014 اشتغلت كثير من الأقلام الصحفية والأدبية المغربية بالرد على ما أفتى به عيد يوسف، أمين عام الفتوى بالأزهر، حسبما نقله عنه موقع صدى البلد المصري، من أنه يتعين على المغاربة اعتماد الحساب في تحديد أوائل الشهور القمرية والمناسبات الدينية، واعتبر أن أداء صلاة العيد والاحتفال به يوم الأحد كانا باطلين، وكذا صيام يوم عرفة، وأنه كان على المغاربة أن لا يخرقوا إجماع المسلمين. وقد تراوحت الردود على فتوى عيد يوسف بين إبداء الامتعاض والاستنكار، والدفاع العام عن الاختيار الفقهي للمغرب، وبين ملامسة جوانب من الفتوى. وعلى الرغم من أن الأزهر بصفته المؤسسية قد نأى بنفسه عما جاء في الفتوى واعتبرها موقفا شخصيا ملزما لصاحبه دون المؤسسة، وأعلن أنه أزاح عيد يوسف عن موقع الفتوى، فكان هذا الإجراء هو ما تتطلبه الرغبة في الحفاظ على أواصر المودة والأخوة الرابطة بين الشعبين المصري والمغربي، فإن هذا الإجراء مع ذلك لا يمس جوهر الدعوى ومضمونها، وإنما يظل في حدود كونه إجراء اجتماعيا له دواعيه ومقتضياته، ولا يستبعد أن يعاد الموضوع إلى الواجهة مرة أخرى بعد سكون العاصفة التي أحدثها، لذا يبقى لزاما أن تناقش الدعوى في عمقها ويحلل مضمونها، وتستعرض قبل ذلك جملة ما شابها من الأخطاء العلمية والمنهجية، وهي أخطاء كثيرة أقتصر على ذكر بعضها وهي كالتالي: 1. إن المفتي تقصد المغرب دون غيره من البلدان بفتواه، مع أن الدول الإسلامية التي أخرت الاحتفال بعيد الأضحى إلى ما بعد يوم السبت هي 14 دولة إسلامية، ولو أن الأمر تعلق بإبداء فتوى شرعية، لاكتفى المفتي بتعميم الحكم ولم يخص به المغرب تحديدا، لكنه لما خص المغرب، فإنه قد ألقى على فتواه ظلالا من شبهة قوية وقصد واضح إلى الإساءة إلى بلد بعينه. والأصل الذي يعرفه المفتي أن التخصيص لا يرد بعد العموم إلا لسبب أو نكتة كما يقول البلاغيون، وأوضح سبب في هذه الحالة هو قصد استغلال فتوى غير شرعية لقضاء مآرب غير شرعية. 2. إن المفتي قد تطوع بفتواه من غير أن تطلب منه، وقد تعمد تهريبها وإخراجها من الباب الخلفي لمؤسسة الأزهر، فلم يخضعها لضوابط إصدار الفتاوى العامة، كما تعتمدها كل المجامع الفقهية ومؤسسات الإفتاء الجماعي في البلاد الإسلامية. والأصل في الفتوى أنها ليست قولا مرسلا ولا إرشادا عاما، وإنما تنبني على سبب خاص هو توجه سؤال محدد تكون الفتوى إجابة عنه، وهو ما يشهد له استعمال القرآن الكريم إذ يقدم لها بقوله تعالى: "يستفتونك" و"يسألونك" ثم يورد الفتوى، وقد جمع غير واحد من العلماء نصوص فتاوى رسول الله صلى الله عليه وسلم وميزها عن خطاباته العامة، فكان منها كتاب فتاوى إمام المتقين ورسول ربّ العالمين لابن قيم الجوزية، وكلها فتاوى منزلة على استفتاءات وجهت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأجاب عنها بفتوى محددة، وذكر ابن عاشور أن الفتوى والقضاء هما تطبيق للتشريع، ويكونان في الغالب لأجل المساواة بين الحكم التشريعي، والحكم التطبيقي. ["مقاصد الشريعة" لابن عاشور (ص:31)]. ويؤصل هذا بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لم يعلم الرجل المسيء لصلاته إلا بعد أن عبر الرجل نفسه عن رغبته فقال: "والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني يا رسول الله" [صحيح البخاري؛ كتاب الأذان؛ باب وجوب القراءة للإمام في الصلوات كلها…]. فعلمه صلى الله عليه وسلم كيف يؤدي صلاته لتكون صلاة صحيحة. وعلى هذا، فإن السؤال المطروح هو من استفتى مفتي مصر حتى تطوع له بالجواب؟ مع أن الجميع يعلم أن الفتاوى ذات الطابع العام والملزمة التي يؤخذ بها في المغرب لها جهة اختصاص تصدرها هي المجلس العلمي الأعلى، وإلا فإنه يصير بإمكان كل الطوائف والمذاهب العقدية والتيارات أن تضخ فتاواها في الساحة المغربية فتحدث بها الارتباك والاضطراب. 3. إن إصدار أي فتوى على مستوى المجامع الفقهية في العالم الإسلامي يمر عبر إجراءات ومراحل معينة، تبدأ بإحالة المؤسسة لما يصلها من الاستفتاءات على جماعة من المختصين تمارس الاجتهاد الجماعي، فتتداول الموضوع وتناقشه، وتتفق على جواب يحرر بشأنه محضر يذيل بإثبات أسماء أعضاء اللجنة، ثم يصدر الجواب باسم المؤسسة لا بأسماء الأشخاص، وكل هذا تجاوزه المفتي فأقام نفسه مقام اللجنة وأخل بمسؤوليته، واستغل موقعه من الأزهر لتسويق فتوى غير شرعية ولا محترمة للضوابط المعمول بها. 4. إن الأصل الذي يعرفه كل علماء الإسلام هو أن الخلافات الفقهية لا يجوز أن تكون موضعا للإنكار، وقد تأصلت لدى علماء المسلمين قاعدة ذهبية هي أنه: لا إنكار في مسائل الخلاف، ويقول النووي عنها: (إن العلماء إنما ينكرون على ما اجتمع على إنكاره، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه) [شرح النووي لصحيح مسلم (2/23)، دار الفكر بيروت]، وهذه قاعدة سليمة وإن حاول البعض أن يفرغها من مضمونها ببعض الاستثناءات، ويدعم القاعدة وبكل قوة أصل اجتهادي آخر مقرر في علم أصول الفقه هو أصل التصويب الاجتهادي، ومؤداه أن كل مجتهد في القضايا الفقهية مصيب، بسبب أنه بذل جهده ووفى بما كان مطلوبا منه وهو الاجتهاد، أو بسبب أن لله حكما معينا في النازلة، لكن المجتهد ليس مكلفا بإصابته تحديدا. ["البرهان في أصول الفقه" للجويني (2/1322)]. ويؤيد القاعدة السابقة نظرية اجتهادية أخرى هي نظرية تكافؤ الأدلة فيما هو غير قطعي. ["جمع الجوامع" للسبكي، كتاب التعادل والترجيح]. والغريب أن هذه القواعد يعتمد أغلبها مذهب الشافعي الذي ينتسب إليه المفتي أكثر مما يعتمدها غيره. والشافعي هو وحده الإمام الذي له مذهبان في الفقه أحدهما قديم منشؤه في العراق، والآخر جديد قال به في مصر لما انتقل إليها. ["الفكر السامي" (1/397)] وهو الإمام الذي تميز أيضا بأن له قولين في مسائل ذكر المروزي أنها تبلغ سبع عشرة مسألة ["شرح اللمع" لأبي إسحاق الشيرازي (2/1079)]، والشافعي هو الذي ينسب إليه القول: قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب. ومن قبل الشافعي اختلف الصحابة في مسائل من الفقه، وعذر بعضهم بعضا، فاختلفوا في مدلول أمر النبي صلى الله عليه وسلم ألا يصلي أحدهم العصر إلا ببني قريظة. وخالفت عائشة رضي الله عنها بعض الصحابة، وجمعت فتاواها المخالفة في كتب خاصة منها: كتاب الإجابة لما استدركته عائشة على الصحابة للزركشي. وخالف أبو بكر بقية الصحابة بموقفه من مانعي الزكاة، وخالف عمر الصحابة في قضايا كثيرة جدا، وخالفهم على الأخص في منع تقسيم الأراضي التي غنمها المسلمون في العراق، وفي قضائه بتركها بأيدي أهلها، وخالف عثمان الصحابة لما جعل يد الصانع يد ضمان بعد أن كانت تعتبر يد أمان، ولم يعتبر طلاق الرجل وتصرفاته المالية حالة مرضه المتصل بالوفاة، وخالف علي بقية الصحابة في قضية كان قد وافقهم عليها، فقال له عبيدة السلماني: رأيك مع صاحبيك أحب إلينا من رأيك وحدك، ويمكن الوقوف على هذه الاجتهادات الخلافية في مصادر التشريع الإسلامي مثل كتاب: ["الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي" لمحمد الحجوي الثعالبي (ج1/227 إلى 252)، دار التراث القاهرة 1396]. وباعتماد قاعدة أن الإنكار لا يقع في غير القطعي المختلف فيه، استطاعت الأمة أن تجمع بين تنشيط الاجتهاد من جهة، والمحافظة على الوحدة الإسلامية من جهة أخرى، وحين يصر البعض على توظيف الاختلافات الفقهية، فإنه يسعى إلى تحويلها إلى أسباب للنزاع والتوتر والخصومة. 5. لقد وقع المفتي في خطأ فقهي جسيم لا يقع فيه من ألم بالفقه الإسلامي، وذلك حين أفتى بأن إحياء المغاربة لعيد الأضحى باطل، لأنهم تأخروا به إلى يوم الأحد، وما يعرفه طلاب العلم أن عيد الأضحى ثلاثة أيام، هي أيام التشريق، وقال الشافعية هي ثلاثة أيام بعد يوم العيد، ويجوز فيها كلها ذبح الأضاحي لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " كل أيام التشريق ذبح " [ابن حبان كتاب الحج باب الوقوف بعرفة والمزدلفة والدفع]. وقد صرح الشافعي في كتاب الأم وهو أصل المذهب الذي ينتمي إليه المفتي أنه لا يضيق على المضحي، وأنه يجوز أن يؤخر التضحية إلى بعض اليوم، أو إلى غد أو إلى بعد غد. [كتاب الأم للشافعي 2/223] وعلى هذا، فإن إبطال العيد في اليوم الثاني على فرض أن المغاربة ضحوا فيه هو مخالفة لنص الحديث أولا، ولما تقرر في مذهب الشافعي الذي يفتي به المفتي، وفي غيره من المذاهب الفقهية. 6. لقد ذهب المفتي بعيدا في التغليط حينما ادعى أن المغاربة يخرقون الإجماع بتحديدهم لأوائل الشهور القمرية، وجه الخطأ في هذا الادعاء هو أن الإجماع على بدايات الشهور القمرية لم يقع لا في هذه السنة ولا في سنوات سابقة، وقد ظلت الشعوب الإسلامية منذ مدة بعيدة مختلفة في تحديد بدايات الشهور القمرية، وبدايات الصيام ونهايات رمضان، وحين يبلغ الأمر بالشخص أن يتصور الإجماع واقعا، مع أن الجميع يعرف أنه لم يقع، فإن معنى ذلك أن لدى الشخص خللا في الرؤية والتصور، قبل أن يكون له خلل في الإفتاء وإصدار الأحكام. 7. إن الفتوى التي أطلقها المفتي قد جاءت في خضم موجة من التحامل والقصف الممنهج المسدد إلى المغرب من مصادر إعلامية وفنية وسياسية عادة ما تكون متباعدة في مرجعياتها وفي مقاصدها وفي درجة حضورها الاجتماعي، لكنها حين تلتقي رغم اختلافها على تقصد هدف موحد فإن ذلك يكون في غاية الغرابة. إن مظهر الخلل في الفتوى أن احتفال المغرب بعيد الأضحى في هذه السنة، ليس المرة الأولى التي يختلف فيها عن بعض الدول في تحديد أوائل الأشهر القمرية، وطريقته في إثبات بدايات الشهور معلومة لعلماء الأزهر وغير الأزهر منذ زمن طويل، وقد شهد الكثير منهم، ومنهم بعض شيوخ الأزهر بالمغرب مناسبات دينية موقتة ببدايات الشهور القمرية، ومنها على الأخص شهر رمضان الذي حضر وحاضر فيه شيوخ الأزهر في الدروس الحسنية، بل واشترك أحدهم وهو الشيخ عبد الرحيم عبد البر في النقاش الذي دار حول رؤية الهلال بمناسبة وقوع نازلة فاس، وألقى درسا حسنيا عن رؤية الهلال، وألف علال الفاسي كتابا عنونه بالجواب الصحيح والنصح الخالص عن نازلة فاس وما يتعلق بالشهور الإسلامية والعربية. وخلال تلك المرحلة كانت قضية إثبات أوائل الشهور موضع نقاشات علمية ولم يتجاوز هذه العتبة، ولم يكن لعلماء الأزهر إنكار ولا انتقاد بعلمهم بمستند الرؤية في المغرب، لذا كان اختيار هذه اللحظة وهذا الظرف بالذات مثيرا للشبهة. إن الأكيد هو أن الاشتغال على الاختلافات الفقهية وتضخيمها والانتهاء بها إلى القول بإبطال عبادة المخالف حينما يقترن بالتعصب، فإن بإمكانه أن يحدث في المجتمعات الإسلامية من التصدع والافتراق والصدام مثل ما أحدثته الطائفية والخلافات العقدية في الأمة الإسلامية راهنا، فأدى ذلك إلى وضع كارثي تعيشه الأمة، وقد أدرك الأغيار ما يمكن أن يؤدي إليه الإلحاح على الخلافات العقدية من تفرق واحتراب داخلي فوقع التركيز عليها حتى أصبحت كثير من جهات العالم الإسلامي مسرحا لها. وبما أن المغرب تميز بوحدته العقدية والمذهبية منذ أن حسم مع الطائفية في فجر تاريخه وبجهود علمائه، فإن المدخل المتبقي والممكن إلى إحداث التشظية والتفريق لن يكون إلا هذا الإلحاح المبالغ فيه والمتكرر على تصوير التدين في المغرب على أنه تدين مخالف للشريعة، وأن سنده الشرعي ضعيف لا يثبت أمام البحث والتمحيص. إن المعروف عن علماء مصر أن منهم علماء كبارا اشتغلوا على الخلاف العالي، واحتضنت رحاب الأزهر أروقة المذاهب الفقهية، واشتغل بعضهم على الجمع بين المذاهب في العصر الحديث، ومنهم الشيخ عبد الرحمن الجزيري (ت 1941) الذي قدم للمكتبة الفقهية الحديثة كتاب "الفقه على المذاهب الأربعة"، ومنهم الشيخ محمد أبو زهرة (ت 1974) الذي كتب عن أئمة المذاهب وخصوصيات كل مذهب. وعلماء مصر يعرفون ما للمذهب المالكي الذي يأخذ به المغاربة من خصوصيات استنباطية، ومن كثرة مصادر استقاء الأحكام فيه، وهي التي أكسبته رحابة وجعلته قادرا على أن يجيب عن نوازل العصر وقضاياه، وهذا ما نوه به الشيخ أبو زهرة في كتابه عن مالك. [مالك، محمد أبو زهرة 376 دار الفكر العربي] وعلماء مصر يعرفون أن للمدرسة المالكية بالغرب الإسلامي تفردات تميزت بها عن نظيراتها المالكية في مصر والعراق، وأنها تفردت بقضايا أحصى منها عبد الرحمن الفاسي في منظومته عما جرى به العمل بفاس 300 مسألة، [العرف والعمل ما للمذهب المالكي في المذهب المالكي عمر الجيدي ص 348 ط وزارة الأوقاف المغرب 1984]. كما أن علماء مصر أيضا يعرفون أن للمذهب المالكي خصوصيات في إثبات الرؤية الشرعية للأهلة، لأن بعضهم علماء مالكيون قدماء يتقنون المذهب المالكي الذي يأخذ به المغاربة، بل إنهم كانوا يعتبرون من أثبت الناس في معرفة المذهب حتى قيل قديما إذا اختلف المدنيون والمصريون من المالكية، فالراجح قول المصريين، لأن منهم بعض أعلام المذهب كابن وهب الذي لزم مالكا أكثر من 20 سنة، وأشهب الذي أخذ عن مالك وعن المدنيين، ويكفي أن يكون عبد الرحمن بن القاسم أحدهم، وهو الذي قيل عنه: إن القول الراجح في المذهب ما كان ابن القاسم من القائلين به، ومنذ نشأة المذهب على يد مالك ترافق ابن القاسم الذي صحب مالكا سبع عشرة سنة كما يقول عن نفسه فيما حكاه عياض. ["ترتيب المدارك وتقريب المسالك" لعياض 3/250] مع يحيى بن يحيى الليثي المصمودي. ["مفاخر البربر" ص:166 تحقيق بوباية دار أبي رقراق] وهو أثبت من أخذ الموطأ عن مالك، وإلى نسخته ينصرف الإطلاق إذا ذكر الموطأ من غير تقييد، [ترتيب المدارك للقاضي عياض 3/381]. وعلماء مصر أغلبهم شافعية يعرفون جزئيات فقه مذهبهم، ويعرفون جيدا أن ما يعتمده المغرب في قضية إثبات الأهلة هو أيضا قول قوي في مذهبهم، تضمنته مصادر الفتوى المعتمدة لديهم، وبه أفتى علماء شافعيون مصريون، من أشهرهم تقي الدين السبكي (ت 756) ومنهم شهاب الدين أحمد القليوبي (ت 1069ه) والمستغرب أمرا أن ينكر المفتي على المغاربة ما هو مقرر في مذهبه، ويصف من يأخذ به بأنه ناقض للإجماع الذي لم يتحقق مطلقا. فقه إثبات الأهلة إن إثبات الأهلة في الفقه المالكي يتحقق بالرؤية البصرية العادية، أو بمساعدة منظار بناء على قول النبي صلى الله عليه سلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) [صحيح البخاري كتاب الصوم باب قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم الهلال فصوموا..]. وقوله أيضا: (لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له). [صحيح البخاري كتاب الصوم باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم الهلال فصوموا..]. وتعليق الصوم على رؤية الهلال منسجم مع جعل الصيام شهرا كاملا، لأن الشهر القمري هو المدة الزمنية المحدودة برؤيتين: إحداهما في بدايته، والثانية في نهايته، والرؤية تجري على نمط كل الأسباب الشرعية التي يقول عنها الأصوليون: إن السبب أمر ظاهر منضبط، وتعليق لزوم الصيام على الرؤية يجعل إثباتها في متناول كل الناس، لأن السماء فضاء مشترك بين جميع الناس، ومن ثم لا تستأثر بها فئة من أهل الخبرة، ولا تتحكم فيها نخبة كما تشاء. لكن الكثير من الفقهاء يضيفون إلى اشتراط الرؤية شرطا آخر هو أن يمهد لها الحساب الفلكي بأن يقرر إمكان تحققها، فإذا جزم علم الفلك بأن الرؤية مستحيلة، فإن دعوى رؤية الهلال لا تصح من أحد، وهذا هو ما يعتمده المغرب في رؤيته وهو ما أفتى به علماؤه، ووافقهم عليه علماء الشافعية خصوصا، وهو ما تفتي به حاليا الكثير من المراجع الفقهية. من الفقهاء الشافعية المصريين الذين أفتوا باشتراط الإمكان الفلكي لإثبات الرؤية العلامة تقي الدين السبكي المتوفى سنة (ت756) وقد كان يرى أن العد الفلكي قطعي، وأن الرؤية ظنية، فوجب ألا ينقض القطعي بالظني، يقول السبكي في فتاواه ما نصه: وهاهنا صورة أخرى هو أن يدل الحساب على عدم إمكان رؤيته، ويدرك بمقدمات قطعية، ويكون في غاية القرب من الشمس، ففي هذه الحالة لا يكون فرض رؤيتنا له حسا، لأنه يستحيل، فلو أخبرنا به مخبر واحد أو أكثر ممن يحتمل خبره الكذب أو الغلط، فالذي يتجه قبول (عدم) هذا الخبر وحمله على الكذب أو الغلط، ولو شهد به شاهدان لم تقبل شهادتهما، لأن الحساب قطعي، والشهادة والخبر ظنيان، والظن لا يعارض القطع، فضلا عن أن يقدم عليه، والبينة شرطها أن يكون ما شهدت به ممكنا حسا وعقلا وشرعا. [فتاوى السبكي 1/209 دار المعرفة بيروت]. ويقول شهاب الدين أحمد القليوبي (ت 1069ه) في حاشيته على شرح جلال الدين المحلي لمنهاج الطالبين. قال العلامة العبادي: إنه إذا دل الحساب القطعي على عدم رؤيته لم يقبل قول العدول لرؤيته وترد شهادتهم بها انتهى. [حاشية القليوبي على شرح جلال الدين المحلي لمنهاج الطالبين ج2 ص:49 ط. 1956 مطبعة البابلي الحلبي وأولاده بمصر]. أما دعوة المفتي إلى الاقتصار على الأخذ بالحساب، من أجل إثبات أوائل الشهور ولو لم تحقق الرؤية، فإن بالإمكان مواجهته بما أفتى به عالم مصري أزهري آخر هو الشيخ محمد أحمد عليش المتوفى سنة (ت 1299ه) وهو رجل ثبت له فتاوى ضمنها كتابه فتح العلي المالك، ويعتبر شرحه منح الجليل من آخر ما شرح به المختصر. سئل عليش عما وقع من بعض الشافعية مشهورا بالعلم والديانة من اعتماده ثبوت رمضان وشوال على حسابه سير القمر وعدم اعتباره لرؤية الهلال بالبصر، واتفق له مرارا صومه قبل عموم الناس… فهل هذا صحيح في مذهب الإمام الشافعي فيجوز موافقتهم عليه؟ أو هو ضلال يجب إنكاره والنهي عنه بحسب الإمكان وتحرم موافقتهم فيه؟ فأجاب عليش: نعم، هو ضلال تحرم موافقتهم فيه، ويجب إنكاره، والنهي عنه على حسب الإمكان، إذ هو هدم للدين ومصادم لصريح حديث سيد المرسلين…، والواقع من هذا وأتباعه لا يوافق أقوال الإمام الشافعي ولا غيره من الأئمة. [فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك محمد أحمد عليش 1/168 دار الفكر]. وفي هذا الفتوى رد واضح على الدعوة إلى الاكتفاء بالحساب دون الرؤية، وأنه ليس من فقه مذهب الشافعي الذي ينتمي إليه المفتي، وليس من مذهب غيره أيضا. وبهذا يتبين أن الرؤية المغربية تجري على أصل الاستيثاق والاحتياط الذي اشتهر به مذهب مالك. أين الخلل إذن؟ إن سبب الإشكال الذي يتكرر في كل سنة يعود إلى أن بعض الدول أصبحت تعتمد مجرد اقتران الشمس مع القمر والأرض، وتعتبر ذلك ميلادا للقمر، فتعلن عن بداية الشهر بعد الاقتران ولو لم ير الهلال، مع العلم أن انفصال القمر عن الشمس لا يسمح برؤيته إلا بعد مرور 17 ساعة لتكون الرؤية عسيرة أو بعد مرور 18 ساعة لتكون الرؤية ممكنة، ويكون الهلال قد تشبع بنور الشمس، وهذا لا يتم إلا بعد مرور 50 دقيقة تسمى دقائق النور، وحين تنعدم هذه الشروط، فإن من المستحيل الحديث عن الرؤية التي اشترطها حديث النبي صلى الله عليه وسلم للصيام لما قال: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، ومنع منه لما قال: لا تصوموا حتى تروا الهلال، فإذا قال علم الفلك باستحالة الرؤية، فإن الذين يقولون بالرؤية حينئذ يعرضون قولهم للتكذيب وتدينهم للاتهام بقيامه على الوهم، لأن المراصد الفلكية قد أثبتت وثوقيتها ودقتها حينما أخبرت مرات عديدة عن وقوع ظواهر فلكية نادرة حددت لها أزمنة الوقوع وأمكنة الرؤية، فوقعت كما أخبرت بها المراصد مثل إخبارها سلفا عن مرور مذنب هالي أمام الأرض يوم 10 فبراير سنة 1986، وحدوث ما توقعته في الموعد المحدد، وتوقعها أن يعود إلى الظهور سنة 2061، وإخبارها عن حدوث الكسوف والخسوف مرات عديدة، ووقوعهما في الزمن الذي أخبرت بها. وبخصوص رؤية هلال ذي الحجة لهذه السنة 1435ه، فإنه يتبين أنها كانت مستحيلة يوم الأربعاء 28 ذي القعدة، لأن الاقتران وقع على الساعة 7:15 دقيقة وكان الغروب على الساعة 19:08 دقائق بالتوقيت المحلي لمدينة وجدة الواقعة في أقصى شرق المغرب، ولهذا لم يكن بين الاقتران والغروب إلا 12 ساعة و23 دقيقة، ولم تتجاوز دقائق النور 14 دقيقة، وكل هذا يجعل الرؤية مستحيلة علميا، فكان أول شهر ذي الحجة هو يوم الجمعة، ويوم عرفة الذي هو تاسع ذي الحجة هو يوم السبت، ويوم عيد الأضحى هو يوم الأحد. وتأسيسا على ما سبق، فإنه يجب التأكد من إمكان الرؤية باستطلاع موقف المراصد الفلكية التي هي جهة الاختصاص العلمي في موضوع إمكان الرؤية أو استحالتها، وقد أفاد المشروع الإسلامي لرصد الأهلة أنه بالنسبة للدول التي لا تشترط رؤية الهلال، وتكتفي بالحسابات الفلكية، أو تكتفي بوجود القمر في السماء حتى ولو لم ير الهلال، فقد شهدت بداية ذي الحجة يوم الخميس 25 شتنبر 2014، أما بخصوص تلك الدول التي تبدأ شهر ذي الحجة بناء على رؤيتها المحلية وليس على رؤية غيرها، ومنها المملكة المغربية، فإعلان بداية شهر ذي الحجة كان يوم الجمعة 26 شتنبر، وهو ما يثبت صحة احتفال المغرب بعيد الأضحى يوم الأحد خلافا للفتاوى المصرية الأخيرة، ولهذا الاعتبار العلمي فقد نصح المهندس محمد شوكت العودة بالاقتداء بالنموذج المغربي الذي وصفه بأفضل دولة عربية إسلامية ترصد الهلال، وذكر أن المشروع الفلكي قيم نسبة الخطأ في مراقبة الهلال بالمغرب في الفترة ما بين 1984 و2007 فلم يجد ولو خطأ واحدا. إن مقتضى هذا التفصيل الذي ذكره هذا الخبير هو أن يعلن الذين يثبتون أوائل الشهور بناء على وقوع الاقتران للشعوب الإسلامية، أنهم يعتمدون الحساب الفلكي دون الرؤية البصرية، ليكون الناس بعد ذلك على بصيرة مما يقع، وحينئذ لا تكون هناك حاجة إلى انتظار الرؤية والإعلان عنها بعد مراقبة صورية لا معنى لها، لأنها غير منتظرة أصلا. ويؤيد ما أوردته من أن الهلال قد يوجد في السماء ولا يرى إلا متأخرا، فلا يعتبر وجوده في السماء بداية للشهر، أن العلماء بحثوا قضية متفرعة عن هذا الوضع، وهي رؤية الهلال خلال النهار، فذهبت فئة من الصحابة منهم عمر بن الخطاب وابن عمر وابن مسعود، وأنس بن مالك وعثمان رضي الله عنهم أن الهلال إذا رؤي في النهار اعتبر هلال الليلة القادمة، لأنه وإن وجد في السماء في الليلة السابقة ولم يكن بالإمكان رؤيته، فإن ظهوره في النهار لا عبرة به. فيحسب على الليلة الموالية. روى مالك في الموطأ أن الهلال رؤي زمن عثمان بن عفان بعشي، فلم يفطر عثمان حتى أمسى وغابت الشمس، وكان مالك يفتي أنه من رأى هلال شوال نهارا فإنه لا يفطر، ويتم صيام يومه لأنه هلال الليلة التي تأتي. [الموطأ: كتاب الصيام باب رؤية هلال الصوم والفطر في رمضان]. والخلاصة هي أن المغرب يجمع بين اعتبار الإمكان الفلكي القطعي، وتحقق الرؤية فعلا داخل ذلك الإمكان، وهو ما يعتبر وجيها لدى المسلمين بحكم الفقه، ومعقولا لدى غير المسلمين بحكم احترام مقررات العلم. وما دأب عليه المغرب هو ما أفتى به المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث الذي نص في الفتوى 8 من المجموعة الثانية من فتاواه على أنه: يثبت دخول شهر رمضان أو الخرج منه بالرؤية البصرية، سواء كانت بالعين المجردة أو بواسطة المراصد إذا ثبت في أي بلد إسلامي بطريق شرعي معتبر، عملا بالأمر النبوي الذي جاء به الحديث الصحيح: "إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا، وصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته". وهذا يشترط أن لا ينفي الحساب الفلكي القطعي إمكان الرؤية في أي قطر من الأقطار. فإذا جزم الحساب باستحالة الرؤية المعتبرة شرعا في أي بلد، فلا عبرة بشهادة الشهود التي لا تفيد القطع، وتحمل على الوهم أو الغلط أو الكذب، ذلك لأن شهادة الشهود ظنية. وجزم الحساب قطعي، والظن لا يقاوم القطعي فضلا عن أن يقدم عليه باتفاق العلماء. ولو أن الأقليات الإسلامية الموجودة في البلاد الغربية أخذت بهذا المعيار، ولم تعتمد على غيرها لما أصبح الصيام والفطر متباينا ومختلفا بين مسجد وآخر في المدينة الواحدة، وبين أفراد الجاليات المقيمة بالغرب. وبسبب اعتماد المغرب للرؤية المؤيدة بالإمكان الفلكي، لم يصدر عن أي مرصد تخطئة لرؤيته. إن المطلوب من الشعوب الإسلامية وهي تسعى إلى الاتفاق على بدايات الشهور، أن تحكم قاعدتي الرؤية الشرعية، والإمكان الفلكي، ومن أجل إثبات بداية الشهر القمري، فإنه لا بد من الإشهاد على الرؤية احتراما لمنطوق الأحاديث النبوية، كما لا بد أيضا من الاستظهار بإفادة علم الفلك، وجزمه بإمكان الرؤية، وأنها غير مستحيلة.